الفصل الخامس: انتقال من مملكة إلى مملكة
"عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطيّة كي نعود نستعبد أيضاً للخطية. لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية" (رومية 6: 6 و 7).
طالما رغب الكثيرون من المؤمنين المسيحيين في أن يحيوا حياةً مقدّسة، لكنهم باتوا يعتقدون أن ذلك صعب المنال، إذ جاهدوا سنين عديدة في محاولة للتغلب على بعض الخطايا أو النقائض الخُلُقية. وفي حين لا يتورّطون في خطايا فادحة فاضحة، فقد أقلعوا عن أية محاولة للعيش في القداسة واستقروا على حياة أخلاقية ضحلة المستوى لا ترضي الله ولا ترضيهم. ويبدو الوعد الوارد في رومية 6: 6و7 بعيداً كل البعد عن متناول أيديهم. أما ما تتضمنه كلمة الله من وصايا صريحة تحثُّ على حياةٍ مقدسة في كل شيء فذاك يعمل فقط على تثبيط عزائمهم.
وقد جدَّ الكثيرون في طلب حياة القداسة بقوة إرادتهم الذاتية، فيما التمسها الآخرون بالإيمان وحده. وقد جاهد الكثيرون في الصلاة للتغلب على خطية معيّنة، ولكن دون فائدة. كما قد كُتبت عشرات الكتب لمساعدتنا على اكتشاف سر الحياة المنتصرة.
في بحثنا عن حلول لمشاكل الخطية التي نعاني، يواجهنا سؤال عسير: "فيمَ أعتمد على الله وأين تقع مسؤوليتي الذاتية؟" إذ في بداية حياتنا المسيحية نظن بكل ثقة أننا سنكتشف بسهولة ما يريده الله لنا في كلمته المقدسة، ومن ثم نعمل بموجب إرادته. ولكننا نخفق إذ لا نحسب حساب ميلنا إلى التعلّق بسُبلنا القديمة الخاطئة.
وبعد اختبار جولات من الفشل الذريع في مصارعة طبيعتنا القديمة، نجد من يقول لنا أننا حاولنا أن نعيش الحياة المسيحية بقوة الجسد، وأننا نحتاج إلى "الكفّ عن المحاولة، والبدء بالاتكال" أو يقال لنا: "تخلَّ عن هذا واسمح لله أن يعمل". ورُبَّ قائل أننا إذا سلّمنا مشكلتنا مع الخطية إلى المسيح واسترحنا على عمله التام فوق الجلجثة، فلا بدَّ أن يحيا حياته فينا فنختبر حياة النصرة على الخطية.
بعد فشلنا وخيبات أملنا في محاربة الخطية، تفرح قلوبنا عندما نسمع أن الله قد أتمَّ العمل، وما علينا نحن سوى أن نستريح على عمل يسوع الكامل. فبعد الجهاد المرير ضد الخطية إلى حد اليأس، تظهر هذه الفكرة الجديدة كأنها حبل نجاة للغريق، ويكاد وقعها أن يكون كوقع سماعنا لبشارة الخلاص أوّل مرّة.
لكن إذا كنّا صادقين مع أنفسنا، سوف نكتشف بعد فترة أننا ما زلنا نختبر الهزيمة على يد طبيعتنا القديمة الساقطة. ويبدو لنا أن النصر الذي وُعِدنا به ما زال يراوغنا. ما زلنا نتصارع مع الكبرياء والحسد والمادية فضلاً عن الشهوات وعدم الصبر والاحتمال. وما زلنا نتهالك على تناول الأطعمة بكثرة، ونضيع الوقت سدى، وننتقد بعضنا بعضاً، ونحجب الحقيقة قليلاً، ونطلق العنان لجملة من الخطايا، كل هذا ونحن نعاف أنفسنا دائماً لهذه الأعمال عينها.
ثم تأخذنا الحيرة ونسأل النفس: "ما خطبي؟ لماذا أنا عاجزٌ عن اختبار النصرة التي تستفيض في وصفها بعض الكتب ويبدو أن الآخرين قد اختبروها؟" ويتسرب إلينا شعور بأن لدينا نحن خطأً فادحاً بصورة مميزة، كأن تكون طبيعتنا الساقطة مثلاً أكثر شراً من طبيعة الآخرين، فيدبّ فينا اليأس.
منذ سنوات خلت نبّهني أخ مسيحي مؤمن إلى أن الشيطان سيحاول أن يشوشني في موضوع ما فعله الله من أجلنا وما يجب أن نعمله نحن. وقد أدركت فعلاً كم كان نافذ البصيرة عندما نبّهني إلى ذلك. فالجهل السائد حول هذا الموضوع أفضى بالكثيرين إلى الارتباك والحيرة في السعي وراء القداسة. فمن المهم جداً أن نعي وجه الاختلاف هنا: إن الله قد أعدّ لنا العدّة لكي نسلك في القداسة، ولكنه أيضاً ألقى على عواتقنا مسؤوليات محددة.
