Skip to main content

الفصل الرابع: قداسة المسيح

"لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (2كورنثوس 5: 21).

قبل المضي في الحديث عن القداسة في حياتنا، يحسن بنا أن نتأمل في قداسة المسيح. فنحن بحاجة إلى هذا في المقام الأول كي نكون راسخين بكل ثبات في الإيمان الذي لنا في المسيح. وكلما تعمقنا في دراسة مضامين الوصية "كونوا قديسين لأني أنا قدوس"، رأينا بوضوح بشاعة طبيعتنا الساقطة، ورأينا شر قلوبنا وخداعها وإلى أي مدى نفتقر إلى القداسة الكاملة التي تليق بالله.

حتى إذا حصل ذلك، فإن المسيحي الحقيقي يخفّ بكل جوارحه ملتجئاً إلى المسيح. ولذلك فمن المهم جداً أن نعي برّ المسيح وحقيقة كون هذا البرّ مقيداً في حسابنا.

تشهد كلمة الله، في مناسبات عديدة، أن يسوع خلال وجوده على أرضنا هذه عاش حياة مقدسة بكل ما في الكلمة من معنى. فنراه يوصف تارة بأنّه "بلا خطية" (عبرانيين 4: 15) وطوراً بأنه "الذي لم يفعل خطية" (1بطرس 2: 22) أو الذي "لم يعرف خطية" (2كورنثوس 5: 21).

ويصرح الرسول يوحنا بقوله أن ليس فيه خطية (1يوحنا 3: 5). كما يصف العهد القديم يسوع بأنه "البار" (أشعياء 53: 11) والذي أحب البرّ وأبغض الإثم (مزمور 45: 7). هذه التصريحات المقتبسة من ستة كتّاب مختلفين من كتبة الكتاب المقدس، تدل على أن برارة يسوع وبراءته من الخطية تعليم يجمع عليه الكتاب المقدس كله.

على أن ما يفرض نفسه بقوة هو شهادة يسوع عن نفسه ففي إحدى المناسبات وقف وجهاً لوجه أمام الفريسيين وسألهم: "من منكم يبكّتني على خطية؟" (يوحنا8: 46). وقد علق أحدهم على هذه الحادثة قائلاً: لا تكمن الأهمية هنا في أن الفريسيين أخفقوا في الإجابة بل بالحري في كون الرب قد طرح هذا السؤال بكل جسارة، لا سيما وهو في مواجهة مباشرة مع أناس يكنّون له الكراهية. إلى ذلك فقد أخبرهم أنهم من أب هو إبليس وشهوات أبيهم يريدون أن يعملوا. وبالطبع فلو كان لأي منهم ما يدعوه لأن يلفت نظر الرب إلى أي تصرف طائش صدر عنه، أو أي عيب في خلقه الكامل لكان بادر إلى كشفه. أضِف أن يسوع طرح هذا السؤال أمام تلاميذه الذين كانوا برفقته دوماً ولديهم الفرص الكافية لملاحظة أي مأخذ على سيرته لو وجد. مع ذلك أقدم المسيح على طرح هذا السؤال لأنه علم أن هناك جواباً واحداً: إنه بلا خطية.

إلا أن قداسة يسوع هي أكثر من مجرد خلوّ سيرته من أية خطية فعلية. إنها أيضاً الموافقة التامة لإرادة أبيه. فقد صرّح بأنه نزل من السماء "ليس لأعمل مشيئة الذي أرسلني" (يوحنا 6: 38). وقال في مناسبة أخرى: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني" (يوحنا 4: 34). ولعل أعظم شهادة لقداسته التامة ما قاله في يوحنا 8: 29، "لأني في كل حين أفعل ما يرضيه".

هذا التصريح غير القابل للنقص، لا بد أن يتضمن لا التصرفات وحدها بل المواقف والدوافع أيضاً. فمن الممكن أن نتصرف نحن حسناً ولكن بحافز غير صالح، وهذا لا يرضي الله. فالقداسة هي أكثر من تصرّفات وأعمال مجرّدة إذ يجب أن تكون دوافعنا أيضاً مقدّسة، أي إنّها تنبع من رغبةٍ في عمل الشيء فقط لأنّه يوافق إرادة الله. ويجب أن تكون أفكارنا مقدّسة، ما دام الله يعرفها حتى قبل أن تتكوّن في عقولنا. وفي يسوع المسيح بكل هذه المقاييس وفاءً كاملاً، وقد فعل ذلك نيابةً عنّا. فقد جاء إلى هذا العالم مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس (غلاطية 4: 4و5 ).

