Skip to main content

الفصل الثالث: قصد الله في تاريخ العالم

ما معنى التاريخ؟ وأين السبيل إلى فهمه؟ هذان السؤالان أشغلا أفكار المؤرخين منذ القدم، منذ حاول الإنسان، لأول مرة، أن يفهم مغزى سير الأحداث التي كانت تحيط به. ظهرت أجوبة عديدة عن السؤالين. وجد بعض الناس الجواب في عوامل يصعب تحديدها، فنسبوا أحداث التاريخ إلى المصادفة أو الصواب أو الحظ أو القانون أو النظام الأدبي أو المصير أو الضرورة. وظنّ آخرون أن المفتاح لفهم التاريخ هو في عوامل طبيعية كالعِرق أو الجغرافيا أو علم الأحياء أو علم الاقتصاد. أما الكتاب المقدس فيرى الحلّ في قصد الله. لم يكن كتّاب الكتاب المقدس كتبة تاريخ بقدر ما كانوا كتبة "لاهوت" التاريخ. وبينما لا نتجاهل العوامل الطبيعية نظلّ نرى أن العامل الحاسم الخلاّق في كل التاريخ هو الله.

"لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه" (غلاطية 4: 4). في هذه العبارة الصغيرة وحدها يجمع بولس إيمان الرسل والأنبياء بحضور الله الخلاّق في مجرى التاريخ. إنه يؤكد أن لكل حقب التاريخ التي سيقت مجيء المسيح معنى مركزياً واحداً- فقد كانت تسير نحو نقطة سبق تعيينها، نحو اليوم الذي فيه يتمّ الزمان ويرسل الله ابنه إلى العالم ليفديه من الخطية. ولم يعتقد بولس أن سير التاريخ ذاك كان عبارة عن حوادث جرت على سبيل الصدفة فأنتجت أحوالاً ملائمة لانطلاق الحركة المسيحية. لقد آمن أن الله هو محرّك التاريخ وأنه الفكر الذي يوجّهه، فهو يسيطر عليه بقوته وإتماماً لقصده، وهذا القصد هو خلاص الإنسان.

عندما نقول أن الكتاب المقدس يتضمّن "لاهوت" التاريخ فنحن إنما نغلو في القول قليلاً. فالقول بلاهوت التاريخ قد يعني أن شخصاً ذا حكمة شرح بأسلوب منظّم علاقة الله بالأحداث العالمية. ليس هذا واقع الحال في الكتاب المقدس. ربما نكون أكثر دقة لو قلنا أن لدينا معطيات أو معلومات قليلة يمكن اتخاذها أساساً لوضع علم لاهوت للتاريخ قابل للتعديل. إن كتّاب الكتاب المقدس لم يحاولوا كتابة تاريخ العالم. فكثير من الحوادث والحركات التي حظيت باهتمام كبير من قبل كتّاب تاريخ العالم لم يُذكر قط في الكتاب المقدس. وعندما يرد ذكر الأمم في الكتاب فذلك لأنها تتصل بعمل الله الفدائي. فلنا إذن، أن نشكل لأنفسنا علم لاهوت التاريخ مستندين إلى ما جاء في الكتاب المقدس من تصريحات وما سجّل من حوادث معيّنة تظهر فيها يد الله. إن قصدنا من هذا الفصل هو الاستقصاء عن معنى التاريخ بوصفه المجال الذي جرى فيه عمل الفداء الإلهي، أي أن نشكل "علم لاهوت" للتاريخ وأن نبيّن الرابطة التي تربط خط سير الشؤون البشرية وعلاقتها بحركة الفداء الإلهي.

إن علينا أن ننتبه إلى أن جهداً كهذا لهو محاط بالخطر وعرضة للتساؤل إذ ليس هناك ما يثبت أن لله أية يد في حادث معيّن من حوادث التاريخ. يده تُرى فقط بأعين الإيمان، أما غير المؤمنين فقد يفسرون كل حادث في التاريخ على أنه تفاعل بسيط لعوامل بشرية. وعند قراءة الكتاب المقدس، سواء بهذا الخصوص أم بسواه، لابد من أن يتكلم الإيمان للإيمان وأن يستجيب الإيمان لنداء الإيمان. وجهدنا محفوف بالخطر لأننا نواجه ظواهر متناقضة، أو هكذا هي تبدو. على سبيل المثال، هل يُعْقَل أن الإمبراطور كاليغولا المجنون، الذي حاول أن يحمل الناس في كل العالم على عبادته، أن يكون في الوقت ذاته "خادم الله"؟ نعرف أنه ليس من جواب مناسب وجاهز لكل سؤال، وليست من طريقة يستطيع بها العالم العصريّ أن يفسر أو يبيّن المغزى الفدائي لكل حادثة من حوادث التاريخ. وسبب ذلك هو "أننا لا نرى- في حياتنا الحاضرة- بل لا نقدر أن نرى الحقائق المعيّنة في علاقتها الكلية، ولذلك لا نستطيع أن نقرأها بتفسيرها الإلهي".

