الفصل العاشر: أهمية تدريب الذات
"وأما الخرافات الدنسة العجائزية فارفضها وروض نفسك للتقوى" (1 تيموثاوس 7:4).
من الجائز أن نوطد بعض القناعات في ما يختص بحياة القداسة، وأن نتعهد أيضاً تعهداً نهائياً في هذا الصدد، ومع ذلك نخفق في تحقيق الهدف. فالحياة ملأى بالقرارات المتناقضة. إذ قد نقرر بنعمة الله أن نقلع عن عادة خاطئة معينة، كإطلاق العنان للأفكار النجسة أو انتقاد الإخوة أو غير ذلك، لكننا واحسرتاه كثيراً ما نخفق فلا نبلغ في حياة القداسة التقدم الذي طالما تُقنا إليه.
يضع جاي آدامس إصبعه على لب المشكلة عندما يقول: "لعلك سعيت بكل جد للحصول على تقوى فورية. فاعلم أنه لا وجود لأمر كهذا... إننا نريد أن يعين لنا أحدهم ثلاث خطوات سهلة لإحراز حياة التقوى فنخطوها بأقصر وقت وإذا بنا أتقياء. ولكن ما يزعج خواطرنا أن التقوى لا تتأتى بهذه الطريقة".
ويتابع آدمس ليبين أن طريق التقوى هو ترويض المؤمن المسيحي لنفسه. إلا أن مفهوم الترويض الذاتي أو الانضباط في مجتمعنا الحاضر مشكوك فيه، إذ يبدو مناقضاً لتشديدنا على الحرية التي لنا في المسيح، وتبدو عليه في الأغلب بصمات الروح الناموسية والتزمت.
رغم ذلك يوصينا بولس بأن نروّض أو نمرّن أنفسنا للتقوى (1 تيموثاوس 4: 7). وقد استعار بولس هذه الصورة المجازية من الترويض البدني الذي كان يمارسه رياضيو الإغريق. وقد قال في موضع آخر: "كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء" (1 كورنثوس 9: 25). وأضاف أن هذا هو النهج الذي يتبعه لحياته، والذي ينبغي لكل مؤمن مسيحي أن يتبناه (1 كونثوس 9: 24- 27). وقال أنه إذا كان الرياضي يروض نفسه لينال جائزة فانية، فكم بالحري يجدر بنا نحن المؤمنين المسيحيين أن نروض أنفسنا لكي ننال إكليلاً لا يفنى.
فالترويض كما يُستفاد من هذه الآيات، هو التدريب النظامي المدروس. ومن معاني الترويض والتدريب في هذا المجال، التصويب والتكميل والتنشئة الموجهة ناحية الملَكات العقلية أو الخلق الشخصي. وهذا ما يجب أن نعلمه إذا كنا نسعى في إثر القداسة: أن نعمل على تصويب خلقنا الشخصي وتكميله وتنشئته.
والتدريب على القداسة يبدأ بكلمة الله. فقد قال بولس: "كل الكتاب هو موحىً به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر" (2 تيموثاوس 3: 16). فهذا ما يساعدنا عليه الكتاب المقدس إذا استخدمناه. ويقول جاي آدمس: "بالطاعة الراغبة والدائمة لمطالب كلمة الله، مع المواظبة على الصلاة، تنمو لدينا قيم التقوى وتتأصل فينا كجزء منا لا يتجزأ".
نقرأ في الكتاب المقدس: "عُلِّمتم... أن تخلعوا... الإنسان العتيق... وتتجددوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق" (أفسس 4: 22 -24). وأين عُلِّمنا هذه الأمور؟ في كلمة الله فقط. إذاً فالتدرب للقداسة ينطلق من الكتاب المقدس- بخطة منتظمة للتزود الدائم من الكلمة وخطة ثابتة لتطبيقها في حياتنا اليومية.
وتعاوننا هنا مع الروح القدس جلي تماماً، ويمثل الرسم البياني التالي كيفية تفاعلنا مع الروح القدس:
فقد أنجز الروح القدس الجزء الأكبر من خدمته إذ زودنا بالكلمة كي تدربنا. وإذ نتعلم الكلمة، يستحضرها هو بكل أمانة إلى أذهاننا عندما نحتاج إليها في مواجهة التجارب. وفيما نسعى إلى العمل بكلمته في مختلف المواقف اليومية، يعمل فينا لتقويتنا. ولكن علينا أن نستجيب لما سبق أن أنجزه الروح القدس إذا أردنا أن نتوقع قيامه بالمزيد.
