Skip to main content

القسم الأول: قصد الله وتاريخ الفداء - مقدمة: أولوية الله

إن الحقيقة الأساسية للتاريخ ليست الخطية ولا الخليقة بل أولوية الله المطلقة في العالم وفي تاريخه. هذا ما قاله اثلبرت ستاوفر في كتابه "لاهوت العهد الجديد". كل الأشياء تبدأ بالله. خذ، مثلاً، التاريخ الفدائي، الذي هو موضوع الكتاب المقدس، فهو يبدأ بالتصريح بعمل الله في الخلق، ويفترض وجود الله وقصد الله. استخدم اللاهوتيون بعض التعبيرات ليصفوا أولوية الله في التاريخ وفي الفداء، فقالوا بالعلم السابق، وتعيين المصير، والتعيين السابق، والعناية الإلهية، والاختيار. إننا سنبحث في كل ما تعنيه هذه التعبيرات المختلفة في أثناء بحثنا لقصد الله. إننا نفترض أن لله قصداً- قصداً ينفّذه الله في العالم. إن إيصال هذا القصد إلى نهايته لا يتحقق نهائياً في التاريخ، فالهدف يقع في ما وراء التاريخ في الحياة القادمة التي تعلّمنا أن ندعوها باسم السماء.

إن هذه الفكرة، أي فكرة عمل الله بموجب قصد في التاريخ، هي إحدى الأفكار المركزية، إن لم تكن الفكرة المركزية في الكتاب المقدس كله. إنها بمثابة المركز لكلا العهد القديم والعهد الجديد، كما يقول إميل برونر في كتابه "العقيدة المسيحية بالله". يعبّر سفر الرؤيا باستمرار عن إيمان الرسول يوحنا بأن الله هو محرّك التاريخ وهو هدفه النهائي، فيقول بلسان الرب: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، يقول الرب الكائن، والذي كان، والذي يأتي، القادر على كل شيء" (رؤيا 1: 8). إن فكرة عمل الله بموجب قصد فكرة يعبّر عنها بولس كثيراً وهي جزء أساسي من تعليمه اللاهوتي. نجده يقول عن الله: "لأن منه وبه كل الأشياء. له المجد إلى الأبد" (رومية 11: 36). إنه يرى أن خلاص كل مؤمن يعود من حيث مصدره إلى اختيار الله لذلك المؤمن (أفسس 1: 4- 5). وإن سير التاريخ الفدائي ما هو إلا إتمام لقصد الله (أفسس 1: 11). وإن خلاصه، أي خلاص بولس، ودعوته للخدمة الرسولية هما أمران سبق الله فعرفهما ثم أنجزهما (غلاطية 1: 15- 16). يقول هذا الرسول في تصريحه اللاهوتي الرائع عن معنى المسيح: "إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه" (2 كورنثوس 5: 19).

وعلينا أن نحذر من الظن بأن عقيدة قصد الله هي من ابتكار الرسول بولس، إذ أن هذه العقيدة محكومة في نسيج الكتاب المقدس من بدايته إلى نهايته. إبراهيم، مثلاً، دُعي من الله، وانقاد في حياته به، وكان لا يجد أي معنى لحياته إلا بعمله إرادة الله (التكوين- الإصحاحات 12- 15). وموسى، إقامة الله وكلّفه بإنقاذ بني إسرائيل (خروج 3). إلا أن الثنا على الإنقاذ من العبودية لم يوجّه إلى موسى بل إلى الله (خروج 20: 1- 2). وسفر القضاة مجموعة قصص تروي كيف أنقذ الله الشعب في أزمنة الضيق والمحن. وإذا تأملنا في تاريخ رجال من أمثال داود، وسليمان، وأشعيا، وأرميا، نجد أنه ليس إلاّ إظهاراً لتحرّك الله وعمله في حيّز الحياة البشرية. إن علماء العصر الحديث، في دراستهم للعهد القديم، لم يُبدوا إلاّ القليل من الاهتمام بعقيدة قصد الله. لكن، كما يقول ج. أرنست رايت (G. Ernest Wright) في تفسيره للعهد القديم: "لا يمكن أن نفهم معنى العهد القديم ولا تاريخ بني إسرائيل فهماً حقيقياً إلا إذا وجّهنا انتباهنا الدقيق إلى هذه العقيدة"، أي عقيدة قصد الله. ليست هذه العقيدة مركز الكتاب المقدس وحسب بل هي أيضاً أساس الإيمان بالله. يقول ويكندن (Wickeder): "من دون هذه العقيدة ينهار الاعتقاد بأن الله متمّم قصده في العالم. يتكلم اللاهوتيون، أمثال ولترت. كونر (5)، فيقولون أن الله مُطلَق، ويعنون بذلك أنه كامل ومستقلّ وقائم بذاته. لا شيء يتحكّم به بل هو يحكم في كل شيء. ولا يمكن أن يقال عن الله، بالنسبة لعلاقته بالعالم، أنه يعمل كل ما يمكن عمله من الخير حسبما تسمح الأحوال. فإن الله، إذا كان مطلقاً ونهائياً، هو العامل الخلاّق في تاريخ العالم. لابدّ من أنه يقوم بإتمام قصد، ولابدّ من أنه يسير نحو الهدف. يستحيل أن يكون لنا إيمان حقيقي بالله وفي الوقت ذاته نعتقد أن أي شيء قد يتمكن في النهاية من إحباط مساعيه تعالى ومنعه من إنجاز قصده. ولكن هذا لا يعني من الناحية الأخرى أن كل ما يجري هو وفق رغبة الله. من الواجب أن نميّز بكل اعتناء بين رغبة الله وقصد الله. نرجو أن نتمكن من توضيح هذا التمييز في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

