الفصل الأول: في البدء
يبدأ سفر التكوين سرده لأعمال الله العظيمة بالعبارة "في البدء خلق الله السموات والأرض" (تكوين 1: 1)، وكل الكتاب المقدس يتّفق مع هذه الفاتحة الكتابية. فنجد يسوع، في تعليمه عن علاقة الله بالعالم، يتّخذ فكرة كون الله هو الخالق كأساس لتعليمه ذاك. ويوحنا يبدأ إنجيله بالتأكيد أن يسوع كان موجوداً عند بداية العالم وأنه الكلمة الأزلي وبه كانت كل الأشياء (يوحنا 1: 1- 3). اختلف الباحثون فيما بينهم عن المصدر الذي منه أخذ يوحنا، حسب ظنهم، عقيدة "الكلمة"، والواقع أن ذلك المصدر هو العهد القديم، وبنوع خاص الإصحاح الأول من سفر التكوين حيث نجد القول بأن الله تكلّم وبرز العالم إلى حيز الوجود. واستفانوس، وهو يتكلم أمام مجمع السنهدريم اليهودي، اقتبس من النبي أشعيا ليبيّن أن المؤسسات اليهودية- كالهيكل والذبائح- لا يمكن أن تكون أبدية لأن السماء، لا الهيكل، هي عرش الله والأرض هي موطئ قدميه (أعمال 7: 49). وواضح أن الاعتقاد بأن الله هو خالق الطبيعة والمتسلّط عليها كامن ضمن هذه الآية.
والخليقة هي الشعار الأساسي الذي حوله تدور فكرة بولس عن العالم الطبيعي. تشهد الطبيعة شهادة واضحة لقوة خالقها وألوهيته، حتى أن عبادة الأوثان أمست بلا مبرّر أو عذر (رومية 1: 19- 21). والخليقة في حالتها الحاضرة متوقّفة على إرادة الله، وما تتوقعه في المستقبل يستند إلى قصده (رومية 8: 19- 22). وضع الله أعضاء الجسم البشري في وحدة عجيبة بعضها مع بعض (1 كورنثوس 12: 18- 24). الله الآب هو الذي منه جميع الأشياء ونحن له (1 كورنثوس 8: 6). والمسيح هو الوسيط الذي فيه أو بواسطته خُلقت كل الأشياء (كولوسي 1: 16- 18). وكل طعام يمكن تناوله بالشكر لأن الله قد خلقه (1 تيموثاوس 4: 4). ويشهد بطرس أن كل الأشياء بكلمة الله قائمة (2 بطرس 3: 5). ويذكر سفر الرؤيا خلق الكون على أنه الموضوع المركزي الذي حوله تدور ترنيمة التسبيح الموجّهة في السماء إلى الأب الخالق (رومية 4: 11). وحقيقة الخلق هي أيضاً الضمانة لإتمام سر الله وقصده (رومية 10: 6- 7).
إنه لأمر ثابت، إذن، أن جميع الذين كتبوا أسفار الكتاب المقدس في العهد القديم والعهد الجديد يتفقون في الاعتقاد بأن الله هو مُبدع الخليقة. إنه جزء بديهي من إيمانهم الديني. وبطبيعة الحال لا يمكن إثبات حقيقة الخليقة، لذلك يجب أن تقبل بالإيمان. "بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله حتى لم يتكوّن ما يرى مما هو ظاهر" (عبرانيين 11: 3). وهذا القول لا يعني أن الاعتقاد بأن الله خلق الكائنات اعتقاد غير منطقي (3). إنه يعني أن لا سبيل لإثبات حقيقة الخلق. فالعقيدة ليست علمية ولا غير علميّة. إنها فوق العلم. كما أن هذا الاعتقاد الديني لا يمكن اعتباره اعتقاداً غير علمي (بالنسبة لعلم هذا الزمن) كالقول مثلاً بأن العالم جسم مربّع مسطّح ذو طوابق ثلاثة. صحيح أن علم الكون كما هو في الكتاب المقدس مطابق لما كان معروفاً لدى العالم القديم، علماً غير مؤسس على معطيات كافية. لكن عقيدة الخليقة هي غير علم الكون، إنها إيمان. ولم تأت نتيجة للبحث إذ أنها حقيقة جاءت بالإعلان الإلهي. إن الجدل الذي يدور حول الخليقة يجب ألا يُنظر إليه كجدل بين العلم والدين وحول أسلوب تكوين العالم. إنه جدل بين مختلف المعتقدات حول السبب الذي من أجله تكوّن العالم.