فلنلق أولاً نظرة على ما أعده الله لنا. نقرأ في الكتاب المقدس: "إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته" (رومية6: 12). وأول أمر يجب ملاحظته في هذه الآية هو أن السعي وراء القداسة فعل يجب أن نقوم نحن به (أي لا نسمح للخطية أن تملك في جسدنا). فقول بولس هذا هو من باب الحضّ والنصح. فهو يوجّه الخطاب إلى إرادتنا الشخصية إذ يقول: "لا تملكن الخطية"، مما يعني أن هذه الأمر يقع ضمن نطاق مسؤوليتنا. فاختبار القداسة ليس هبة نحصل عليها مثل هبة التبرير، بل بالحري أمر نحثّ حثاً صريحاً على العمل لأجله.
والأمر الثاني الذي تجب ملاحظته هو أن تحريض بولس هذا يرتكز على ما قاله سابقاً. فلننتبه إلى الوصول في حرف الجواب "إذاً". لما سبق أن قلته لتوي، "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت". بتعبير آخر: علينا أن نسعى في إثر القداسة بسبب بعض الحقائق.
ما هي هذه الحقائق؟
لنلق نظرة على رومية 6، نجد أنه جواباً عن السؤال: "أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟" يقول بولس: "نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها" (العددان 1 و2)، ثم يفصل هذه الفكرة في الأعداد 3-11. فمن الواضح أن الكلمة "إذاً" (العدد 12) تشير إلى واقع كوننا متنا عن الخطية، فلأننا متنا عن الخطية، يجب ألاّ ندعها تملك أبداً في جسدنا الفاني.
وإنه لأمرٌ حيوي أن نفهم ما يعنيه بولس في العبارة "متنا عن الخطية"، إذا رغبنا في العمل بهذه النصيحة المؤكدة. فلدى قراءتنا هذا الفصل نرى أن موتنا عن الخطية هو نتيجة لاتحادنا مع المسيح (الأعداد 2_11). لأنه هو مات عن الخطية، متنا نحن أيضاً عنها. وعلى ذلك، فمن الجلي أن موتنا عن الخطية ليس من عملنا بل هو أمر أتمه المسيح، وقيمة هذا العمل تصح شرعاً على جميع الذين اتحدوا معه.
ملاحظة ثانية يمكن استنتاجها وهي أن موتنا عن الخطية حقيقة واقعة، أدركنا ذلك أم لم ندركه. فلأن المسيح مات عن الخطية، فكل الذين اتحدوا به ماتوا عنها. وموتنا هذا عن الخطية ليس نتيجة عمل نقوم به أو نحققه في اختباراتنا بمجرد أن نحسب أنه هكذا، وقد أساء بعضهم فهم هذه النقطة، إذ فهموا بطريقة من الطرق أن موتنا عن الخطية معناه أننا أصبحنا بمنأى من قدرة الخطية على المسّ بنا. ولكن لكي نختبر هذا في حياتنا اليومية، كما نفاد هنا، ينبغي لنا أن نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية (العدد 11). ثم نفاد، من بعد، أننا إذا كنا لا نختبر النصر على الخطايا المحدقة بنا، فمعنى ذلك أننا لا ندخل في الحسبان كوننا قد متنا حقاً عن الخطية.
علينا بالفعل أن نحسب (نعتبر أو نعدّ) أنفسنا أمواتاً عن الخطية، لكن هذا الحسبان لا يجعل الأمر واقعاً ملموساً في اختباراتنا. فمن الواجب أن نفهم العددين 11و12 وباعتبارهما مقرونين معاً. فلأننا أموات عن الخطية باتحادنا مع المسيح، لذلك يجب ألا تملك الخطية في جسدنا المائت. فاختبارنا اليومي في ما يختص بالخطية لا يحدده حسابنا بل إرادتنا- هل ندع الخطية تملك في أجسادنا. ولكن من الواجب أن يؤثر في إرادتنا واقع كوننا قد متنا عن الخطية.
