الفصل الأول: لماذا يجب أن يكون تفكيرنا عن الله سليماً
أيها الرب الإله القدير، لا إله الفلاسفة والحكماء بل إله الرسل والأنبياء، وفوق كل شيء، يا أبا ربنا يسوع المسيح، أتسمح لي أن أقوم غير ملومٍ بالإفصاح عنك؟
إن الذين لا يعرفونك قد يدعونك بما لا يتفق مع كنهك، ولذلك فهم لا يعبدونك بل هم يعبدون مخلوقاً أبدعته تصوراتهم، فأنر اللهم بصائرنا لكي نعرفك كما أنت فنحبك محبة كاملة ونحمدك كما يليق.
إن ما يتبادر لذهننا عندما نفتكر في الله هو أهم شيء عن أنفسنا.
ولعل تاريخ الجنس البشري يظهر بأنه ما من شعب ارتفع فوق مستوى ديانته، كما أن التاريخ الروحي للإنسان يظهر بكل جلاء ووضوح أنه ما من ديانة ارتفعت فوق مستوى فكرتها عن الله. فالعبادة تكون طاهرة أو منحطة بقدر ما تكون أفكار العابد عن الله.
ولذلك فإن أخطر سؤال يواجه الكنيسة هو دائماً الله نفسه وأشنع حقيقة عن أي إنسان ليست ما يقوله أو ما يعمله في وقت من الأوقات، بل هي في ما يكنّه في قرارة نفسه عن كنه الله، ونحن ميّالون وفقاً لناموس نفسيّ خفيّ إلى السير نحو الصورة الفكرية التي نرسمها لله. وهذا لا يصدق على الفرد المسيحي فحسب بل على الجماعة المسيحية التي تتكون منها الكنيسة. وهكذا فإن أفصح شيء عن الكنيسة هو فكرتها عن الله، كما أن أعظم رسالة لها هي ما تقوله أو ما لا تقوله عنه، فكثيراً ما يكون صمتها أبلغ من كلامها، فهي لا يمكن أن تتحاشى الإعلان عن نفسها فيما تشهد به عن الله.
ولو أننا استطعنا أن نستخلص من أي إنسان جواباً شافياً عن السؤال: "ماذا يتبادر لذهنك عندما تفكر في الله؟" لأمكننا أن نجزم بالمستقبل الروحي الذي ينتظر ذلك الإنسان، ولو أننا استطعنا أن نستطلع على وجه التدقيق أفكار قادتنا الدينيين المرموقين اليوم عن الله لأمكننا أن نتنبأ بشيء من الدقة بما ستكون عليه الكنيسة في الغد.
وبما لاشك فيه أن أقوى فكر يمكن أن يستوعبه العقل البشري هو فكر الله، وأن أقوى كلمة في أية لغة هي كلمة الله. والفكر والنطق هما عطية الله للمخلوقات التي عملها على صورته تعالى، وهما متّصلان به اتصالاً وثيقاً ويستحيل وجودهما بدونه. ومما يجدر ملاحظته جداً أن أول كلمة كانت هي الكلمة "وكانت الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله". ونحن نتكلم لأن الله تكلم. فالكلمة والفكرة فيه تعالى ولا يمكن فصلهما الواحدة عن الأخرى.
ومن الأهمية بمكان عظيم لنا أن تكون فكرتنا عن الله متفقة قدر الإمكان مع طبيعة كنه الله. وإن ما نقرره من حقائق في قانون إيماننا ليس مهماً كثيراً إذا ما قيس بأفكارنا الفعلية عنه.
إن الفكرة الحقة عن الله قد تكون مدفونة تحت أنقاض أفكار دينية تقليدية، وقد تحتاج إلى بحث واعٍ قوي لاكتشافها وتعريتها للفحص. ونحن نحتاج إلى سَبر مؤلم لأغوار نفوسنا إذا ما أردنا أن نكتشف إيماننا الفعلي بالله.
إن الفكرة الحقة عن الله أساسية جوهرية ليست فقط لمعرفة لاهوتية نظامية بل للحياة المسيحية العملية. فهي لازمة للعبادة لزوم الأساس للهيكل، فإذا ما كانت قاصرة أو غير متّزنة فلا بد أن يتداعى البناء كله يوماً ما. وأنا أؤمن أن ما من خطأ في التعليم أو قصور في تطبيق المبادئ الأخلاقية المسيحية إلا ويرجع في الأصل إلى أفكار قاصرة أو منحطة عن الله.
وفي رأيي إن الفكر المسيحي السائد في منتصف القرن العشرين عن الله لهو فكر متدهور لدرجة لا تليق لعظمة الله العلي وهو يشكل نكبة أخلاقية للمؤمنين الذين يعترفون بالله.
ولو أن مشاكل السماء والأرض تجمعت سوياً وواجهتنا في وقت واحد لكانت شيئاً يسيراً إذا ما قيست بمشكلة الله الهائلة: أي أنه موجود، وعلى أية صورة هو، وما هو واجبنا كخلائق مسؤولة بإزائه.
