الفصل السادس: الجهاد في سبيل القداسة
"وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد. لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلاطية 5: 16و 17).
إننا تحررنا من سلطان الخطية باتحادنا مع المسيح في موته. ولكن ما انفك جسد الخطية يقاومنا. وقد وصف بولس هذا الوضع بدقة عندما قال: "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد" (غلاطية 5: 17). وربما لا يعجبنا أن تدوم هذه المقاومة طوال العمر، ولكن كلما أدركنا هذا الواقع وتقبلنْاه تسلحْنا على نحو أفضل لمواجهته. وكلما اكتشفنا طبيعة الجسد القديم، قلّ شعورنا بتأثيره. وبمقدار ما نكتشف الخطية، نشمئز منها ونحاربها.
رغم هذه النزعة الجسدية الكامنة في داخل المؤمن المسيحي، فإن الروح القدس يبقي فيه رغبة عارمة نحو القداسة (1 يوحنا 3: 9). فيجاهد ضد هذه النزعة التي يقدره الله أن يراها في نفسه. هذه هي الصورة التي تتجلى في غلاطية 5: 16و 17، وتبين وجه الفرق بين المسيحي المؤمن وغير المؤمن الذي يهجع وسط الظلام راضياً قانعاً.
كما ورد في الفصل السابق فإن جسد الخطية ما زال موجوداً رغم كونه قد خلع عن العرش. وطبيعته لم تتغير رغم هزيمتها وضعفها. وهكذا فإن في داخلنا عدواًً للبر عنيداً. فأي اجتهاد أو يقظة يجب أن نبذل ما دام هذا العدو الكامن في نفوسنا مستعداً لمعارضة أي سعي.
وإذا أردنا أن نخوض حرباً ناجحة ضد هذا العدو الداخلي، فمن المهم جداً أن نحوز بعض المعلومات حول طبيعته ومخططاته. فطبيعته، أولاً، هي تلك الطبيعة الجسدية الساقطة التي تشتهي ضد الروح، ومن مخططاته أن يهاجم القلب محاولاً التأثير عليه لأن القلب هو المركز الرئيس بل هو كيان الإنسان الداخلي.
والقلب في الكتاب المقدس له عدة معان، فهذه الكلمة تارة تعني الفكر أو العقل وطوراً تعني العواطف والانفعالات، وأحياناً تعني الإرادة. وبشكل عام، فإن هذا التعبير يشير إلى نفس الإنسان بكاملها، بكل ما فيها من مقدرات تجتمع معاً لعمل الخير أو الشر. فالعقل في ما يستنتج ويميز ويحكم، والعواطف في ما تحب أو تكره، والضمير في ما ينذر ويقرر، والإرادة في ما تختار أو ترفض، كل هذه الأمور يطلق عليها اسم القلب.
ويفيدنا الكتاب المقدس أن القلب لا يستطيع أحد أن يسبر غوره إلا الله وحده (إرميا 17: 9و 10)، حتى أننا نحن المؤمنين المسيحيين أيضاً نجهل قلوبنا (1كورنثوس 4: 3- 5). وليس في وسع أحد أن يعي تماماً ما في قلبه من الدوافع الخفية، أو المكايد السرية أو الميول والتقلبات.
والقلب أيضاً مضلل. فهو يبرر تصرفاتنا ويختلق لها الأعذار ويعقلنها، ويعمي بصيرتنا عن نواح من الخطية دفينة في حياتنا. وهو يجعلنا نتعامل مع الخطية بمقاييس ناقصة، أو نظن أن الموافقة الذهنية على كلمة الله والطاعة هما سيان (يعقوب 1: 22).
إذاً، نحن بأمس الحاجة لأن نلتمس من الله يومياً أن يفحص قلوبنا بحثاً عن انحراف لا نستطيع، أو لا نريد رؤيته. وهذا كان محور صلاة داود عندما قال: "اختبرني يا الله واعرف قلبي امتحنّي واعرف أفكاري. وانظر إن كان فيّ طريق باطل واهدني طريقاً أبدياً" (مزمور 139: 23و 24).
