الفصل السادس: كفاية الله في ذاته
علّمنا يا رب أنك لست بحاجة لشيء، فلو أنك بحاجة إلى شيء لكان ذلك الشيء مقياس عدم كمالك، وكيف نعبد من ليس كاملاً. وإذا لم تكن بك حاجة لشيء ما فليست بك حاجة لأحد، وبالتالي ليست بك حاجة لنا. إنك تطلبنا مع أنك لست بحاجة لنا. أما نحن فنطلبك لأننا نحتاجك، لأننا بك نحيا ونتحرك ونوجد. آمين.
قال الرب: "الآب له حياة في ذاته"، ومن مميزات تعاليمه أنه يقرر في عبارة مختصرة حقائق بالغة في العلو حتى أنها تفوق كل ما يمكن للعقل البشري أن يصل إليه –قال أن لله الكفاية في ذاته، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى-
فكل كنه الله موجود في ذاته، وكل حياة هي فيه ومنه، سواء أكانت في أدنى صورها من حياة غير واعية أو في أرقى صورها من حياة الملائكية العاقلة الواعية جداً لذاتها. فليس من مخلوق له حياة في ذاته، إذ الحياة عطية من عند الله.
وعلى العكس من ذلك فإن حياة الله ليست عطية من آخر. ولو أن هناك من يستمد الله عطية الحياة منه، أو أية عطية أخرى، فإن ذلك الآخر يكون هو الله حقاً. وهناك طريقة بدائية ولكنها صحيحة نفكر بها عن الله وهي أن نتصوره كمن يحوي الكل، ومن يَمنح كل ما يُمنح، أما هو فلا يقبل شيئاً لم يعطه هو أولاً.
وإذا ما سلمنا بأن لله حاجة ما فمعنى ذلك تسليمنا بأن هناك نقصاً في الله –فكلمة الحاجة هي كلمة بشرية ولا تقال عن الخالق. فالله له علاقة طوعية إرادية بكل ما خلقه. ولكن ليست به علاقة عن ضرورة وحاجة بأي شيء خارج عن ذاته. إن لذّاته مع خلائقه تنبع من مسرته سبحانه وتعالى، وليست من حاجة تفي بها هذه الخلائق، ولا من كمالات تؤديها لمن هو كامل في ذاته.
ومرة أخرى يلزم أن نعكس مجرى أفكارنا العادي من محاولة لتفهم ما لا نظير له، وما هو حق فريد في هذا المجال وليس في سواه. إن عادتنا جميعاً في التفكير تعترف بوجود حاجة في المخلوقات. فليس شيء كاملاً في ذاته، بل هو يحتاج إلى شيء خارج عنه لتكتمل له أسباب الحياة. فكل المخلوقات التي تتنفس تحتاج إلى الهواء، وكل جسم حي يحتاج إلى الغذاء والماء. فلو أنك استبعدت الهواء والماء من على وجه الأرض لانعدمت الحياة حالاً ويمكن أن نقرر هنا إحدى البديهيات وهي أن كل مخلوق حي يحتاج شيئاً مخلوقاً آخر لكي يحيا، وكل المخلوقات تحتاج الله. أما الله وحده فلا حاجة به لشيء.
والنهر يزداد عن طريق روافده. ولكن أين هي الروافد التي تزيد من ذاك الذي منه أتى كل شيء والذي تحيى كل المخلوقات من ملئه غير المحدود.
أيها البحر الزاخر الذي لا يسبر غوره.
كل الحياة هي منك
أما حياتك فهي وحدتك السعيدة.
فريدريك و. فايبر
ولن يزال الغرض الذي من أجله خلق الله العالم يشغل بال المفكرين. على أننا إذا كنا نجهل الغرض فعلى الأقل نعلم أنه لم يخلق العالمين ليفي بحاجة في نفسه، كما يبني الإنسان بيتاً مثلاً ليحتمي به من برد الشتاء أو كمن يزرع حقله قمحاً ليحصل على ما يحتاجه من طعام. فكلمة ضرورة أو حاجة غريبة عن الله.
وبما أنه هو الكائن الأعلى على الكل فهو بالتالي غير قابل للرفعة إذ ليس من يعلو عليه ولا شيء بعده، وكل مخلوق يتحرك نحوه يرتفع بالضرورة، وكل ابتعاد عنه هبوط ونزول. وهو في مكانته بنفسه وليس بسماح من سواه. وكما أنه ليس من يرفّعه فكذلك ليس من يخفضه، وكما هو مكتوب أنه حامل كل الأشياء بكلمة قدرته فكيف إذن يرفع، أو كيف يسنده من هو حامله.
