مقدمة عامة
ما الداعي لتأليف هذا الكتاب الذي يدور البحث فيه حول قصد الله بعدما كُتب الكثير في هذا الموضوع؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في اقتناع المؤلف بأن هناك ضرورة وحاجة لهذا الكتاب بالذات، ولولا الحاجة لما كان من مبرّر لكتابة أي كتاب ونشره.
هناك حاجة لهذا الكتاب بسبب البلبلة الكثيرة القائمة حول موضوع قصد الله في الفداء. إن أحد الأخطاء الشائعة في القضايا اللاهوتية، بالنسبة للناس العاديين على الأقل، هو القول بضرورة الأخذ بأحد طرفَي أية عقيدة لاهوتية ونبذ الطرف الآخر. لكننا ننسى أن هذا البتّ بين جانبي العقيدة ليس ضرورياً في كل الأحوال. فالجواب قد يكون أحياناً شاملاً للجانبين أو حتى رافضاً للجانبين.
إن الجدل حول مسألة الاختيار والتعيين السابق يعود، في التاريخ، إلى النزاع الذي جرى بعد الإصلاح البروتستنتي بقليل بين حركتين هما الكلفينية والأرمينية. لقد فسّرت كل واحدة من هاتين الحركتين قصد الله في خلاص الفرد بطريقة تناقض الأخرى. قال الكلفينيون أن خلاص الفرد ينتج من تصميم الله السابق لخلاص ذلك الفرد، وما هذا التصميم إلاّ جزء من قصد الله الأزلي. وأكّدوا، بالإضافة إلى ذلك، وكنتيجة طبيعية حتمية (أو هكذا بدت لهم)، إن الأشخاص الذين هم غير مختارين للخلاص قد سبق الله فعيّنهم، بحكم إلهي، للهلاك الأبدي. وظهر الأرمينيون فيما بعد فقالوا بأن خلاص كل إنسان يعتمد على إيمانه الشخصي بيسوع المسيح. لم ينكروا قصد الله، لكنهم أصرّوا على أن قصد الله في خلاص أي فرد مؤسّس على عمله السابق بأن الفرد أو الأفراد سيؤمنون بالمسيح فينالون الخلاص. أما هلاك الذين لا يخلصون فسببه، في رأي الأرمينيين، رفض أولئك لنعمة الله.
من هي المدرسة الفكرية الصائبة من هاتين المدرستين؟ إن ما يقول به هذا الكتاب هو أن المدرستين على صواب في بعض النواحي الهامّة، وفي الوقت ذاته على خطأ في نواحي هامة أخرى. إذا كان لا بدّ للمؤلف من أن ينتسب إلى واحدة من هاتين المدرستين فإنه يفضّل أن يُحسب كلفينياً، ولكن ببعض التحفظات الهامّة. لقد كان همّ المؤلف في جهده هذا أن يعالج موضوع قصد الله الفدائي كله من وجهة نظر العهد الجديد، وأن يسعى ليفهم ما تُعلّم به هذه الأسفار المقدسة، وأن يجعل عقيدته متكيّفة بتلك التعاليم. لكن، هناك الجدل اللاهوتي بما له من تاريخ حافل، ولا يقدر أن يعزل نفسه تماماً من ذلك الجدل. لذلك فقد حاول ألا يتورّط في ذلك الجدل إلا إلى الحد الأدنى حيث تدعو الضرورة القصوى.
وحاول المؤلف أيضاً أن ينتفع من الاكتشافات الجديدة الهامة في مجال لاهوت التاريخ، وهي الاكتشافات التي صار التّوصل إليها في الحيّز العلمي في جيلنا الحاضر. لقد تبيّن أنه لا يمكن الفصل بين قصد الله في التاريخ وقصده في الخلاص. من هنا جاء تقسيم هذا الكتاب إلى قسمين يكمّل كلّ منهما الآخر ولا يمكن فهم الواحد بمعزل عن الآخر. إن بعض الفصول التي وُضِعت في أحد قسمي هذا البحث كان يمكن أن توضع في القسم الآخر. والمرجو أن القارئ، إذ يطّلع على جميع العناصر التي يتكوّن منها هذا البحث، يستطيع التوصّل إلى شيء من فهم مجد الله كما يُرى في قصده الفدائي في العالم.
لكن ما ضرورة هذا البحث؟ إنه ضروريّ لتأسيس قاعدة للحياة الدينيّة، والإيمان، والممارسة. إن الدين، وبخاصة الدين المسيحي على أقل تقدير. يتأسّس على الاعتقاد بحضور الله في العالم، حضوراً خلاّقاً وبموجب قصد. إذا غابت هذه الحقيقة عن ناظرنا لا يظل أي معنى للتكلّم عن الصلاة، أو الإيمان، أو التسليم لله، أو محاولة خدمته. والعالم المسيحي عرضة لخطر إضاعة هذا الأساس. إن كثيراً من المسيحيين وكثيراً من الوعاظ كذلك تأثروا بالبلبلة القائمة حول هذه القضايا فطرحوا جانباً الاعتقاد بقصد الله حتى أصبح في المؤخرة بالنسبة لسائر عقائدهم. لقد أصبح هذا الاعتقاد عنصراً مُهمَلاً، إن لم يكن منسياً، في إيماننا. إننا نواصل استخدام العبارات والاصطلاحات التي استخدمها آباؤنا، ونشدّد على الإيمان بالله وممارسة الصلاة، ونشر البشارة. ولكن مركز الثقل ابتدأ ينتقل تدريجياً من التشديد على قصد الله الخلاّق إلى جهود الإنسان، وأهميته، واعتباره. إن هذا الانتقال، في اعتقادي، خطر رهيب يهدّد ممارسة الإيمان المسيحي والدعوة إليه.
حاولت أن أكتب بعبارات بسيطة يسهل فهمها على العلمانيّ، لكن ما حيلتي والقضايا التي نبحثها معقدة بطبيعتها فلا يمكن تقديم الموضوع على نحو بسيط سهل؟ حاولت كذلك أن يكون بحثي دقيقاً كي يكون ذا نفع للطالب والعالم كما هو للعلماني. أنا أعرف أن هذه الأهداف بعيدة المنال، ولا أدّعي أني نجحت في بلوغها. أترك الحكم في هذا للقارئ. وإني أرجو إله النعمة، أبا ربنا يسوع المسيح، أن يهبك الإنارة التي أنت في حاجة إليها لكي تفهم قصده تعالى وعلاقة ذلك القصد بالحياة المسيحية.
فريد ل. فيشر
مدينة مل فالي، كليفورنيا.
- عدد الزيارات: 3937