هناك عقيدة تدعى "دايزم" (Deism) يعتقد أصحابها بالله لكنهم ينكرون الوحي والتنزيل ويقولون أن الله لا يتدخّل في شؤون الكون. تقول هذه العقيدة أن الله مطلق، بينما تنكر أن له قصداً فاعلاً في العالم. هذه العقيدة "الدايزم" لتتّفق مع الفكرة المسيحية عن الله. يستخدم كل الكتّاب المسيحيين تقريباً كلمات مثل "المحبة،" و "البرّ،" و العدل،" و "القداسة،" وهم يحاولون أن يصفوا طبيعة الله بتعبيرات يفهمها العقل البشري. لكن هذه الصفات تظل بلا معنى إذا لم تقترن بالاعتقاد بقصد الله في الله. إذا كانت المحبة لا تخطّط ولا تعمل لخير المحبوب فهي ليست محبة أصلاً. والبرّ الذي لا يسعى لإحباط الشرّ وسيطرته ليس برّاً. وكذلك العدل الذي لا يعمل على إحقاق الحق ليس عدلاً. لذلك نرى أن أساس الإيمان المسيحي بالله هو الإعتقاد بقوة الله العاملة المتحركة في العالم. إن عقيدة قصد الله تعتبر من العقائد الأساسية في اللاهوت المسيحي.

نجد كذلك أن معنى الحياة الدينية مؤسس على الاعتقاد بأن الله إله قصد وقوة. يقول جيمس أور "أن من صميم الدين الشعور بالاعتماد على الله وعدم الاستقلال عنه". تصرخ نفس الإنسان طالبة من يمكنها أن تعتمد عليه وأن تصلي إليه، معتقدة بأن الحياة والظروف التي في العالم يمكن أن تتغيّر إلى الأفضل. يجد الإنسان حاجته في الله وفي الكتاب المقدس. لكن الإنسان لا ينتفع من كل ذلك إلا إذا كان لله قوة حقيقية عاملة في العالم وكان له قصد يعمل في اتجاه إحقاق الحق. إذا لم يكن الله إلهاً حقاً فإنّ الدين يتبخر ويمسي عدماً. إذا كان الإنسان يصلي معتمداً على الله لا يهمّه أن يعمل ولا يستطيع أن يعمل في العالم من أجل الإنسان فصلاة هذا الإنسان وديانته وعقائده وهم وخداع.

لكن الاعتقاد بإله له قصد هو أيضاً يخلق مشاكل ليس من السهل حلّها. إن في الإيمان المسيحي عناصر من الإبهام وألغازاً كثيرة. يصعب على المرء، مثلاً، أن يفهم كيف يكون الله سيّد الكون ويترك قوى الطبيعة في بعض الأحيان تصخب وتدمّر. يصعب على المرء أن يفهم كيف يكون الله سيّد التاريخ بينما تزخر حياة البشر بالكثير مما لا يريده الله ولا يرضى به. كيف يكون الله مخلّص البشر بينما أكثرية البشر ما زالت غير حاصلة على هذا الخلاص؟ إنّ قصدنا في هذا الكتاب هو محاولة بيان عقيدة "قصد الله"، سواء على مسرح التاريخ أو في حياة الإنسان الفرد. إن الغرض من ذلك هو ملاشاة بعض عناصر الإبهام في هذه العقيدة والعودة بها إلى مكان الصدارة في الفكر المسيحي وهو المكان الذي تستحقه.

  • عدد الزيارات: 4533