Skip to main content

مشيئة الله في حياتنا

"أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" الإنجيل حسب متى 9:6 و10.

علّمنا السيد المسيح المخلص أن نصلي لله الآب قائلين: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض." فكروا قليلاً معي في معنى هذه الطلبة الثالثة من الصلاة الربانية! كلنا نعلم بأن مشيئة الله يعمل بها دوماً في السماء. ليس هناك ثوار على الله السماوي. وقد طلب منا المسيح بأن نصلي إلى الله لكي يصبح عالمنا هذا مماثلاً لديار النعيم !.

هل هذا حلم جميل لا يمكن تحقيقه ؟ هذا غير ممكن لأن السيد له المجد لم يكن ليعلمنا بأن نصلي إلى الله بخصوص أمر خيالي أو موضوع غير قابل للتحقيق في دنيانا. كلا أن الرب يسوع كان عالماً كل العلم بمعنى هذه الطلبة وهو يرغب من جميع المؤمنين به أن يصلوا قائلين: " لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض !" ولم يكتف المسيح بإعطائنا هذه الصلاة بل أنه مارس تعاليمها في حياته الخاصة. ألم يصلي في بستان الجثسيماني وظلّ الصليب مخيم عليه قائلاً: "يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ! " (متى 42:26) ؟.

لقد أطاع المسيح مشيئة الله بصورة تامة أثناء حياته على الأرض كما كان يعمل بمشيئة الآب قبل تجسده وهو في السماء. وإطاعة المسيح للآب إنما قادته في النهاية إلى الذهاب إلى الصليب حيث كفر عن خطايانا. وهكذا لم يكن هناك من ثمن ولم تكن هناك من تضحية إلا وكان المسيح على استعداد تام للقيام بهما إن كانت مشيئة الله تتطلب ذلك. لو لم يكن المسيح جاداً في هذه الصلاة لما صار لنا خلاصاً من الخطية !.

وقد قال مرة أحد الوعاظ المشهورين: أن الطلبة الثالثة من الصلاة الربانية هي صلاة مخيفة لغاية وليس هناك من صلاة مماثلة لها ! وقال أيضاً عنها بأنها صلاة "ثوروية" فقد يكون من السهل جداً لنا أن نتفوه بهذه الكلمات القليلة: لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، ولكن يجدر بنا جميعاً أن نتأمل في ما قد يحدث لنا إن أجاب الله هذه الصلاة. نعم لا بد من حدوث تغيير شامل في حياتنا بأسرها فيما لو أخذنا نعمل مشيئة الله ونحيا هنا على هذه الأرض كما يحيا سكان السماء من ملائكة وأبرار.

أتعلم ماذا يحدث لحياتك عندما يستجيب الله لهذه الصلاة ؟ إن عالم الخطية بأسره ينهار. وإن لم تكن على استعداد تام لقبول هذا الانقلاب في حياتك لا تستطيع أن تصلي بإخلاص بأن تتحقق مشيئة الله في حياتك على هذه الأرض كما تتم مشيئة الله في السماء بصورة طبيعية وبديهية ! لست أنت ملاكاً حتى تقوم بتتميم مشيئة الله بصورة طبيعية ولست من سكان السماء حيث يحيا الجميع إرادة الله. إنك وأنا وسائر الناس تحت تأثير الخطية وجميعنا نعيش في عالم خاطئ وهناك خلاف أساسي وجذري بين مشيئة الله تعالى ومشيئة الإنسان الخاطئ. ولذلك فعندما يبدأ الله بتتميم مشيئته في حياتك يقوم في نفس الوقت بطرد الخطية من قلبك وعقلك وقد لا يسرك هذا الأمر لأنك كنت قد اعتدت على القيام برغبات مشيئتك أنت لا مشيئة خالقك وإلهك ! ولذلك إن لم تكن مستعداً على قبول ثورة روحية شاملة في حياتك فمن العبث أن تصلي إلى الله قائلاً: لتكن مشيئتك !.