نرى إذن من واجبنا أن ندرّب حياتنا على الاغتذاء المنتظم بكلمة الله. فنحن نحتاج لأن نخصص وقتاً في كل يوم لقراءة الكتاب المقدس أو دراسته. وكل مؤمن مسيحي أحرز تقدماً في طريق القداسة هو شخص نظم حياته بحيث يمضي فترة دورية وهو عاكف على منهل الكتاب المقدس. فبكل بساطة، ليس من سبيل غير هذا إلى اتباع القداسة. إن إبليس يحاربنا دوماً ليثنينا عن هذه الخطوة. فلسوف يسعى إلى إقناعنا بأننا نشكو النعاس في الصباح، وكثرة الأشغال خلال النهار، والإرهاق في الليل. فيظهر أنه ليس من وقت مناسب لكلمة الله. وهذا يعني أنه ينبغي أن ندرب نفوسنا لنخصص وقتاً لذلك من برامجنا اليومية. وقد تبين لي أن ساعة الصباح الباكرة قبل الفطور أنفع وقت أمضيه في قراءة الكلمة والصلاة. ولكن هذه الساعة من النهار هي أيضاً الوقت الوحيد الذي فيه أستطيع أن أمارس بانتظام رياضتي المفضلة، وهي العدو الخفيف. وحتى أنجز كل هذا قبل الفطور يجب أن أستيقظ في الساعة الخامسة. وبما أني أحتاج لسبع ساعات من النوم ليلاً، فهذا معناه أن أخلد إلى النوم في الساعة العاشرة مساء. وهذا الأمر صعب ولا أقوى على إنجازه إلا عندما أدرب نفسي على تنظيم وقت المساء.
وتجد بعض ربات البيوت هذا الوقت الصباحي غير ملائم، ولا سيما إذا كان عليهن الاعتناء بسائر أفراد العائلة منذ الصباح الباكر. في هذه الحال، يجدن أن فترة ما بعد الفطور مباشرة هي أنسب وقت لقضاء خلوة مع الله. وهذا أيضاً يقتضي تدرباً لنترك كل شيء جانباً لفترة قصيرة، ما دامت مسؤوليات النهار تستوجب كامل انتباهنا.
فإن كان قبل الفطور أو بعده، صباحاً أو مساء، فالهدف هو أن ندرج في برنامجنا اليومي وقتاً مخصصاً للتزود من كلمة الله.
والتزود المنتظم من كلمة الله يستلزم علاوة على الوقت المنظم منهاجاً منتظماً. وعادة نظن أن طرق التزود من كلمة الله إنما هي أربع: سماع الكلمة تُفصَّل من قبل الخدام والمعلمين (إرميا 15:3)؛ قراءتنا الفردية للكلمة (تثنية 19:17)؛ دراسة الكلمة بجد ومثابرة (أمثال 1:2-5)؛ استظهار مقاطع مهمة منها (مزمور 119: 8). هذه الطرق كلها ضرورية للتزود المتوازن من الكلمة. فالرعاة حاصلون على الموهبة من لدُن الرب وقد تدربوا على التعليم "بكل مشورة الله". وقراءة الكلمة تؤتينا نظرة إجمالية في الحقائق الإلهية، فيما نتمكن بدراسة مقطع أو موضوع خاص من الغوص في أعماق حقيقة معينة. أما استظهار الكلمة فيساعدنا على تذكر الحقائق المهمة بحيث يمكننا أن نعمل بها في سلوكنا.
ولكن إذا أردنا السعي وراء القداسة بانضباط ذاتي، ينبغي لنا ألا نكتفي بسماع الكلمة أو قراءتها أو دراستها أو استظهارها. إذ يجب أن نتأمل فيها. وقد قال الرب ليشوع عندما كان يستعد لتولي قيادة شعب إسرائيل: "لا يبرح سفرُ هذه الشريعة من فمك بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه" (يشوع1 : 8). والتأمل في كلمة الله هو أن ننعم النظر فيها ونقلبها في أفكارنا ونطبقها في مواقف حياتنا. فقليل منا من يمارس هذا التأمل. قد تبدو فكرة التأمل أشبه بما كان يفعله نُسّاك الأديرة في القرون الوسطى. على أن يشوع، القائد الأعلى لجيش إسرائيل، أُمر رغم مهماته الجسام بأن يتأمل ملياً بشريعة الله، نهاراً وليلاً.