إن كنا نريد أن نفهم الكتاب المقدس فعلينا أن ندرك أن عقيدة الخليقة لم توضع في الكتاب لكي تفسّر لنا كيف تكوّن العالم. إن تلك العقيدة ليست في ذاتها حقيقة علمية أو تاريخية بل حقيقة جوهرية تختص بالدين والإيمان. لم يكن رجال الكتاب المقدس مهتمّين بالعالم- لا من حيث سبب وجوده، ولا من حيث الأسلوب الذي خُلق به. لقد كان أولئك الرجال مهتمين بالخالق نفسه. إن العقيدة الخلقية في الكتاب المقدس تفسّر طبيعة العالم وطبيعة الله في آن معاً. إن كلمة "خليقة" وحدها تضع حدّاً فاصلاً بين الأفكار اليونانية والأفكار اليهودية المتعلقة بالله والعالم (4). إن كلمة العالم للإنسان اليوناني هي "كوسموس". بالنسبة له حقيقة العالم أمر مطلق. أما الإنسان اليهودي فينظر إلى العالم على أنه "خليقة". العالم للإنسان اليهودي شيء نسبيّ، أما الله فمطلق وأبدي. الله في وجوده غير معتمد على الكون ولا هو من ضمنه في أي حال. الله سيد الطبيعة ويفعل في الكون ما يحلو له (5). الكون لا يتضمّن الله أو يحتويه بل إنما يعلن الحقائق المتعلّقة بالله (رومية 1: 19- 21). وسيادة الله في هذا الأمر تضمن إنجاز قصده في كل مكان (رؤيا 10: 6- 7). لقد أشغل هدف الله وقصده في العالم كتّاب الأسفار المقدّسة، ووجدوا في عقيدة الخليقة التأكيد بأن الله كان يقوم بتنفيذ قصد فدائي من أجل الإنسان (6). والله، في خلقه الخليقة، كان يقيم المسرح الذي عليه سيقوم بتنفيذ أعمال الفداء العظيمة.
إن قصة الخليقة كما وردت في سفر التكوين توجّه الانتباه إلى الإنسان. فهو يقع في مركز الجاذبية. وكاتب السفر يسرع في سرده قصة الخليقة، وإذ يكتفي بذكر خاطف للأشياء التي تهمّ العلم الطبيعي الحديث ينتقل مسرعاً إلى ذكر الإنسان، وكيف صار، وما هو. ويُظهر الكاتب بصيرة روحية حقيقية في تمييزه أهمية عمل الله في الخلق. يقول الكتاب أن الإنسان خُلق على "صورة الله" (تكوين 1: 27). وكان الإنسان جزءاً من العالم إذ أن الله جبله "تراباً من الأرض" (تكوين 2: 7). لكنه كان في الوقت ذاته مستقلاً عن العالم إذ إن الله "نفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيّة" (تكوين 2: 7). كذلك كان منعزلاً عن الله إذ لم يكن له الكمال الخلقي أو النضج اللذان لله (7). لم يكن الإنسان التعبير الدقيق عن طبيعة الله مثلما كان المسيح (عبرانيين 1: 3)، فهو إنما صُنع على "صورة" الله.
كان هذا التعبير، ولا يزال، اللغز الذي حيّر اللاهوتيين في كل العصور. ماذا يقصد الكتاب بالقول: إن الإنسان مخلوق على صورة الله؟ يعطينا الكتاب المقدس إجابات جزئية عن هذا السؤال. قد يكون المعنى أن الإنسان أعطي مكان السلطة على العالم (تكوين 1: 26، 28 و 2: 15، 19 و 1 كورنثوس 11:3 ويعقوب 3: 7). أو أن الإنسان مُنح الجلال والهيبة (مزمور 8: 6). يميل كتّاب الأسفار المقدسة إلى تعريف طبيعة الإنسان مستعينين بمركزه في العالم. وحاول غيرهم تعريف "صورة الله" بلغة ميتافيزيائية أي ما وراء الطبيعة. ويرى اللاهوتي مولنز أن "صورة الله" ظاهرة في طبيعة الإنسان، فهو كائن عاقل، عاطفي، أخلاقي، ذو إرادة وحرية (8). ويرى آخرون أن لا داعي لتعريف عبارة "صورة الله"، ويرون معناها في قدرة الإنسان على ممارسة الشركة مع الله وقدرته على سماع صوت الله وتقديم الصلاة إليه (9). ربما نجد في هذا المعنى ما يكفي. ومهما يكن للعبارة من معان أخرى فالقول بأن الإنسان مخلوق "على صورة الله" يصوّر الإنسان لنا كائناً يستطيع الاتصال بالله. لقد خلقه الله لكي يحبه وأعطاه القدرة على أن يردّ على حب الله بحبّ حرّ وطوعيّ. في الإنسان يكمن إمكان التخلّق بخلق مشابه لله، ولكن دون تحقيق كامل لذلك الخلق. ينمو الخلق ويتقدّم فقط في بوتقة العمل الخلقي، ولابدّ له بعد ذلك من أن يطرق ويكيّف وسط ضغط التصميم بين الصواب والخطأ، ولا يبلغ المدى المطلوب إلا بعد أن تتبلور اختبارات البشر الحرّة في الاتجاه الصحيح.