على كل حال، لابد لنا، إن كنا لا نحاول تفسير كل حوادث التاريخ، أن نكتشف المبدأ الأساسي الذي بموجبه يضبط الله التاريخ- وهو المبدأ الذب به سيطر الله على كل أحداث التاريخ الماضية والذي، باعتقاد الإنسان المؤمن، لا يزال يعمل في شؤون البشر. لابدّ من هذه المحاولة إن كنا نريد أن نفهم الكتاب المقدس. اعتقد كتّاب الكتاب المقدس أن ضبط التاريخ أو السيطرة عليه أمر يعود إلى عامل لا يخص هذا العالم بل هو من عالم أبعد وأعلى من التاريخ. وهذا العامل الخارق للطبيعة "لا يمكن تحليله وملاشاته من الكتاب المقدس إلا إذا كان بالإمكان إعادة كتابة الكتاب المقدس وتكذيب شهادة الرسل والأنبياء الذين كتبوه".

سنحصر الاهتمام في هذا الفصل في التاريخ "العام" بالمقابلة مع التاريخ "الخلاصي" (أو الفدائي)، فالتمييز بين الاثنين معروف لدى علماء العصر الحديث، ولكن لم يكن معروفاً لدى كتّاب الكتاب المقدس. اعتبر كتّاب الكتاب المقدس جلّ مجرى التاريخ مجالاً لعمل الله الخلاصي، واعتبروا ما جرى في التاريخ إنجازاً لخطة الله في الفداء والخلاص. على كل حال، كان كتّاب الكتاب المقدس يعترفون بأن عمل الله في تاريخ بني إسرائيل كان يختلف عن عمله في تاريخ العالم. ففي تاريخ بني إسرائيل كان الله يسيطر باستمرار، ويعمل بقصد وعلى نحو مباشر أكثر مما كان يفعل في تاريخ العالم. فمن الضروري في بحثنا هذا أن نولي تاريخ العالم اهتماماً مستقلاً، مع الاعتراف بأن من الصعب الفصل تماماً، وباستمرار، بين التاريخ العام والتاريخ الخلاصي بسبب ما فيهما من تداخل.

نظر كتّاب الكتاب المقدس إلى الأمم على أنها في صراع مع الله بينما تخضع لسلطة قوى شيطانية، وأن أية خدمة كانوا يقدّمونها لله لم تكن بأي حال عن فهم أو رغبة قلبية. اعتبر أولئك الكتّاب حياة الإنسان غير المخلّص حياة تسير في طريق العالم "حسب رئيس سلطان الهواء" (أفسس 2:2). وبولس يحرّض المسيحي المؤمن على التسلّح بسلاح الله الكامل لكي يحارب " ضد مكايد إبليس" ولكي ينتصر في مصارعته " مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر" (أفسس 6: 11، 12). واعتبرت الكنيسة الأولى أن الاضطهاد الذي أثاره عليها اليهود كان إتماماً للمزمور الثاني، وعندما صلّوا (أعمال 4: 24- 26) ذكروا كلمات المزمور مبيّنين أن مقاومة العالم لإرادة الله كانت أمراً متوقّعاً.

ومع ذلك اعتقد كتّاب الكتاب المقدس أن قوة الله تهيمن على شرّ الأمم وتجعل منهم خداماً له. قال يسوع: "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم" (يوحنا 16: 33). ورئيس العالم، أي الشيطان، قد دين (يوحنا 16: 11). يقدّم سفر الرؤيا بلغة رمزية صورة للصراع الهائل القائم بين الله والقوى العالمية المجسدة في الإمبراطورية الرومانية ويعلن في الوقت ذاته وبإيمان ساطع انتصار الله في ذلك الصراع. وحيثما يبرز موضوع الصراع بين الله والعالم في الكتاب المقدس يظلّ الشعار الدائم هو هيمنة الله التي تقضي على مقاومة القوى العالمية وتجعل نشاطها يخدم مقاصده هو.

