Skip to main content

الفصل السادس: قصد الله في العصر المسيحي

كيف تستمر خدمة المسيح في عالمنا في هذه الأيام؟ كيف يواصل الله عمل الفداء في العالم؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين هي بشكل رئيسي في حضور الله في كنائسه وفي عمله من خلالها، فإن هذا ما يشهد به كتاب العهد الجديد. لا يعني هذه أن الله غير حاضر كخالق في العالم بطرق أخرى، بل أن المقصود هو أن النقطة المركزية لعمله هي وسط شعبه الذي هو الكنيسة. لقد لاحظنا أن عمل الله، في إعداده العالم لتلقي ذروة عمل الفداء في المسيح، كان ظاهراً في الطبيعة وفي التاريخ العام، لكنه كان يتركز في قصة بني إسرائيل، الشعب المختار. نرى الشيء ذاته في العصر المسيحي. يمكن للمؤمن أن يميز بعين الإيمان حضور الله في التاريخ وفي الطبيعة، لكن النقطة التي يتركز فيها عمله هي في كنائسه.

يتضح صدق هذا القول من تعاليم العهد الجديد التي تدور حول الكنيسة. دعا يسوع في بداية خدمته جماعة من الرجال ليتبعوه ولتتكون منهم نواة "حكم الله" الجديد الذي جاء يسوع ليقوم بإنشائه. وقال لتلك الجماعة أنهم "ملح الأرض" وأنهم "نور العالم" (متى 5: 13، 14). وفي سني حياته على الأرض درّب تلك الجماعة في مبادئ العمل المسيحي الجماعي. وفي الليلة الأخيرة التي سبقت موته وعد جماعته أنهم سيحصلون على الروح القدس الذي بواسطته سيظل هو والآب مقيمين باستمرار في تلك الجماعة بطريقة يستحيل على العالم أن يختبرها (يوحنا 14: 15- 20). وبعد قيامته أعطى كنيسته الأولى تعليمات ليتبعوها في سيرهم، وهي التعليمات التي تعتبرها كل كنيسة حقيقية ليسوع المسيح منذ ذلك اليوم أنها تعليمات مختصة بها. "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" (يوحنا 20: 21). "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (متى 28: 19- 20).

لقد وعد أتباعه بأنهم وهم يقومون بتنفيذ مهمتهم سيختبرون حضوره الدائم معهم حتى نهاية العصر المسيحي (متى 28: 20). كانت الخطة أن يتحقق حضوره بينهم بواسطة شخص الروح القدس (يوحنا 14: 18، قارن عدد 16). إن حضور الروح فيهم يبكِّت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة (يوحنا 16: 8- 11). إنه سيسلبهم قوة القيام بعمل حمل الشهادة لغفران الخطايا الذي أصبح الآن ممكناً بفضل آلام المسيح وقيامته (لوقا 24: 45- 59 وقارن أعمال الرسل 1: 8) وكانت هذه المواعيد تعني أنهم كانوا الشعب المختار الجديد وأداة قوة الله لإنجاز قصده الفدائي في العالم. "ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم" (يوحنا 15: 16).

نجد في سفر الأعمال شهادة متواصلة بأن الكنيسة الأولى احتلت مكانها في برنامج الفداء الإلهي. وإذ كان التلاميذ يشعرون بحاجتهم للقوة الإلهية اجتمعوا وصلوا معاً من يوم صعود المسيح حتى يوم الخمسين (أعمال 1: 14). ولما جاء يوم الخمسين حلّ الروح أيضاً بقوة، فامتلأ كل أفراد الكنيسة بالروح وابتدأوا يتكلمون برسالة الله بتوجيه الروح (أعمال 2: 1- 4). وإذ شعر بطرس بالتحدي وقف ليفسر ماكان يجري فأشار إلى وعد الله في العصر النهائي، "الأيام الأخيرة"، بأنه سيسكب من روحه على كل بشر وقال إن إظهار روح الله هذا هو إتمام لذلك الوعد (أعمال 2: 14- 18). كانت الشهادة قوية حتى أن ثلاثة آلاف نفس انضمت إلى المؤمنين في ذلك اليوم وحده (أعمال 2: 14). وفي الإصحاحات التالية من سفر الأعمال (أي الإصحاح 3إلى 7) قصة رائعة متصلة عن حياة هذه الجماعة الأولى من شعب الله بعد أن طهرت نفسها من الفساد الداخلي وتغلبت على المنازعات والانقسام، فقام من بينها أول شهيد مسيحي، وشهدت بقوة متزايدة لإنجيل المسيح ربنا.

لكن اختيار الله لم يقف عند حدّ هذه الجماعة الأولى بل امتد إلى جماعات أخرى مشابهة أصبحت بدورها نقطة التركيز لعمل الله في محيطها الخاص بها. لدينا مثل على هذا في الكنيسة التي قامت في أنطاكية. فبعد أن تأسست هذه الكنيسة من قبل لاجئين جاؤؤا بعد اضطهاد أورشليم، استطاعت أن تكسر الحواجز العنصرية وتقّدم الشهادة عن المسيح للأمم، ومارست ديانتها بغيرة وإخلاص حتى أنهم لُقبوا "بالمسيحيين"، وعملوا بإرشاد الروح القدس فارسلوا أول مرسلين في الحركة الجديدة إلى البلدان الخارجية (أعمال الإصحاحات 11 إلى 13). من الواضح أنهم اعتقدوا ان لديهم المأمورية والوعد اللذين أعطاهما يسوع للكنيسة الاولى في أورشليم.