إن عادة التأمل في كلمة الله، وهي بكل بساطة أن يشغلنا التفكير بالكلمة وتطبيقها في الحياة العملية، هي عادة نكتسبها بالتدرب. وفيما يظن معظمنا أنه يعوزنا الوقت لهذه الأمور، نجد أن في النهار أوقاتاً يمكن استخدامها للتأمل إذا تكونت لدينا هذه العادة.
كنت من المتحمسين لسماع الأخبار اليومية، ويلذ لي الاستماع إلى نشرات الأخبار بالراديو وأنا أقود سيارتي في طريقي إلى العمل أو البيت أو أي مكان آخر. وقد حُفِّزْتُ يوماً على الاقتداء بصديق لي كان ينتهز هذا الوقت للتأمل في آيات من الكتاب المقدس. والآن أتعجب لكثرة الدقائق التي أقضيها متأملاً في آيات من الكتاب المقدس وفي تطبيقها العملي في حياتي. وربما لا تسنح لك مثل هذه الفرصة للتأمل في أثناء القيادة، لكن إذا فكرت في الأمر بروح الصلاة قد تجد فرصاً أخرى توافق برنامجك.
أما الغرض من تأملنا فهو تطبيق كلمة الله عملياً، أي إطاعتها. وهذا أيضاً يقتضي انضباطاً وتدرباً. إذ غالباً ما تفرض علينا كلمة الله أن نجري تغييراً في مناهج حياتنا. فلأننا خطاة بالطبيعة، تكونت لدينا مناهج شريرة ندعوها عادات. ولا غنى عن الانضباط للإقلاع عن أية عادة. فإذا كان فتى قد اعتاد استعمال مضراب البايسبول بأسلوب خاطئ فلا يعود بإمكانه أن يغير أسلوبه بسهولة. فقد نمتْ لديه عادة معينة حتى بات يحتاج إلى تدريب مكثف ينطوي على الكثير من التصويب والترويض لإبطال تلك العادة القديمة واكتساب أخرى جديدة.
وبالطريقة عينها، فإن مناهجنا في عصيان الله قد ترسّخت عبر سنين عديدة ولا يمكن إبطالها بسهولة أو بلا ترويض وتدريب. ولا يعني أن نصرّ بأسناننا ونصرخ: "لن أعيد ذلك أبداً". بل إن التدرب يعني بالأحرى تمرناً مبرمجاً ونظامياً. فكما تحتاج إلى خطة لقراءة الكتاب المقدس أو دراسته بانتظام، كذلك تحتاج إلى خطة لتطبيق كلمة الله في حياتك العملية.
وفيما أنت تقرأ كلمة الله أو تدرسها ثم تتأمل فيها خلال النهار، اسأل نفسك الأسئلة التالية:
1- ماذا يعلمني هذا المقطع بشأن مشيئة الله بخصوص حياة مقدسة؟
2- أين حياتي من مستوى هذا المقطع؟ وفيما أقصّر خصوصاً دون بلوغ الهدف، وكيف؟ (لا تتكلم بشكل عام بل حدّد).
3- أية خطوات عملية أحتاج لأن أخطوها في سبيل الطاعة؟
والجزء الأهم في هذه العملية المتكاملة هو التطبيق المحدد لكلمة الله في مختلف مواقف حياتنا. فعند هذه النقطة نميل إلى الإبهام لأن التزام خطوات معينة يزعجنا. ولكن علينا أن نبتعد عن الوعود العامة بالطاعة ونهدف عوضاً عن ذلك إلى الطاعة المحددة في حالات معينة. ونحن نخدع نفوسنا عندما ننمو في معرفة الحق دون الاستجابة له على نحو محدد (يعقوب 1: 22)، مما قد يفضي إلى الانتفاخ روحياً (1 كورنثوس 8: 1).
لنفترض أنك كنت تتأمل في الأصحاح الثالث عشر من رسالة كورنثوس الأولى، أصحاح المحبة العظيم. وبينما أنت تفكر في هذا الفصل، تدرك أهمية المحبة والتعبيرات العملية عنها: "المحبة تتأنى وترفُق. المحبة لا تحسد". وتُسائِل نفسك: "هل أنا غير صبور وغير مترفق تجاه أحد، أو هل أحسد أحداً ؟" وفيما أنت تفكر بهذا، تدرك أنك تحسد يوسف زميلك في العمل الذي على ما يبدو يحظى بالفرص السعيدة كلها. فتعترف بهذه الخطية للرب بالتحديد وتسمي يوسف باسمه وردة فعلك الخاطئة إزاء حظوته. وتسأل الله أن يغدق عليه بركاته وأن يعطيك أنت روح الرضى والقناعة لتقلع عن حسدك له وتكنَّ له المحبة، ولك أن تستظهر 1كورنثوس 13: 4 وتفكر بها عندما تلتقي يوسف في العمل، بل تبحث أيضاً عن طرق لمساعدته. ثم تكرر هذا في اليوم التالي وما بعده إلى أن يضع الله في قلبك روح المحبة تجاه يوسف.