أما الوسيلة الأساسية التي بها يختبر الله قلوبنا على هذا النحو فهي كلمته المقدسة، إذ نقرأها ونحن خاضعون لسلطان الروح القدس: "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته" (عبرانيين 4: 12). فإذ نصلي طالبين إلى الله أن يمتحن قلوبنا، علينا أن نعرض أنفسنا باستمرار لكلمته الفاحصة.
وهنا يجب أن نحذر فنفسح في المجال للروح القدس حتى يقوم هو بدور الفاحص. لأننا إذا حاولنا أن نمتحن قلوبنا بأنفسنا نكون عرضة للوقوع في أحد الفخين التاليين أو في كليهما معاً. الفخ الأول هو مرض الاستبطان أو فحص الذات، إذ من السهل أن يصبح امتحان الذات أداة بيد إبليس الذي يُدعى "المشتكي" (رؤيا 12: 10). فمن أسلحته الرئيسة سلاح تثبيط العزيمة. وهو يعلم أنه إذا أفلح في تثبيط همتنا وأوقعنا في الاكتئاب يمنعنا من الجهاد في سبيل القداسة.
أما الفخ الثاني فهو الإخفاق في إدراك القضايا الأساسية في حياتنا. فمن شأن مخادعة إبليس وقلوبنا أن تقودنا إلى التركيز على الأمور الثانوية. أذكر شاباً يافعاً قصدني ليتحدث معي عن مشكلة خطية في حياته لم يكن بمقدوره أن يسيطر عليها. ورغم أن هذه المشكلة كانت تطغى بمفردها على كل آفاق ذهنه، فقد كانت عينه كليلة عن رؤية مواطن ضعف أخرى في حياته. فالخطية التي كان يراها كانت تؤذيه شخصياً، أما الخطايا الأخرى التي لم يكن يعيها، فقد كانت تجرِّح الآخرين يومياً. إنما الروح القدس وحده يقدّرنا أن نرى هذه النواحي التي تعمى بصيرتنا عنها.
أما الأمر الثاني الذي يجب أن ندركه فهو أن الطبيعة القديمة تحاول أن تعمل على نطاق واسع من خلال رغائبنا. فالإنسان منذ سقوطه في جنة عدن وهو يصغي إلى شهواته أكثر مما يصغي إلى عقله، هذه الشهوة التي باتت أقوى عامل في قلب الإنسان. فعندما تواجه مستقبلاً، تجربة من تجاربك المعهودة، لاحظ الصراع بين شهواتك وعقلك. فإذا انقدْتَ إلى التجربة فذلك يعني أن النصر كان حليف الشهوة.
إن العالم يدرك هذا الواقع ويحاول جذب رغائبنا من خلال ما يسميه الكاتب إلى العبرانيين "التمتع بالخطية" (عبرانيين 11: 25).
بالطبع ليست كل رغبة شريرة بالضرورة. لأن بولس يتكلم عن رغبته في معرفة المسيح (فيلبي 3: 10) وعن رغبته في خلاص أخوانه اليهود (رومية 10: 1)، ورغبته في بلوغ أولاده الروحيين إلى مرحلة النضوج (غلاطية 4: 19). على أننا نتكلم في هذا السياق عن الرغبات الشريرة التي تدفعنا إلى الخطية. ويقول يعقوب أن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته الشريرة (يعقوب 1: 14). وإذا شئنا الفوز في جهادنا في نهج القداسة، يجب أن نعترف أن أساس المشكلة يكمن في داخلنا، لأن شهوات الطبيعة الساقطة هي التي تدخلنا في التجربة. قد نظن أننا نستجيب فقط لإغراءات خارجية تُقدم لنا، ولكن أحياناً نشعر برغبات نابعة في دواخلنا.