بسبب هذه الإمكانية في نمو خلق الإنسان وضع الله ذلك الترتيب أو التدبير لحياة الإنسان على الأرض. كان كل شيء معدّاً له، فأعطي السلطان على الأرض، ولكن لم يُعط السلطان على نفسه. وضع الله على حياته قيداً أخلاقياً كان عليه أن يلتزم به. منعه الله من أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وإن أكل فعقابه الموت (تكوين 2: 17). لا نعلم إلى ماذا تشير "شجرة معرفة الخير والشر." قد تكون رمزاً لإختبار روحي لم يكن آدم بعد مستعداً لقبوله. أما الغاية الأولى الأساسية من تلك الوصية فكانت في اعتقادنا امتحان محبة الإنسان وولائه. هل يرضى الإنسان أن يعيش تحت حكم الله أم يسعى لتعظيم نفسه؟ هل يكتفي بمركزه الخاص به في العالم أم يسعى لاغتصاب مركز الله؟
نجد الإجابة في المعنى الذي تنطوي عليه الخطية. قام الإنسان في يوم ما بعمل حاسم فطرح عن كاهله نير الله وطلب أن يكون مستقلاً (تكوين الإصحاح 3). وعندما تمّ له ذلك خسر كل معنى لوجوده (15). أصبح عاصياً مشرّداً في عالم الله مطروداً من حضرته (تكوين 3: 8). لقد وُضعت عليه لعنة الموت فطًرد من الجنة (تكوين 3: 15- 24). غير أن الدينونة جاءت ممتزجة بالرحمة. وعد الله بأن يجيء نسل للمرأة فيسحق رأس الحية (تكوين 3: 15). وهو الوعد الذي كان بولس يعتبره قد تحقّق بمجيء المسيح (غلاطية 4: 4- 5). كسا الله الزوجين المذنبين بجلود الحيوانات (تكوين 3: 21)، الذي ربما يشير إلى التغطية التي بها سيغطّي الخطية، وطردهما بعيداً عن شجرة الحياة، التي لو أكلا منها لقضيّ عليهما أن يعيشا حياة مستمرة في عالم الخطية والموت (تكوين 3: 24).
في كل هذا نرى انعكاساً، ولو ضئيلاً، لأعمال الله الفدائية، ولكننا نتذكر أن الله لم يقطع الرجاء عندما فشل الإنسان. لقد عزم في قلبه على استعادة الإنسان إلى شركة المحبة معه، وقد نُصب المسرح لكي تُمثّل عليه دراما الفداء التي هي موضوع سائر فصول الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. والقصص في سفر التكوين، الإصحاح 1 إلى 3، ما هي إلا المقدمة لحركة التاريخ الفدائي كلها حيث يتحرك الله ليجعل الإنسان ما يريد له أن يكون. ويصبح الكتاب المقدس قصة تحرّكات الله لإيجاد شعب كامل في عالم يحيا أفراده في شركة كاملة مع الله وبعضهم مع بعض.
واجه الله في إنجازه هذا الحلم أمرين ضروريين. كان عليه أوّلاً أن يعلن ذاته للإنسان، ثم أن يعالج مشكلة الخطية. ولكل من هذين الأمرين جانبان- جانب موضوعي وآخر ذاتي شخصي. كان لابد أن يجري إعلان إلهي في العالم، لكن لن يكون لإعلان كهذا أي معنى ما لم يصل البشر في قلوبهم إلى معرفة الله.وكيف بمكن أن يعرف الإنسان الله؟ لابد إذن من وجود ذبيحة عن الخطية تزول بها هذه الخطية التي تشكل عائقاً يمنع جريان الشركة بين الله والإنسان. لكن هذه الذبيحة تظل بلا قوة أو تأثير ما لم يقبلها بنو البشر ويسمحوا لقوّتها أن تطهّرهم من الخطية وتعيدهم إلى الشركة مع الله. كيف أتمّ الله بالفعل هذه الأعمال؟ إن هذا هو موضوع الكتاب المقدس.