ولو افترضنا أن كل الناس أصيبوا بالعمى فجأة فإن الشمس سوف لن تقف عن الإشراق نهاراً ولا النجوم عن لمعانها ليلاً، إذ أن هذه لا تعتمد في شيء على الملايين الذين يفيدون من نورها. وهكذا لو أن كل إنسان على وجه البسيطة أصبح ملحداً فلن يؤثر ذلك في الله في شيء. فالله هو الله بذاته بغض النظر عمن عداه وإيمان الناس به لن يزيد شيئاً إلى كمالاته، كما لا ينقصه شيئاً الشك به وعدم الإيمان به.
فهو الله القدير لأنه قدير وحسب ولا يحتاج إلى دعامة. أما صورة إله سريع الانفعال، مستعطف، يتملق الناس ليكسب رضاهم فهي صورة لا تسر أبداً، ولكننا إذا ما تأملنا الفكرة السائدة عن الله فهي صورة تنطبق تماماً على ما أسلفنا. لقد جعلت مسيحية القرن العشرين من الله من يستحق الإحسان, فأفكارنا عن نفوسنا عالية بدرجة أننا نجد من السهل علينا, بل من الممتع لنا, أن نعتقد أننا لازمون لله. ولكن الحقيقة هي أن الله لا يزيد بوجودنا ولن ينقص بزوالنا. إن وجودنا لا يمكن أن يعزى إلا إلى مشورة الله المحتومة وليس إلى استحقاقنا أو إلى حاجة في الله إلينا.
ولعل أصعب فكر تحتمله أنانيتنا الطبيعية هي أن الله لا يحتاج معونة منا. وغالباً ما نصوره بصورة الأب المشغول, المتحمس, الدائم البحث عن معين لتنفيذ خططه الخيرية لإتمام السلام والخلاص للعالم. ولكن الله كما قالت السيدة جوليان: "رأيته يعمل كل شيء مهما كان صغيراً أو عظيماً." فليس من شك في أن الله الذي يعمل كل شيء لا يحتاج معونة ولا معين.
إن الكثير من الدعوات التي يقدمها المبشرون تقوم على هذه الصورة التي يتخيلونها لله القدير وقد خاب أمله. ويستطيع الخطيب المفوّه أن يثير في سامعيه عواطف الشفقة, ليس فقط الشفقة على الوثنيين بل على الله الذي حاول مراراً وتكراراً ولزمن طويل, أن يخلصهم ولكنه لم ينجح في ذلك لأنه لم يحصل على المعونة اللازمة. وإني أخشى أن آلاف الشباب قد انخرطوا في الخدمة المسيحية لا لسبب إلا لكي يعاونوا في إنقاذ الله من الورطة التي أوقعته فيها محبته والتي تبدو موارده المحددة عاجزة عن تخليصه منها. أضف إلى ذلك قدراً من المثل العليا الحميدة وقدراً لا بأس به من الشفقة على من هم أقل حظاً تحصل على القوة الدافعة وراء كثير من النشاط المسيحي اليوم.
نقولها ثانية أن الله لا يحتاج إلى من يدافعون عنه فهو السرمدي الذي لا يدافع عنه. وهو يستخدم كثيراً من الألفاظ الحربية كما أعلنه الكتاب المقدس ليتحدث إلينا بمصطلحات نستطيع فهمها, ولكن من البديهي أنه لم يقصد لنا أبداً أن نتصور أن عرش الله في الأعالي واقع تحت الحصار وميخائيل وجنوده أو كائنات سماوية أخرى تقوم بالدفاع عنه حتى لا يطاح به. فإذا ما بلغ بنا سوء الفهم لهذه الدرجة استعصى علينا فهم أي شيء يعلمنا إياه الكتاب المقدس عن الله. فلا اليهودية ولا المسيحية توافق على أفكار صبيانية سخيفة كهذه. فإله يجب حمايته هو إله لا يستطيع مساعدتنا إلا إذا ساعده أحد. ويمكننا أن نتكل عليه فقط إذا ما انتصر في الحرب التي تدور رحاها سجالاً بين الصواب والخطأ. إن إلهاً كهذا لا يمكن أن يظفر باحترام أناس عقلاء، يمكنه فقط أن يثير شفقتهم عليه.
ولكي تكون في جانب الصواب يجب أن يفكر عن الله أفكاراً تليق به ومن الضروري جداً أن نطهر أفكارنا من كل فكر منحط عن الله, وأن يكون الله في أفكارنا كما هو في الكون الذي خلقه. فالديانة المسيحية تتعلق بالله والإنسان. وكل دعوى الإنسان الوحيدة لأن يكون مهماً تنحصر في كونه قد خلق على صورة الله, أما الإنسان في ذاته فلا شيء. والمرنم في المزامير وكذلك الأنبياء في الكتاب المقدس يشيرون في تهكم لاذع إلى الإنسان الضعيف الذي في أنفه نسمة حياة, الذي ينمو كالعشب في الصباح ثم يجز فييبس قبل غروب الشمس. والكتاب المقدس يعلمنا بكل جلاء وقوة أن الله قائم بذاته وأن الإنسان قد خلق لمجد الله. ومجد الله العلي هو أولاً في السماء كما سيكون كذلك الأرض.