ماذا يعني بولس إذاً بعبارته "متنا عن الخطية؟" هو يعني أننا متنا بالنسبة إلى سيادة الخطية أو سلطانها. فقبل أن نضع ثقتنا في يسوع المسيح لأجل خلاصنا كنا نعيش في مملكة إبليس والخطية. حيث "سلكنا حسب دهر هذا العالم حسب رئيس سلطان الهواء [إبليس]" (أفسس 2: 2). كنا تحت سلطان الشيطان (أعمال 26: 18) وسلطان الظلمة (كولوسي 1: 13). ويقول بولس أننا كنا عبيداً للخطية (رومية 6: 17). فنحن قد وُلدنا في مملكة الخطية والعبودية والموت. وكل إنسان عاش منذ عهد آدم، ما خلا ابن الله المتجسد، قد وُلد عبداً في مملكة الخطية وإبليس، لكنا باتحادنا مع المسيح متنا عن مملكة الخطية هذه. فقد اعتقنا من الخطية (رومية 6: 18) وأنقذنا من سلطان الظلمة (كولوسي 1: 13)، و رُددنا من سلطان الشيطان إلى الله (أعمال 26: 18). فقبل خلاصنا كنا نرزح تحت عبودية الخطية، تحت سلطانها وحكمها. وبصرف النظر عن مستوى أخلاقنا وسلوكنا اللائق، كنا نعيش في مملكة الخطية. لكن الآن باتحادنا مع المسيح في موته عن الخطية، قد نُقلنا من دائرة الخطية ووُضعنا في مملكة البر ودائرته.
في تعليق للأستاذ جان موري (John Murrey) على هذه العبارة "متنا عن الخطية" يقول: "إذا اعتبرنا الخطية مملكة أو دائرة، فالمؤمن المسيحي لا يقيم فيها. وكما يصح القول عندما نشير إلى الحياة في هذا العالم إن الإنسان الذي مات قد [عبر فإذا هو ليس بموجود والتمسته فلم يوجد] (مزمور 37: 36)، كذلك ينطبق هذا على عالم الخطية؛ فالمؤمن ليس بعد هناك لأنه مات عن الخطية.... وقد مات عن الخطية مرة واحدة ونقل إلى دائرة أخرى".
ولأننا كنا في مملكة الخطية هذه، تحت سلطانها وسيادتها، بدأنا نخطئ منذ نعومة أظفارنا. ولما كنا عبيداً فقد كنا نتصرف كعبيد، ونمت فينا عادات شريرة وأخلاق فاسدة. حتى أننا، ولو كنا ممن يعتبرهم الناس "صُلاحاً"، كنا نحيا لأنفسنا وليس لله. وكان موقفنا من المسيح معبراً عنه بما قال أعداؤه: "لا نريد أن هذا يملك علينا" (لوقا 19: 14).
ولكن ما دُمنا قد أُعتقنا من هذه المملكة فلماذا نخطئ بعد؟ فمع أن الله قد خلصنا من سلطان الخطية، فما زالت طبيعتنا الساقطة كامن في دواخلنا. ورغم أن سلطان الخطية وسيادتها قد انكسرت شوكتها، فإن فلول الخطية الساكنة في جسد المؤمن ما زالت تبذل قوة مروعة هائلة، وهي نزاعة نحو الشر دائماً. سأضرب مثلاً على هذا الصراع الدائر يوضح بجلاء صحة هذا القول. ففي بلد من البلدان، كانت فئتان متنافستان تتنازعان بهدف السيطرة على الدولة. وفي آخر المطاف تمكنت فئة منهما، بمساندة جيش غريب، أن تربح الحرب وتتسلم زمام الحكم. ولكن الجهة الخاسرة لم تنفك عن القتال، بل بدلت فقط منهاج مخططاتها الحربية، واستمرت في النضال. وقد نجحت هذه الفئة لدرجة أصبحت معها الدولة التي كانت تقدم المعونة الخارجية عاجزة عن سحب جنودها.
هذا هو شأن المسيحي المؤمن. فقد هُزم إبليس وأطيح بسلطان الخطية، ولكن طبيعتنا الساقطة تلجأ إلى نوع من المناوشات العسكرية لكي تجرنا على الخطية، فتكون النتيجة صراعاً بين الروح القدس والطبيعة الساقطة. وقد تكلم الرسول بولس في رسالة غلاطية عن هذا الصراع. "لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلاطية 5: 17).
ثم إننا لما كنا قد وُلدنا خطأة فقد نشأت لدينا بعد الولادة عادات خاطئة. وكما يقول جاي آدامس (Jay Adams): "حقاً إننا وُلدنا خطأة، لكن لزم الأمر إلى الممارسة لاكتساب أساليبنا الخاصة في ارتكاب الخطية. وهكذا تدربت الطبيعة القديمة على الإثم والشر."ونحن جميعاً نزاعون إلى التصرف بموجب هذه العادات القبيحة التي نُقشت في داخلنا خلال التمرس الطويل.