هناك بالطبع مناسبات عديدة تواجهنا فيها التجربة على نحو غير متوقع. وعندئذ تكون ميولنا الشريرة مستعدة لأن ترحب بالتجربة وتعانقها. ومثلما تلتهم النار أية مادة قابلة للاحتراق تلقى فيها، كذلك تتجاوب رغباتنا الشريرة مع التجربة في الحال. وقد قال جون أوين (John Owen) إن الخطية تواصل حربها محاولة أسر عواطفنا داخل أحبولتها. لهذا السبب يكون الامتناع عن الخطية، كما يقول أوين أيضاً، بالتيقن أن رغباتنا منصرفة إلى تمجيد الله لا منحرفة إلى إشباع شهوات أجسادنا.
والأمر الثالث الواجب إدراكه بشأن الطبيعة القديمة هو أنها نزّاعة إلى تضليلنا في فهمنا للأمور أو تحليلنا لها. فإن عقولنا التي استنارت بالروح القدس من خلال كلمة الله، تقف عقبة في وجه الميول الجسدية لمنعها من السيطرة علينا بواسطة رغباتنا. ولهذا فإن خطة الشيطان الاستراتيجية الكبرى هي أن يخدع عقولنا. وقد تحدث بولس عن "شهوات الغرور" في الإنسان العتيق (أفسس 4: 22) كما قال إننا كنا قبلاً: "ضالين مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة" (تيطس 3: 3). ومع أن الشاهدين المذكورين يتكلمان عن حياتنا القديمة، ينبغي أن ندرك أن هذا الخداع ما انفك يواجهنا من حين إلى آخر.
يجري خداع العقل على مراحل، رويداً رويداً. فنبتعد في الدرجة الأولى عن الحذر واليقظة، ثم عن الطاعة. ونصبح مثل أفرايم الذي قال عنه الله: "أكل الغرباء ثروته وهو لا يعرف وقد رشّ عليه الشيب وهو لا يعرف" (هوشع 7: 9). وقد نبتعد عن الحذر من جراء فرط الثقة بالنفس، حتى نتصور أننا في حصانة من جهة تجربة معينة، فننظر على شخص آخر يسقط ونقول: "لن أفعل هذا أبداً". ولكن بولس ينذرنا بقوله: "إذاً، من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (1كورنثوس 10: 12). حتى ونحن نساعد أخاً قد زل، يجب أن نأخذ حذرنا كي لا نُجرب نحن أيضاً (غلاطية 6: 1). إننا نبتعد غالباً عن الطاعة عندما نسيء استعمال النعمة: عندما نظن أن بإمكاننا أن نقترف الخطية ثم نحصل على الغفران عملاً بالآية الواردة في 1يوحنا 1: 9. وأيضاً نسيء استعمال النعمة إذا أخطأنا ثم صرفنا أفكارنا كلياً نحو رأفة الله ورحمته دون أي اعتبار لقداسته وكرهه للخطية.
كما أننا ننحرف عن سبيل الطاعة عندما نسمح بأن يساورنا الشك في ما يقوله الله في الكلمة المقدسة. وهذه كانت خطة إبليس الأولى مع حواء (تكوين 3: 1- 5). فكما قال لحواء: "لن تموتا" هكذا يقول لنا: "هذا شيء طفيف" أو "الله لن يحاسب على مثل هذه الخطية".
وهكذا نرى، أنه رغم كون الخطية قد فقدت سلطانها علينا، فهي ما زالت تحاول أن تثبت وجودها، فإذا تغاضينا عنها استعادت نشاطها. أما دورنا والحالة هذه فهو التنبه ثم التعامل بسرعة وحزم إزاء أي تحرك مشبوه للخطية. لذا علينا ألا نتوهم أبداً أن جهادنا ضد الجسد قد بلغ نهاية شوطه. فإن القلب البشري لا يسبر له غور، والرغبات الجسدية ما زالت موجودة والعقل الفطن عرضة لأن يُضلل كل حين. وحقاً قال الرب يسوع: "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة، أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف" (متى 26: 41)، ونبهنا سليمان الحكيم بقوله: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" (أمثال 4: 23).
- عدد الزيارات: 2162