وكلّما تأمّلنا بجدّية في قداسة الله، تكون ردّة فعلنا الطبيعية ما قاله أشعياء: "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينيَّ قد رأتا الملك ربَّ الجنود" (أشعياء 6: 5).

والنظرة الجدية إلى قداسة الله، أي كماله الأدبي ومقته اللا متناهي للخطية، لا بد أن تحدث فينا ما أحدثته في أشعياء، فيتبيّن لنا افتقارنا الكلّي إلى القداسة ونطأطئ الرأس خجلاً. إذ من شأن طهارته الأدبية أن تفضح نجاستنا الذاتية أيمَّا فضح.

وعلى ذلك فمن الضروري أن نحصل على التأكيد عينه الذي حصل عليه أشعياء: "انتُزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك" (أشعياء6 :7). ونحن لا نحتاج إلى هذا التوكيد فقط في مستهلّ حصولنا على الخلاص، بل إننا كلما نمونا في القداسة، احتجنا في الواقع أكثر فأكثر إلى هذا التأكيد: إنّ برّ المسيح الكامل محسوب لنا شرعاً. وهذا صحيح لأنّ ناحية من نواحي النمو في القداسة يجعلنا ندرك حاجتنا الماسة إلى القداسة. وعندما نعي هذه الحاجة، يحسن بنا أن نبقي في أذهاننا دوماً برّ يسوع المسيح الذي أسبغه الله علينا حيث: "جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كورنثوس 5: 21).

وهذا الحق بأنّ الله يقبلنا على أساس برّ المسيح قد يبدو من مبادئ الإيمان الابتدائية بحيث يتساءل بعضكم لماذا أشدّد هنا على هذه الناحية. والسبب هو أننا نحتاج أن ننعم النظر في هذه الحقيقة كي نحبط هجمات إبليس. فالروح القدوس إنما يجعلنا ندرك نقصنا الذاتي في القداسة حتى يحثنا على التوق أكثر إلى القداسة والجهاد لإحرازها عملياً. لكن إبليس سيحاول استخدام عمل الروح القدس لتثبيط عزائمنا.

من حيل إبليس الهجومية أن يحاول إقناعك بأنك لست مسيحياً حقيقياً على الإطلاق. فيهمس في إذنك مُوَسْوِساً بمثل هذا القول: "المسيحي الحقيقي لا يفكر الأفكار الشريرة التي دارت في خلدك اليوم." ومن الممكن أن الشيطان ما كان ليأتي إليك بمثل هذا الإيهام قبل ستة أشهر لأنّ هذه الأفكار لم تكن تزعج خاطرك آنذاك. لكن الآن وقد بدأ الروح القدس يكشف النقاب عن مدى فظاعة أفكارك الدائرة حول الشهوة والغلّ والكبرياء، قد تساورك الشكوك في أمر خلاصك.

منذ عدة سنوات، سمح الله بـأن أجتاز مرحلة من الصراع الداخلي ليوضح لي مدى شرّ قلبي. كنت في تلك الأثناء أتولّى القيادة في اجتماع أسبوعي لدرس الكتاب المقدس في قاعدة عسكرية تبعد مسافة ساعة بالسيارة من مكان سكني. وفي مساء كل اثنين، عندما كنت أترك اجتماع درس الكتاب وأبدأ رحلتي الموحشة نحو البيت، كان إبليس يبادر إلى مواجهتي بسؤاله: "كيف يعقل أن شخصاً يواجه صراعاتك الداخلية يكون مسيحياً حقاً؟" فلجأت إلى محاربته بواسطة ترنيمة تبشيرية قديمة مطلعها:

كما أنا آتي إلى

فادي الورى مستعجلا

إذ قلت نحوي أقبلا        

يا حمل الله الوديع

فكنت أنشد هذه الترنيمة بأكملها، ولدى وصولي إلى المقطع الأخير، كنت أبدأ بتسبيح الله من أجل خلاصه الموهوب لي مجاناً في يسوع المسيح.

