إيمان العصاة -2
ذكرنا في بحثنا السابق بأن البعض يقولون أن هذه الأيام ليست بأيام الإيمان بل انها أيام العلم والعمل والجهاد في سبيل بناء عالم جديد. وقلنا بأن الذين اعتنقوا هذه الفكرة أو هذه الايديولوجية يقولون بأن نظرتهم هي علمية وموضوعية وموحدة للشخصية البشرية. وهكذا فإنهم يحكمون على الإيمان الديني أو على ما يحتويه الإيمان الديني بأنه غير موضوعي وغير علمي وغير موحد للشخصية البشرية.
قبل كل شيء نود أن نذكر اليوم في بحثنا هذا بأن إيمان أو معتقد العصاة أو الرافضين لا يمكن أن يكون علميا بحسب مفهومنا العصرى والحديث لماهية العلم. أن إيمان العصاة هو لا علمي بمعنى انه يتطلب الاستسلام التام لمبادئه الأولية وكأنها بديهيات منـزهة عن الخطأ. إيمان عصاة اليوم هو إيمان يبدأ من افتراضات سابقة : غير قابلة للبرهان في مخبر علمي على حسب الطريقة المتبعة في العلوم الطبيعية. ولذلك يمكننا الاستنتاج بأن الإيمان اللا ديني هو إيمان وان تستر بلباس العلم والموضوعية والعصرية.
ولابد لنا من الاشارة هنا إلى أن هذا المظهر المؤسف الذي نشاهده اليوم في عالمنا أي تلك الموجة العارمة من الرفض والانتقاض على الماضي وعلى التراث الديني يمكن تفسيره كما يلي :
1. لقد مال الإنسان منذ القديم نحو الصنمية أي أن الإنسان حاول منذ العصور القديمة بأن يفسر كل ما في الوجود باللجوء إلى تأليه بعض أبعاد الوجود فاله قوى الطبيعة أو الأجرام السماوية أو الحيوانات أو الإنسان ناسبا إلى هذه صفات المطلق. وهكذا فان ثورة الإنسان المعاصر على الوحي الإلهي وعلى الله الخالق، هذه الثورة ليست بأمر لم يحدث مثله في الماضي. ومع تشدق الرافضين والعصاة بأنهم لم يأتوا الا بأمور موضوعية أو علمية الا أنهم بالفعل قد جاؤوا بصنمية جديدة نسبت اليها صفات المطلق أي أن أفكارهم ونظرياتهم قد ألهت ولذلك ندعوها بصنمية القرن العشرين.
2. لابد لنا من الاعتراف أن العديدين من الذين يقولون عن انفسهم بأنهم يؤمنون بالله الخالق السرمدي لم يطبقوا إيمانهم في الحياة اليومية التي يحياها الإنسان بل نظروا إلى إيمانهم الديني وكأنه عبارة عن جو از سفر أو تأشيرة دخول إلى السماء أو النعيم. وبعبارة أخرى حدث طلاق فكري وحياتي بين المعتقد الديني والحياة اليومية التي يحياها الإنسان. وما أشرنا اليه حدث بصورة خاصة منذ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر فهذه الثورة الصناعية فاجأت الإنسان المتدين والذي كان لا يحيا بمقتضى مطاليب إيمانه الديني فاجأته وسط حياته الازدواجية التي كان يحياها وهكذا أتت إلى الوجود أمور عديدة مؤسفة ومحزنة وبشعة للغاية مثل التناقضات والمسأوىء والاحتكارات والاستغلال والاستعمار للشعوب التي كانت قد ضعفت بسبب عدة عوامل تاريخية لا نستطيع الاشارة اليها اليوم نظرا لضيق الوقت. وبكلمة أخرى نقول أن صاحب الإيمان بالله الخالق وبالوحي الذي أعطانا اياه الله لهوتحت مسؤولية ضخمة وهائلة في أيامنا هذه : عليه الا يكتفي بالكلام عن معتقده وإيمانه، عليه أن يطبق إيمانه في معترك الحياة اليومية. وهو أن لم يحيا إيمانه يكون جزءا من المعضلة العالمية التي نراها اليوم عوضا عن أن يكون من المساهمين على حل المعضلة العالمية.
3. والسبب الثالث لما نشاهده اليوم من موجة هائلة من الرفض والعصيان يعود إلى تفوق أنبياء الصنميات المعاصرة في نشر " دينهم الجديد " أو ايديولوجيتهم الجديدة ولمهارتهم في تسخير سائر وسائل النشر التي لم تكن معروفة في الماضي. فبينما كانت الافكار تأخذ عدة سنين للانتشار في أيام الماضي الا انها صارت تنتشر بسرعة هائلة في أيامنا هذه أيام الكتب والمنشورات والإذاعة والسفر من قارة إلى أخرى والذهاب إلى أقصى الأرض في طلب العلم وفي الحصول على المهارات التقنية اللازمة لحضارة اليوم.
ماذا يقدر أن يقوم به المؤمن بالله في يومنا هذا؟ هل يستطيع أن يتجاهل الجو الفكري المحيط به؟ هل يستطيع أن يعيش في صومعة روحية؟ هل عليه الاستقالة من مسؤوليته كمواطن القرن العشرين؟
الجواب على هذه الأسئلة وما يشابهها هو كلا! من المستحيل أن يكون المؤمن أمينا على إيمانه بالله وأن يستقيل من مسؤولياته تجاه عالم اليوم. عندما يلم المؤمن بحقيقة الأزمة العالمية الفكرية التي يمر بها مواطنوا القسم الأخير من القرن العشرين لابد له من القول لنفسه ولغيره من الذين يقولون بأنهم مؤمنون : على عدم الاكتفاء بإيمان وراثي محض، علي أن أسأل نفسي فيما إذا كان إيماني حيا! هل أنا بالحقيقة أؤمن بمحتويات إيماني؟ هل أعد حياتي بأنها تحت سيطرة الله وانني مسؤول عن الطريقة التي أحيا بها وعن معاملتي لأقراني بني البشر.
وهذا الإيمان الحي وتأثيره الفعال في حياة الإنسان ممكن اختباره اليوم عندما ننظر إلى السيد المسيح المخلص ممكن اختباره اليوم ونتوجه كسيد حياتنا المطلق. فبإيماننا بالله كما كشف لنا ذاته في السيد المسيح يدخل إلى حياتنا قوة فدائية تحريرية خلاصية. وإذ ذاك فاننا نبدأ بالعيش على اساس منطق ذلك الإيمان الحي والديناميكي، الإيمان الذي يساعدنا على العمل بكل جدية بمطاليب كلمة الله ومهما كانت كلفة ذلك كبيرة. وكلمة الله هذه تخبرنا بأننا لا نستطيع الكلام عن أمور الله والآخرة وحياة النعيم وعذابات الجحيم وغير ذلك من أمور ما فوق الطبيعة بدون أن نعير اهتماماً مماثلا وجديا لأمور دنيانا هذه والحياة التي نحياها وسط أيام القسم الأخير من القرن العشرين. هذه الحياة مهمة للغاية ومشاكلها مشاكلنا ونحن لا يجوز لنا التهرب منها مطلقا. ومع اننا لا نستطيع أن نقبل حلول العصاة والرافضين تلك الحلول التي ترفض كل شيء وتثور على كل شيء من أجل إنقاذ عالمنا، الا اننا لا نود أن نكون كمؤمنين أقل التزاما أو اهتماماً منهم. أزمة اليوم تتطلب منا العمل والجهاد في سبيل الله ومن أجل خير سائر أفراد البشرية!
- عدد الزيارات: 2367