وما ذكرناه بخصوص الفرد الذي يوّد الاقتراب من الله والصلاة إليه تعالى قائلاً: لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ينطبق أيضاً على سائر المجتمعات البشرية. لنفرض أننا كعائلات نصلي إلى الله ونطلب منه بأن تتم مشيئته ضمن نطاق الأسرة، لنفرض أننا جادين في هذا الطلب، ألا تكون النتيجة _ أي استجابة الله لهذه الصلاة _ ليست أقل من تغيير شامل وانقلاب كامل في العلاقات العائلية وفي الأهداف العائلية وفي كل ما له علاقة بحياة الخلية الأساسية في المجتمع ! لنسأل أنفسنا فيما إذا كنا نود أن يأتي الله إلينا ويأخذ بزمام حياتنا ويجعلنا دوماً عاملين لمجده ولملكوته مدفوعين بمحبته بشكل مطلق ومظهرين محبتنا لبعضنا البعض بشكل عملي ! كم من مشكلة عائلية تزول من الوجود وكم من معضلة كانت تقض مضجع الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت تتلاشى بشكل تام عندما تتم مشيئة الله ضمن الأسرة على هذه الأرض كما تتم مشيئة الله دوماً في السماء !.

كيف نقف بشكل أكيد على مشيئة اللّه وكيف نقوم بالعمل حسب متطلباتها ؟ جيد جداً أن نقول أنّ جميع مشاكل حياتنا الفردية والعائلية والاجتماعية تجد حلها في القيام بمشيئة اللّه لعلم كعالمنا ولبشر واقعين في أسر الخطيئة والشر ؟ وإذا وقفنا على هذه المشيئة كيف نحصل على القوة والمقدرة لوضعها موضع التنفيذ ؟ إننا لا نبحث في موضوع نظري بل في أهم موضوع في حياتي .

فمع إننا لا نعلم كبشر جميع تفصيلات مشيئة اللّه إلا أننا لسنا في ظلام لأن اللّه تعالى قد أعلن الكثير عن مشيئته في الكتاب المقدس. ويمكننا القول بأن للّه قصداً واحداً رئيسياً بالنسبة إلى عالمنا الخاطئ ألا وهو فداء العالم وهو يجعل جميع أمور هذا الكون تسير بطريقة تتّفق مع هذا المقصد الرئيسي . مثلاً نقرأ في رسالة الرسل إلى مؤمني أفسس ما يلي عن مشيئة اللّه:

"إذ عرّفنا (أي اللّه تعالى) سر مشيئته ، حسب مرضاته التي قصدها فيه، لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات وما في الأرض." (1: 9و10)

وليس هذا بالمكان الوحيد الذي يذكر فيه مقصد اللّه الرئيسي إذ أن الكتاب بأسه إنما يبحث في هذا الموضوع.

فنحن نتعلم من الوحي الإلهي أن مشيئة اللّه هي فداء هذا العالم الذي سقط في الخطيئة. هذا هو الآن عمل اللّه الرئيسي ! نعم فداء وإنقاذ العالم هو أهم موضوع في برنامج اللّه تعالى. إننا قد نكون غير شاعرين بأهمية هذا الأمر ولكن الحقيقة الواقعة هي أن أهم عمل يقوم به اللّه هو تحرير العالم من عبودية الشيطان . ولذلك فإنه تعالى يقوم بتسيير جميع أمور التاريخ بهكذا طريقة حتى أن كل شيء يعمل معاً لإنجاز مهمة اللّه الفدائية-الخلاصية. ليست هناك أية قوة في الوجود تستطيع أن تصمد ففي وجه اللّه أو أن تجعل من برنامجه برنامجاً فاشلاً. أتريد أن تتأكد من هذا الأمر؟ اذكر كيف أن اللّه الذي صمّم على إنقاذ البشرية لم يحجم مطلقاً عن إرسال ابنه الوحيد إلى العالم وليس ذلك فقط بل إنه بذل السيد المسيح على صليب خشبي ليكون الفداء أمراً أكيداً وواقعياً. أتظن أن اللّه يسمح لمشيئته بأن تفشل! حتى الشياطين تعلم علم الأكيد أن قصد اللّه سيتم!