وأنت أيضاً، إذا كنت تسعى باجتهاد نحو القداسة، عليك أن تلجأ باستمرار إلى صخرة خلاصك، تلتجئ إليه لا لكي تخلص ثانية بل لتتيقّن في قلبك أنك مخّلص عل أساس برّه ليس غير. وعندئذ تقف في صف بولس عندما يقول: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة الذين أولهم أنا" (1 تيموثاوس 1: 15). عند هذه المرحلة، تصير حياة يسوع التي عاشها في القداسة الكلّية لأجلك ذات أهمية بالغة في نظرك. داعٍ آخر يدعونا لأنن نأخذ بعين الاعتبار قداسة المسيح هو أن من أهداف حياته الطاهرة أن تكون مثالاً لنا في القداسة. فيقول الرسول بطرس أن المسيح ترك مثالاً لنا لكي نتبع خطواته (1بطرس 2: 21). وبطرس يتحدث هنا بشكل خاص عن احتمال المسيح للآلام بصبر، ولكنه يورد في العدد التالي أن المسيح لم يفعل خطية. ويحثّنا الرسول بولس أن نكون متمثلين بالله (افسس 5: 1) ويقول أيضاً: "كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح" (1 كورنثوس 1: 11).

من الطبيعي إذاً أن تكون حياة يسوع المسيح الخالية من الخطيّة مثالاً لنا، فتأمل قوله: "لأني في كل حين أفعل ما يرضيه".

أنعتبر هذا هدفاً شخصياً لنا في الحياة؟ أنحن مستعدّون حقيقةً للتدقيق في نشاطاتنا وأهدافنا و مشاريعنا وتصرّفاتنا التي نندفع فيها، وذلك في ضوء هذا التصريح: "أنا أفعل هذا إرضاءً لله"؟

إذا واجهنا هذه المسألة بكل صدق ظهرت علينا إشارات الارتباك. نحن نعلم أننا نقدم على أعمال حسنة لنحظى بالإعجاب أكثر من حرصنا على تمجيد الرب، كما نقدم على أعمال أخرى إرضاءً لذواتنا ودون أدنى اعتبار لمجد الله.

ماذا تكون ردّة فعلي عندما يزعج ابن الجيرة المتنمّر طفلي الصغير؟ غريزتي تدفعني إلى الانتقام ولكن الروح القدس يذكّرني بيسوع مثالاً لي. كيف ننظر إلى الذين لا يبدون لنا المودة؟ أنعتبرهم أشخاصاً مات المسيح لأجلهم أم مكدّرين ينغّصون حياتنا؟

أتذكّرُ اجتماع عمل مزعجاً مع شخص صار في ما بعد مؤمناً مسيحياً بواسطة شهادة آخر. فلما علمتُ بالأمر حزنت جداً لأني أفكّر به كإنسان مات المسيح من أجله، بل كشخص أزعجني في يوم من الأيام. إننا نحتاج لأن نتعلم كيف نقتدي بمثال المسيح الذي كان يفيض شفقة وعطفاً على الخطاة، مصلياً من أجلهم حتى وهم يسمّرونه على صليب الجلجثة.

قال جان براون (John Brown) عالم اللاهوت الاسكتلندي الذي عاش في القرن التاسع عشر: "ليس قوام القداسة مجموعة من التأمّلات والأفكار الصوفية، أو الاندفاعات الحماسية المتقدة أو التقشف المفرط. إنما هي بالحري أن نفكر بما يفكر الله به وأن نريد ما يريده هو". ولا تعني القداسة أيضاً، كما يتوهّم بعضهم التزام قائمة من المحرّمات والمحلّلات ترجح فيها كفة المحرّمات.

فلما جاء المسيح إلى هذا العالم، قال: "هئنذا أجيء...أعمل مشيئتك يا الله" ( عبرانيين 10: 7). هذا هو المثال المطلوب منا أن نقتدي به. فينبغي أن يكون المبدأ السائد الذي يحثنا ويقودنا في كل أفكارنا وتصرفاتنا، وفي كل جزء من خلقنا، هو الرغبة الملّحة في أن نتمثل بالمسيح في عمل مشيئة الآب. وهذا السبيل المستقيم الوحيد الذي يجب أن نسير فيه ونحن نسعى في أثر القداسة.

  • عدد الزيارات: 2446