أولاً، كان من الضروري أن يعلن الله ذاته بطريقة تساعد الإنسان ليدرك أن سعادته تكمن في الشركة مع الله. إن من مظاهر لعنة الخطية العمى الروحي الذي يخيّم على الخاطئ فيجعله يرى الله عدوّاً له. "لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله لأنه أيضاً لا يستطيع" (رومية 8: 7). إن المعرفة التي يفتقر الإنسان إليها لا تأتي إلا بإعلان شخصي من جانب الله. وهذا الإعلان، الذي ابتدأ واستمرّ في معاملات الله مع بني إسرائيل، بلغ أخيراً ذروته بشكل موضوعي في المسيح الذي هو "تجسّد" الله. أما شكله أو جانبه الذاتي فلا يزال في طريق الإتمام وقد يستمرّ طوال الأبدية. لا يزال الله يعمل في عالمنا بواسطة شهادة الكتاب المقدس، والوعظ ببشارة الإنجيل، والخدمة التي تقدّمها الكنائس لإتمام هذا الجزء من عمل الله.
ثانياً، واجه الله ضرورة معالجة مشكلة الخطية في الحياة البشرية. قال بولس: "بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم... بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة" (رومية 5: 12، 18). يدور جدل كثير بين العلماء حول طبيعة الفساد الذي حل في الجنس البشري نتيجة لهذه الخطية الواحدة وكيفية حلوله. والظاهر أن قول بولس يعني أن رضوخ آدم للخطية لوّث مجرى الجنس البشري من منبعه، حتى أن كل إنسان ولد في العالم شبّ وفيه الميل الدفين والاستعداد لسيطرة الذات، وهو الأمر الذي يضمن السقوط في الخطية الشخصية، وبالتالي الوقوع تحت الدينونة. إننا لا نؤمن أن أي إنسان قد أُدين أو يُدان بخطية آدم ما عدا آدم نفسه. لكننا مع ذلك نرى ما يدل على أن الجنس البشري ملوّث حتى أن كل إنسان يخطئ. ففي ضوء حقيقة عالمية الخطية وانتشارها الشامل في الكون نجد أن العقيدة الكتابية القائلة بأن الميل للخطية كامن في الإنسان عقيدة معقولة. على كل حال، أصبحت الخطية جزءاً لا يتجزأ من الجنس البشري، وقد واجه الله ضرورة معالجتها لكي ينقذ الإنسان. وكان لابدّ من وجود من يحمل لعنة الخطية لكي لا يقع العقاب كله على الإنسان. لقد دعت الحاجة لأن تنفتح الطريق فتجرى محبة الله بلا عائق في حياة البشر دون الإخلال بمبادئ البرّ والعدل التي لا تقل أهمية عن محبّته. لا يريد الله أن يخلّ بمبادئه ويناقض نفسه في سبيل خلاص الإنسان. وبلغ عمل الله ذروته عند تقديم الذبيحة الكاملة، يسوع المسيح، عن خطايا العالم. لقد "قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة" (عبرانيين 10: 12)، أي ذبيحة نفسه. سبق تقديم هذه الذبيحة صُوَرٌ رمزية لها في الذبائح التي كان بنو إسرائيل يقدّمونها، لكن هذه الذبيحة، وليس سواها، عالجت مشكلة الخطية معالجة نهائية. إنما تظلّ هذه الذبيحة بلا قوة أو تأثير ما لم يقبلها الإنسان لنفسه. لأن الإنسان الفرد إذا لم يسلّم نفسه لقوة الله لا يستطيع أن يختبر الانتصار في قلبه على الخطية ويصبح إنساناً جديداً. فإذن، من الناحية الذاتية، يجرى هذا العمل باستمرار.
نحاول أن نبيّن في الفصول التالية باختصار كيف تمّم الله وكيف يتمم ذلك الحلم القديم من أجل البشر. هذا هو موضوع الكتاب المقدس. وتنفيذ الخطة الإلهية هو، في وقت معاً، السرّ والنور الواضح اللامع لكل ما تكلّم عنه كتّاب المقدس في ما سجّلوه عن معاملات الله معهم. وفي رأيهم كان الله دائماً المحرّك الذي يقوم بالمبادرة في الفداء. وقصد الله، كأعماله، هو موضوع أسفار الكتاب، لأن الأعمال التي قام بها الله ما هي إلا التنفيذ العمليّ لقصده.
- عدد الزيارات: 5141