كيف بيّن الكتاب المقدس ذلك؟ أكد كتّاب الكتاب أن القوى التي في العالم مصممة ومرتبة من الله. يقول بولس: "وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض. وحتم بالأوقات المعيّنة وبحدود مسكنهم" (أعمال 17: 26). ويقول بولس أيضاً "ليس سلطان إلاّ من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله" (رومية 13: 1). فالله، إذن، ضابط للتاريخ مهيمن عليه، وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكننا أن نفهم معنى الإصحاحات 9- 11 الصعبة من رسالة رومية. يبحث بولس هناك هيمنة الله على التاريخ وأنه ينفّذ من خلاله قصده الفدائي. وضمن حدود هذه الهيمنة الإلهية توجد آنية مختلفة. هناك "إناء للكرامة وآخر للهوان" (رومية 9: 21). اختار الله البعض لإتمام مشيئته بطريقة معيّنة واختار آخرين لإتمام تلك المشيئة بطريقة أخرى. مثلاً، قال الله لفرعون: "إني لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتي ولكي يُنادى باسمي في كل الأرض" (رومية 9: 17، وقارن خروج 9: 16).

إن هذه الفكرة القائلة بهيمنة الله على التاريخ معبّر عنها أيضاً في العهد القديم. فقد قضى الله بسلطانه وحكم على نبوخذنصّر بأن يسكن مع حيوان البرّ حتى يعلم "أن العليّ متسلّط في مملكة الناس ويعطيها من يشاء" (دانيال 4:25). ويعلن النبي عاموس أن الله سوف لا يكتفي بمعاقبة بني إسرائيل الأشرار وحدهم بل سيرسل عقابه أيضاً على دمشق وغزة وصور وأدوم وبني عمون (عاموس1). وهكذا نرى أن كتّاب الكتاب اعتقدوا بأن المحرك الخلاّق للتاريخ هو الله. فقد صمّم قبل الوقت مَنْ مِنَ البشر سيتسلط في العالم وكيف ستكون طبائعهم. وهكذا كان الله بحق "صانع ملوك الأرض." كلّما كان قصده الفدائي يستدعي أن تقوم قوة ما بعمل معيّن وبطريقة معيّنة كانت تلك القوة أو الدولة على استعداد للعمل بترتيب إلهي. إن كان هذا حقاً، واعتقد به وصدّقه أهل الإيمان، فأنه سيهبنا شعوراً بالأمن وسط عالم تخيّم عليه الفوضى. والقوى أو السلاطين (أي السلطات) الكائنة مرتّبة من الله. ومع أننا قد يتعذر علينا أن نرى كيف يمكن استخدام بعض الدول أو السلطات العصرية لإنجاز برنامج الله الفدائي، غير أننا نعلم أنه تعالى، على الرغم من كل شيء، ينفّذ خطته الفدائية في العالم.

كيف يمكن للتحركات في التاريخ أن تخدم الله؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عنه. تظهر هذه الحقيقة في بعض الأحوال بادية للعيان واضحة، بينما في الأحوال الأخرى تصعب رؤيتها. لا شكّ أن تلاقي الحضارة الإغريقية والسلطة الرومانية في الفترة التي انطلقت فيها المسيحية كان مرتّباً من العناية الإلهية. فاللغة والحضارة الإغريقيتان اشتركتا في خلق مناخ في العالم ملائم لتقدّم الديانة الجديدة ورسوخها في قلوب الناس. أوجدت السلطة الرومانية مناخاً سياسياً، وهو المسمّى بالسّلم الروماني والذي أتاح للمسيحية الوعظ والتبشير بحرية. بينما لو بقيت السلطة الإغريقية لكانت المسيحية لاقت صعوبات أعظم، ذلك أن الحكام الإغريق علموا كدعاة للآراء الإغريقية وقاموا كل الآراء الجديدة القادمة من الخارج. ولو سيطرت الحضارة الرومانية في العالم لأصبحت طريق المسيحية محفوفة بالصعاب. لكن هذه الحضارة لم تسيطر بل اكتفى الرومان بسيادة القانون والنظام مع أنهم لم يشجّعوا تغيير الأفكار أو الديانات. وهكذا نرى كيف أن حضارة الإغريق وسلطة الرومان ساعدا المسيحية على التقدم، ولابدّ أن يد الله رتّبت أن تسود السلطة الرومانية العالم وأن تنتشر الحضارة الإغريقية في كل الأرض