والإنسان الذي يتوصل إلى الإيمان الحق بالله يعتق من عشرات الآلاف من المشاكل الزمنية لأنه يعرف لأول وهلة أن هذه تتعلق بمسائل وقتية لا يمكن أن تختص به لوقت طويل. وحتى لو رفعت عنه كل الأحمال الزمنية، وما أكثرها، فإن الحمل القوي الوحيد، حمل الأبدية، لا يزال يجثم على صدره بثقل يفوق جداً كل أهوال العالم وإن تجمعت هذه الواحد فوق الآخر، هذا الحمل الهائل هو دينه لله وهو يعني واجبه أن يحب الله كل أيام حياته من كل قوّته ومن كل فكره ومن كل نفسه وأن يطيعه طاعة كاملة وأن يعبده عبادة مقبولة. وعندما يقول الضمير المتعب للإنسان بأنه لم يعمل ولا واحدة من هذه كلها، بل لقد أجرم منذ طفولته بثورة ضد إله السماء فان وطأة لوم الضمير في داخله تصبح أثقل مما يحتمل.
إن الإنجيل يستطيع أن يرفع هذا الحمل المدمّر عن الفكر، وأن يعطي جمالاً عوضاً عن الرماد وثياب الحمد بدلاً عن الروح المنسحقة ولكن الإنجيل لا يعني شيئاً للإنسان حتى يشعر الإنسان أولاً بثقل الحمل، وعندما يبصر الإنسان الله العلي مرفوعاً عندئذٍ يختفي كل وجع وكل حمل . فالأفكار الوضيعة عن الله تدمر الإنجيل لكل شخص يعتنق هذه الأفكار.
وليس بين الخطايا التي يتعرض لها قلب الإنسان خطية أبغض إلى الله من عبادة الأوثان، فعبادة الأوثان في أساسها طعن في صفات الله. فالقلب الذي يعبد الأوثان يفترض أن الله ليس هو الله- وهذا في حد ذاته خطية خطيرة- ويستبدل بالإله الحق إلهاً مصنوعاً حسب تصوره هو. وهذا الإله يتفق دائماً مع صورة الشخص الذي ابتدعها وهو طاهر أو منحط، قاسٍ أو لطيف، حسب الحالة الخلقية للفكر الذي أخذ عنه.
والإله الذي ينشأ في ظلال قلب ساقط لا يمكن أن يكون بالطبيعة صورة حقّة للإله الحق. ولذلك يقول الله في المزمور للإنسان الشرير "ظننتَ أني مثلك". ولا شك أن ذلك إساءة خطيرة للإله العلي الذي أمامه تصرخ الكروبيم والساروفيم باستمرار قائلين: "قدوس قدوس قدوس رب الجنود".
فلنحترس لئلا نظن في كبريائنا مخطئين أن عبادة الأوثان ما هي إلا الركوع أمام أشياء ملموسة لعبادتها، وأن الشعوب المتحضرة لذلك بعيدة عنها، فإن عبادة الأوثان في جوهرها احتضان أفكار عن الله لا تليق به سبحانه وتعالى- وهذه الأفكار تبدأ في العقل وقد توجد حيث لا يكون هناك عمل ظاهر للعبادة، ولذلك يقول بولس: "لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي."
وبعد ذلك دخلت عبادة الأوثان في شكل البشر والطيور والوحوش والدبابات. ولكن هذه السلسلة من الأعمال المنحطة بدأت في العقل والفكر. وليست الأفكار الخاطئة عن الله هي المنبع الذي تجري منه مياه عبادة الأوثان النجسة فقط، بل هي عبادة الأوثان بعينها، فعابد الأوثان يتخيل تصورات عن الله ويتصرف كما لو كانت هذه حقيقة.
إن الأفكار المنحرفة عن الله سرعان ما تفسد الديانة التي تظهر فيها، وتاريخ العبرانيين الطويل يظهر ذلك بجلاءٍ كافٍ كما يؤيده تاريخ الكنيسة. فتكوين فكرة عالية عن اللاهوت لازمة جداً للكنيسة، فإذا ما تضاءلت هذه الفكرة بأية درجة انحطت معها الكنيسة وعبادتها ومعاييرها الأخلاقية. وأول درجة في سقوط كنيسة ما إنما هي في تفريطها في أفكارها العالية عن الله.
فقبل أن يخبو نور أية كنيسة في أي مكان تفسد تعاليمها اللاهوتية الأساسية. أي إنها بكل بساطة تجيب إجابة خاطئة عن السؤال: "كيف الله"، ومن هنا تنحدر. ومع إنها تظل متشبثة بقانون إيمان سليم اسماً، إلا أن قانون إيمانها المسلكي يغدو فاشلاً فعلاً. ويصبح إيمان أعضائها بالله مغايراً لما هو (أي الله) عليه فعلاً. وهذه ضلالة من أشر أنواع الضلالات وأخبثها.
وإن واجب الكنيسة المسيحية الأول والأهم اليوم هو تنقية أفكار الناس عن الله ورفعها عالية حتى تصير مرة أخرى لائقة به-وبها، بل يجب أن يحتل ذلك المقام الأول في صلواتها وجهادها. ونحن نؤدي أكبر خدمة للجيل الآتي من المسيحيين أذا نحن سلمناهم تلك الفكرة النبيلة عن الله غير معتمة وغير منقوصة، تلك الفكرة التي تسلمناها نحن من الآباء الأولين في العصور السالفة. وهذا أكثر أهمية لهم من كل ما يخترعه العلم والفن.
يا إله بيت إيل يا من بيدك
لا تزال ترعى شعبك
يا من في هذه الغربة الموحشة
قدت كل آبائنا
نقدم الآن نذورنا وصلواتنا
أمام عرش نعمتك
يا إله آبائنا كن إله
خلَفهم من بعدهم.
فيليب دودردج Philip Doddridge
- عدد الزيارات: 1648