إن سيرة بولس، المرسل الأمثل، تبين أنه كان يعتقد الكنائس الوسيلة الرئيسية لعمل الله المستمر في العالم. فبعدما أتم رحلته التبشيرية الأولى عاد أدراجه فمرّ بالمدن الهامة ليطمئن إلى أوضاع جماعات التلاميذ غيها ويوجههم ليقيموا لهم مرشدين، فكان بولس يفهم مركز تلك الجماعات الهام بالنسبة لشهادة المسيح (أعمال 14: 21- 23). وكان في رحلاته التالية يمر بهذه الكنائس نفسها ليشددهم ويشجعهم قبل أن يواصل السير إلى مراكز جديدة لتبشير تلاميذ جدد وإقامة كنائس جديدة. كتب بولس رسائله إلى كنائس فردية أو إلى مجموعات من الكنائس، إذ كانت لهذه المجموعات قضايا متشابهة، وذلك ليساعدهم ليكونوا وكلاء أمناء لإنجيل المسيح. كان يعتقد أن كل كنيسة بمفردها هي "جسد المسيح" (قارن رومية 12: 5)، وأنه مهما كانت حال الكنيسة بالنسبة للخطية فهي تظل تعتبر "كنيسة الله" (1كورنثوس 1: 2). هذه لا يعني التساهل مع الخطية، فالوضع الخاطئ يجب أن يصحح. لكن الكنيسة مع ذلك تظل كنيسة الله وتظل جسد المسيح، وتظل التجسد المستمر للمسيح في العالم والوسيلة الأولى لعمل الله في المحيط الذي تقع فيه.

هذا الحق لا يزال قائماً قي أيامنا، فكنائس الله هي الوسيلة الأولى والرئيسية التي يستخدمها الله لفداء العالم. أحياناً يصعب على المرء أن يصدق قولاً كهذا. هناك كنائس غارقة في الروح العالمية، وكنائس شقها النزاع بين أعضائها، وكنائس تركت التعليم الصحيح واتبعت الضلال، وكنائس أمست غير مبالية بخلاص العالم. وقد يبدو لمن هم ضعفاء في الإيمان أن علينا أن نفتش بعيداً عن الكنيسة لنرى يد الله تعمل في العالم. لكن الأنموذج الذي في العهد الجديد لا يزال قائماُ في أيامنا. إن كنا نريد أن نرى الله يعمل في العالم فعلينا أن نتطلع إلى خدمة كنائسنا. فكل كنيسة لا تزال "جسد الله"، أو على الأقل، إن هذا ما يجب أن تكون عليه كل كنيسة. هذا هو اختيارنا، وهذه هي دعوتنا من الله. أما إذا فشلت في إتمام هذه المهمة، ونظرنا إلى دعوتنا كما لو كانت لكسب الامتيازات لا لحمل المسؤولية، فإن اختيارنا سيسحب مثلما حسب اختيار إسرائيل. لا تستطيع أي كنيسة أن تعتبر نفسها كما لو أن الله لا يستغني عنها. ولكن إن كان الله يرفض من الخدمة بعض الكنائس فإنه سيقيم غيرها لإتمام عمله. إنه يختار كنائس أخرى لهذه الغاية. هذا ما يشهد به التاريخ كما يشهد به العهد الجديد.

دعونا نصر على هذه الحقيقة، ولكن يجب ألا ننسى أن الله، مع عمله رئيسياً بواسطة كنائسه، يعمل أيضاً بطرق أخرى. يحدث أحياناً، ولاشك، أن يكون لحياة فرد ما تأثير فدائي كبير في العالم. لنا أمثلة على ذلك في أيام العهد الجديد في حياة بولس وبطرس وغيرهما. وفي التاريخ أمثلة أخرى مثل مارتن لوثر وجون كَلفن ووليم كاري. من المحتمل أن الله في أيامنا اختار بعض الرجال ليتمموا قصده خاصاً. غير أن خطة الله المعتادة للفداء هي أن يستخدم حياة الفرد وأن يجري ذلك من خلال الخدمة التي تقدمها الكنيسة المحلية. ولاشك في أن العهد الجديد لا يذكر قط أن أي مسيحي تجاهل الشركة مع المؤمنين الآخرين في خدمة الله. بل نجد أن القادة الكبار كانوا يوجهون جهودهم نحو تشديد تلك الجماعات المفدية والفدائية الأولى وتقويتها. كما أن حياة الرجال العظام في التاريخ كان يظهر تأثيرها الأعظم عندما كانت خدمة أولئك العظام تُجرى من خلال الجماعات المحلية لشعب الله في زمنهم. إن وصية بولس التي يعظ بها أهل فيلبي تظل صالحة لتأخذ بها كل مجموعة مسيحية، وهي الوصية القائلة: "عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح حتى إذا جئت ورأيتكم أو كنت غائباً أسمع أموركم أنكم تثبتون في روح واحد مجاهدين معاً بنفس واحدة لإيمان الإنجيل" (فيلبي 1: 27).