هناك حوادث وحركات أخرى لا يمكن تفسيرها بهكذا سهولة. تستولي علينا الحيرة كما كانت مستولية على بني إسرائيل في الزمن القديم. فإنهم لم يقدروا أن يفهموا كيف يسمح الله لبلد وثني شرير بأن يستولي عليهم ويأخذهم أسرى مسبيين إلى أرضه. كانوا يتساءلون في حيرتهم: هل قَصُرت يد الرب عن أن تخلّص (أشعيا 59:1)؟ أجاب النبي أشعيا على هذا التساؤل بالنفي، فيد الرب لم تقصر عن أن تخلص. ويفسّر الرب قائلاً عن آشور "قضيب غضبي، والعصا في يدهم هي سخطي. على أمة منافقة أرسله وعلى شعب سخطي أوصيه" (أشعيا 10: 5- 6). لكن ملك آشور لم يفهم هذا، وبنوا إسرائيل لم يفهموه كذلك. تبجّح ملك آشور بالقول: "بقدرة يدي صنعت وبحكمتي" (أشعيا 10: 13). وصرّح الرب، ردّاً على كبرياء ملك آشور وتفاخره، فقال: "فيكون متى أكمل السيد كل عمله بجبل صهيون وبأورشليم أني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك آشور وفخر رفعة عينيه" (أشعيا 10: 12).

نرى في هذا المثل شيئاً من المبدأ الذي به يضبط الله التاريخ ضبطاً كاملاً. فها أمة شريرة بقيادة ملك متعجرف تقوم لتصبح الأداة التي بها يعاقب الله شعبه. وكان ذلك الملك يفتخر بقوته، ويعتقد أنه فعل كل ما فعل بقوته هو وبدافع منه، بينما كان في الحقيقة يخدم الله وينفّذ قصد الله. لكن خدمته هذه لله لا تعود عليه بأي شرف أو جزاء. فعند انتهاء تلك الخدمة سيدينه الله ويقضي عليه بسبب عجرفته وكبريائه. في هذا دلالة على طريقة واحدة فقط بها يستخدم الله أمة من أمم العالم لإتمام مقاصده. لكن الله قد يستخدم أمماً أخرى أيضاً، أما لإنقاذ شعبه، أو لإقامة سلام، أو لنشر الحضارة. وهكذا تختلف الغايات ولكن الله يستخدم الجميع. هذا ما كان يعتقد به كتّاب الكتاب المقدس.

إن سيطرة الله على التاريخ مطلقة وعالمية شاملة. وهذا لا يعني أن كل ما يجري في العالم هو بالضرورة شيء يريده الله أو يرغب فيه. لكن، على أي حال، لا يحدث شيء إلا ويكون الله قد سمح بحدوثه. الذي نقوله هو أن لله القول الفصل النهائي، أي أنه لا يخطط كل الأشياء، فليست كلها من ضمن قصده، لكنه يستطيع أن يحوّل الأشياء لتتمم قصده. إنه العامل الخلاّق الذي يجعل كل تحركات التاريخ تخدم قصده الفدائي الخلاصي. لقد ترتب التاريخ، قبل مجيء المسيح، ليهيء الطريق لهذا المجيء ولفتح الطرق لإنطلاق الحركة المسيحية. لكن ضبط الله للتاريخ لم ينته عند ذلك الحد. فالله يواصل ضبطه للتاريخ واستخدامه إياه لتعزيز برنامجه الفدائي في العالم. ليس في النبوات بيان مفصل للطريق والأسلوب اللذين يتّبعهما الله في ضبطه للتاريخ. قد نستطيع إذا نظرنا إلى التحركات في الماضي أن نرى ولو بغير وضوح أسلوب الله ذاك، ولكن لا أمل لنا في رؤيته في تحركات الحاضر. على كل حال، يعتقد إنسان الإيمان أن حقيقة ضبط الله للتاريخ حقيقة صادقة، ويتعزّى ويتشجّع مؤمناً بأن معنى الحياة على الأرض هو في قصد الله السائد.

  • عدد الزيارات: 4212