مشيئة اللّه ستتم في هذا العالم، ولكنك قد تكون مؤمناً ومع ذلك تجد صعوبة كبيرة في الصلاة لكي تتم مشيئة اللّه في حياتك! ربما تكون يد المنون قد لطمتك وهكذا سُلِبت أعز الناس إليك. ربما يكون المرض قد انقض عليك انقضاض الصاعقة فأقعدك عن عملك أو عن دروسك أو عن القيام عن واجباتك الحياتية. ربما تكون المشاكل العائلية تقض مضجعك ولا ترى باباً للنجاة منها. وهكذا لا بدّ أن تتساءل أحياناً: لماذا، لماذا يقودني اللّه في طريق الآلام والعذاب بينما يحيا آخرون ليسوا أكثر إيماناً مني في بحبوحة العيش؟ إن سؤال هكذا أسئلة لأمر مشروع طالما نسأل ونحن واقفون على منصة الأيمان. ومع أنه ليس من السهل لأي منا أن يجيب على هذه الأسئلة إلا أن اللّه قد أعطانا جواباً شاملاً مقنعاً: إنه يقول لنا بواسطة لكلمة وبإرشاد الروح القدس الذي أوحى بها:

"يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك. لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم اللّه كالبنين ! فأي ابن لا يؤدبه أبوه !؟ . . . كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيراً فيعطي للذين يتدربون ثمر بر للسلام." (العبرانيين 12: 5-7و11)

وبواسطة تأديب اللّه إنما تؤول حياتنا (مهما كانت ذات أهمية ضئيلة) إلى دعم برنامج اللّه لفداء هذا العالم. إننا قد لا نستطيع فهم ذلك ولكنه لكل منا مكان- مهما صغر شأنه- ضمن مشيئة اللّه الفدائية لهذا العالم. قد تكون مشيئة اللّه بالنسبة إلى كل منا أن نتألم أو نتعذّب أو نمرض أو نخسر أحباءنا وقد لا نفهم مطلقاً كيف يمكن أن تؤول هكذا أمور لمجد اللّه أو لتنفيذ خطته الخاصية في عالمنا، ولكننا لا نكون مخطئين مطلقاً ولا أعمياء ولا جهلاء أن شهدنا بكلامنا وبحياتنا بأن اللّه يعلم كل شيء ويعمل كل شيء حسناً ليس فقط بالنسبة للآخرين بل بالنسبة إلينا أيضاً.

يصلي المؤمن حتى في ساعة الحزن والألم والعذاب: لتكن مشيئتك وهو لا يرفع هذه الصلاة بطريقة آليّة ولا يكون مدفوعاً من قِبل فلسفة وثنية حتمية لا تستطيع إلا أن تُقر بما لا مفر منه. كلا، يسلّم المؤمن نفسه لإلهه المحب ويستسلم إلى مشيئته العليا التي ستتم في حياته لخيره ولخلاص الآخرين.

المؤمن يترك مقاليد حياته في يد اللّه ويجد تعزيته في يقينه بأن الذي عمل خلاصاً عظيماً من آلام الموت السيد المسيح سيستعمل آلامه وأحزانه لتنقية حياته ولجعله عضواً عاملاً في ملكوته وفي تتميم مشيئة تعالى، فتبقى صلاته دوماً: لتكن مشيئتك لا مشيئتي، آمين.

إهدِ نفسي يا يسوع عابرا وادي الدموع

في اضطرابات الحياة أنت صخر للنجاة

أنت هادى النفوع إهدِ نفسي يا يسوع

لك عِزٌّ واقتدار مسكت موج البحار

تخضع الأنواء لك والأراضي والفلك

يا مخلص الجموع إهدِ نفسي يا يسوع

حينام يدنو الختام وأرى شط السلام

افتح الصدر الرحيب واقبلنّي يا حبيب

وإلى تلك الربوع إهدِ نفسي يا يسوع

من كتاب الترانيم الروحية للكنائس الإنجيلية، بيروت. من نظم الأستاذ ابراهيم سركيس.

  • عدد الزيارات: 26520