إن ما قلناه من أولية الكنائس وأهميتها لا يعني أن نتخلى عن اعتقادنا بأن الله عامل في التاريخ أيضاً. صحيح أننا لا نقدر دائماً أن نميز اصبع الله في حركات التاريخ وأحداث الزمن، ولكننا نستطيع أن نثق بأن الله لا يزال يحكم العالم لمقاصد فدائية. في بعض الأحيان نستطيع أن نثق بأن الله لا يزال يحكم العالم لمقاصد فدائية. في بعض الأحيان تستطيع عيون الإيمان أن تميز المغزى الفدائي في أحداث الماضي. حقاً إن بعض الأحداث كانت عظيمة الأهمية لتقدِّم المسيحية حتى أنه لا يعجز عن رؤيتها إلا الأعمى. فانتقال مركز المدنية إلى الغرب، وقيام الولايات المتحدة، وانحلال الحضارة الوثنية، كل هذه كان لها قسط كبير في تهيئة الطريق للوعظ بإنجيل يسوع المسيح. ولدينا التأكيد بأن الله الحي هو القوة الخلاقة التي تعمل في التاريخ من خلف الستار والتي جعلت الأحداث تحدث. وحتى أحداث الزمن الحاضر مثل ظهور البلدان الإفريقية وقيام الثورات الإجتماعية في العالم وضمور العالم ليصبح مجتمعاً واحداً، كل هذه لها مغزى فدائي. يستطيع المرء بعين الإيمان أن يرى طرقاً تكون بها حركات التاريخ ثورية حقاً في فداء الإنسان. لكن المؤمن لا يقدر، بل يجدب ألا يحاول تفسيركل حادث فردي، إذ أن تمييزه غير كامل حتى أنه في نهاية المطاف لا يشجعه إلا على الاعتقاد بأن الله حقاً يعمل في العالم. إنسان الإيمان يكتفي بإيمان كهذا ويواجه المستقبل غير هياب بفضل ثقته بحضور الله الخلاق في نظام العالم.

يعلم المؤمن أيضاً أن الحركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مهما كانت واسعة ومفيدة، لا تقدر في ذاتها أن تكون ذات أهمية فدائية كبرى. فلو ساد السلام العالم ولم يعد أي تهديد بالحرب، وزال كل فقر وعم الرخاء البشر، وزال كل حقد وتحامل من بين الناس وأصبح الجميع متساوين، فهذا في ذاته غير كاف لخلاص نفس واحدة. تخلص نفس الإنسان بسماعها كلمة الإنجيل. أما الأحوال الطيبة التي ذكرت فتساعد على فتح الطريق للوعظ بالإنجيل ولتقديم الخدمة التي تقوم بها كنائس يسوع المسيح في كل العالم. لهذا السبب نجد كل مؤمن يرجو بإخلاص ويصلي ويعمل لكي تجري تغييرات نحو الاتجاه الصحيح في نظامنا الاجتماعي.إلا أن التشديد الأعظم يجب ألا يكون على هذه التغييرات. إن كنا نبغي المشاركة في عمل الله الفدائي فيجب علينا أن ننخرط في الخدمة الفعالة التي تقوم بها كنائس الله في العالم.

يجب علينا، ونحن نبحث في الوسائل، ألا ننسى قصد الله في عصرنا. فهو يسعى لخلاص الناس، وهذه هو اهتمامه الأول الذي يفوق كل اهتمام آخر. إن خدمة يسوع المسيح النهائية الكاملة قدمت الخلاص فأصبح متاحاً لكل العالم.وإن القصد من عمل الله المستمر في العالم هو تحقيق هذا الخلاص عملياً لأكبر عدد ممكن من الناس. فالله، بحسب إيمان العهد الجديد، لا يريد أن أحداً يهلك (2 بطرس 3: 9). لقد رأى بطرس في هذه الحقيقة تفسيراً لتأخر مجيء المسيح ثانية. بل نجد في هذه الحقيقة نفسها سر كل ما يعمله الله في عالمنا هذا. إن هذه الحقيقة ذاتها تتحدانا لنثبت متمسكين بإيماننا ونحيا هكذا فبحضور الله الدائم الخلاق في العالم. إننا نواجه التحدي لنبحث عن مكان الخدمة حيث يستطيع الله استخدام حياتنا حسب قصده. إننا مدعوون لنتحد بعضنا مع بعض في حياة الكنيسة عاملين على إقامة لك النوع من الكنائس الذي يصلح لأن يكون قنوات تجري بواسطته قوة الله. أننا مدعوون لنكون أمناء الله، ساعين لإتمام القصد الأول من وجودنا في العالم- إلا وهو خلاص الأرض وكل الساكنين فيها.

  • عدد الزيارات: 3850