من كل ما تقدم نستطيع أن نفهم لماذا يتحدث الكتاب المقدس كثيراً عن الأهمية الحيوية للإيمان وكيف يعتبر الكتاب عدم الإيمان كخطية مميتة. إن أي خليقة من خلائق الله لا يمكنها الاعتماد على نفسها. الله وحده هو الذي يعتمد على ذاته، وكل الخلائق تعتمد عليه. فعدم الإيمان هو فعلاً إيمان معكوس إذ معناه الاتكال على إنسان مائت دون الله الحي. فغير المؤمن ينكر كفاية الله في ذاته ويغتصب لنفسه صفات ليست له. وهذه الخطية المزدوجة تهين الله وتنتهي بتدمير نفس الإنسان.
لقد جاءنا الله في المسيح شفقة بنا ومحبة. هذا ما علمته الكنيسة منذ أيام الرسل وقد أثبت ذلك في عقيدة ظهور الابن السرمدي في الجسد وكان ظهور جلال اللاهوت العظيم تحت غلاف الطبيعة البشرية رحمة منه وحفاظاً على البشر، ولنذكر ما قاله لموسى على الجبل: "اذهب انحدر ... وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم." وقال كذلك: "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش".
ويبدو أن المسيحيين اليوم يعرفون المسيح حسب الجسد، فيحاولون أن يحصلوا على الشركة معه بتجريده من قداسته الآكلة وجلاله الذي لا يدنى منه، وهي الصفات التي حجبها عندما كان على الأرض ولكنه اتزر بها في كمال مجدها عند صعوده إلى يمين الآب فمسيح الديانة المسيحية الشائعة ذو ابتسامة باهتة وهالة من النور، فغدا يشار إليه بأنه المرتفع الذي يحب الناس، أو على الأقل بعض الناس، وهؤلاء الناس شاكرون وإن كانوا غير متأثرين بهذه المحبة. فإذا ما احتاجوه فإنه يحتاجهم كذلك.
ولا تطنن أن حقيقة كفاية الله في ذاته تشل النشاط المسيحي، بل هي تزيد من كل اجتهاد مقدس. وهذه الحقيقة، إلى جانب كونها توبيخاً لاتكال الإنسان على نفسه، ترفع من عقولنا، إذ نستوعبها من وجهة النظر الكتابية، حمل الفناء والموت الثقيل وتشجيعنا على حمل نير المسيح الهين وعلى إنفاق أنفسنا في عمل مدفوع بالروح القدس لمجد الله وخير الإنسان. والخبر المبارك هو أن الله الذي ليست به حاجة إلى أحد قد تنازل، بإرادته العليا ليعمل في أبنائه المطيعين وبهم.
وإذا ما بدا ذلك وكأنه تناقض في القول - فليكن إذن كذلك، فإن عناصر الحق المختلفة تبدو دائماً متضاربة، وأحياناً تتطلب منا أن نؤمن بما يبدو تناقضاً في الظاهر بينما نحن ننتظر الساعة التي فيها نعرف كما عرفنا. عند ذلك ينفجر الحق لامعاً في وحدته بعد أن كان منقسماً على ذاته، سيبدو واضحاً أن ما كان تناقضاً لم يكن كذلك في الحق نفسه بل في عقولنا التي أفسدتها الخطية.
وفي الوقت عينه يكمن كمالنا الداخلي في طاعتنا الحبيبة لوصايا المسيح وتعاليم رسله الموحي بها. "لأن الله هو العامل فيكم". فهو لا يحتاج أحداً، ولكن إذا ما توفر الإيمان فهو يعمل بأي واحد. هذه العبارة تحوي عبارتين، وتتطلب الحياة الروحية السليمة أن نقبل كلا العبارتين، بعد أن احتجبت العبارة الأولى عن إفهام الناس طوال جيل من الزمان، وأدى ذلك إلى ضرر روحي بليغ:
يا نقع كل صلاح، كل بركة تفيض
منك. ولا يعرف امتلاؤك نقصاً
فماذا يمكن أن ينقصك الإله
ومع ذلك فأنت المكتفي في ذاتك
تطلب قلبي الذي لا قيمة له
هذا هو ما تطلبه وليس سواه
جوهان شفلر Johann Sheffler
- عدد الزيارات: 1470