لنفترض مثلاً أنه كان برجلي عرجٌ، فاعتدت أن أعرج في المشي. فإذا أُجريت لي عملية جراحية فشفيت من العرج، فإني سأظل ميالاً إلى مشية العرج بحكم العادة. هل تظن أولئك العبيد الذين حررهم ابراهام لنكولن، ابتدأوا يفكرون تفكير الأحرار؟ إنهم دون أدنى شك كانوا يميلون حيناً على التصرف كأنهم ما زالوا عبيداً بعدما اكتسبوا عادات العبودية التي تأصلت فيهم.
على هذا المنوال ينزع المؤمن المسيحي إلى الخطيئة من باب العادة. إذ من دأبنا أن نهتم بأنفسنا أكثر من اهتمامنا بالآخرين، وأن نثأر لأية إهانة، وأن نطلق العنان لشهوات الجسد، ومن عاداتنا أن نحيا لأنفسنا، وليس لله. ونحن لا نطرح هذه العادات بين ليلة وضحاها عندما نصبح مسيحيين حقيقيين، بل إننا في الواقع سنقضي بقية عمرنا ونحن نطرح عنا هذه العادات ونكتسب عادات القداسة. ولا يقتصر الأمر فقط على أننا كنا عبيداً للخطية بل إننا ما زلنا نعيش في عالم يعج بعبيد الخطية. حتى القيم التي يوافق مجتمعنا عليها تنعكس فيها صورة هذه العبودية، ويضغط العالم علينا لعلنا نتكيف طبقاً لقالبه الخاطئ الخاص.
لذلك، ورغم كون الخطية قد فقدت سلطانها على حياتنا، فإنها ستحاول باستمرار أن تنقض علينا. ورغم تحريرنا من مملكة الخطية ومن سيادتها فنحن لما نحرر من هجماتها. وكما يقول الدكتور مارتن لويد جونز (Martyn Lioyd Jones) في سياق شرحه لرومية 6، رغم كون الخطية لا تستطيع ان تملك فينا، أي في جوهر شخصيتنا، فهي إذا لم تُضبط قد تملك في أجسادنا الفانية. إنها تحول الغرائز الطبيعية في أجسادنا إلى شهوات، وشهيتنا الفطرية للطعام إلى تهالك على الطيبات، كما تحول حاجتنا للكسوة والملجأ إلى نزعة مادية غلابة.
لهذا السبب يحضنا بولس أن نتيقظ لئلا تملك الخطية في أجسادنا. قبل خلاصنا وموتنا عن سيادة الخطية، كان تحريض كهذا يبدو عقيماً بلا جدوى. فلا يمكنك أن تقول لعبد: "عش حراً"، لكن بإمكانك أن تقول هذا لشخص قد أُعتق من العبودية. أما وقد متنا حقاً عن الخطية (بالنسبة لسلطانها وسيادتها) علينا أن نحسب هذا الأمر حقيقة واقعة؟ فينبغي أن نضع نصب أعيننا واقع كوننا لم نعد عبيداً. إذ بإمكاننا الآن أن نواجه الخطية ونصدها. لم يكن لدينا الخيار قبلاً، لكن ذلك أصبح الآن في حوزتنا. فعندما نرتكب خطية ما، نحن المؤمنين المسيحيين، لا نخطئ كما لو كنا عبيداً، بل كأفراد لهم حرية الاختيار.
وخلاصة القول أننا قد أُعتقنا من سلطان الخطية وحكمها، من مملكة الشر، وذلك باتحادنا مع المسيح في موته. لما دخل المسيح عالمنا هذا، دخل طوعاً واختياراً دائرة الخطية، إلا أنه ما أخطأ قط. ولما مات، فقد مات للخطية (رومية 6: 10)، ونحن أيضاً باتحادنا معه متنا بالنسبة للخطية وسلطانها. فينبغي أن نحسب حساباتنا على أساس كوننا أمواتاً بالنسبة لمملكة الخطية، فنقوى على التصدي لها وعلى صدها. لذلك علينا أن نحمي أجسادنا كي لا تسودنا الخطية.
وهكذا نرى أن الله قد سبق فأعد لنا العدة للقداسة، إذ أُعتقنا من سلطان الخطية بالمسيح، فصار بإمكاننا أن نقاومها. إنما مسؤولية المقاومة تقع على عواتقنا. فالله لا يقدم على هذا العمل عوضاً عنا. وإما أن نخلط طاقة المقاومة (التي أعدها الله) بمسؤولية المقاومة (وهي تقع على عواتقنا) فهذا يعني الكارثة المحتومة في سعينا وراء القداسة.
- عدد الزيارات: 1652