هذا هو التدرب في سبيل القداسة. فلم يتأتى لك البتة أن تمُيت روح الحسد تجاه يوسف دون خطة منهجية محددة. هذه الخطة هي من قبيل ما نسميه انضباطاً وتدرباً.
وقد يتبين لك سريعاً أن هذه الخطة المنهجية للسلوك في القداسة هي عملية تستمر مدى الحياة. ذلك أن المواظبة من أكثر مقومات التدرب أهمية. وكل تدرب سواء كان جسدياً أو فكرياً أو روحياً، يتميز في مراحله الأولى بالفشل. ويكون الفشل في الأغلب أكثر من النجاح. لكن إذا واظبنا، نلاحظ التقدم تدريجياً حتى نبدأ بالنجاح فيخف الإخفاق. ويصح هذا عندما نحاول أن نميت خطية معينة. فيبدو لنا أول الأمر أننا لم نحرز أي تقدم، فتهن عزيمتنا، ونقول: ما المنفعة؟ لن أستطيع أن أتغلب على هذه الخطية. وهذا بالضبط ما يريد إبليس أن نفكر فيه.
عند هذا الحد بالذات يجب أن نمارس المواظبة. فنحن ما نزال نرغب في النجاح الفوري، ولكن القداسة لا تتحقق على هذا النحو لأن عاداتنا الخاطئة لا تبطُل بين ليلة وضحاها. فالمتابعة هنا أمر ضروري لإحداث أي تغيير في حياتنا، ولا بد من المثابرة على المتابعة حتى الإنجاز.
إن يوناثان إدواردز الذي صمم ألا يقوم بعمل يخاف أن يقوم به في آخر ساعة من حياته، عقد العزم أيضاً على القرار التالي: "قررتُ ألا أستسلم أو أتهاون في جهادي مع فساد قلبي مهما كان مقدار فشلي". ويبدو أول وهلة أن هذين القرارين متناقضان. فما دام إدواردز قد صمم ألا يفعل أمرا ًرديئاً، فلماذا يتكلم عن المواظبة في المعركة بغض النظر عن مدى فشله؟ ألم يكن مخلصاً عندما تعهد بأول تصميم؟ بلى، كان مخلصاً، ولكنه علم أنه سيواجه الفشل ولذلك لا بد من المثابرة. وعليه، فقد نوى أولاً أن يجتهد كي يعيش حياة مقدسة، ثم أن يواظب رغم السقطات التي توقّع حدوثها.
في كلمة الله آية أستخدمُها دائماً لمواجهة فشلي في محاربتي للخطية وهي واردة في سفر الأمثال 24: 16؛ "لأن الصدِّيق يسقط سبع مرات ويقوم. أما الأشرار فيعثرون بالشر". فالإنسان الذي يدرب نفسه في مسيرته نحو القداسة يسقط عدة مرات، لكنه لا يتراجع. فبعد كل سقطة ينهض ويوالي الجهاد. لكنه الأمر مختلف بالنسبة إلى الأشرار. الشرير يعثر بخطيته ويستسلم. فهو لا يملك قوة للتغلب عليها، لأن ليس له روح الله القدوس يعمل في داخله.
كان أشعياء نبياً لله يسلك في بر وصاياه. لكنه لما رأى الرب الإله في قداسته اضطر أن يصرخ: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (أشعياء 6: 5) .
فبينما ننمو في معرفة قداسة الله، ولو كنا ننمو أيضاً في ممارسة القداسة، يبدو لنا أن الثغرة بين معرفتنا وممارستنا آخذة في الاتساع. وهذا هو أسلوب الروح القدس في اقتيادنا إلى المزيد من القداسة.
كلما تقدمنا في القداسة أبغضنا الخطية (مزمور 119: 104)، وأيقنا أن وصاياه ليست ثقيلة علينا (1 يوحنا 5: 3). فإذا أردنا النجاح في حياة القداسة ينبغي علينا أن نواظب رغم المفشلات والسقطات.
- عدد الزيارات: 1882