الفصل الثالث: لا بديل من القداسة
"اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عبرانيين 12: 14).
ما معنى هذه العبارة "القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب"؟ ألعلّ خلاصنا في آخر المطاف متوقف إلى حد ما على ما توصلنا إليه من قداسة شخصية؟
حول هذا السؤال تبدو كلمة الله واضحة تماماً في نقطتين: أولاً، أن أفضل مسيحي لا يستحق الخلاص من جراء قداسته الذاتية. لأن كل أعمال برنا "كثوب عدة" أمام نور الشريعة الإلهية المقدسة (أشعياء 64: 6). فإن أفضل أعمالنا تدنسها وتلوثها النقائض والخطيّة. وقد وصف هذا الواقع أحد قدّيسي القرون الماضية بالكلمات التالية: "يجب علينا أن نغسل حتى دموع توبتنا بدماء الحمل".
ثانياً، إن كلمة الله تشير مرة بعد مرة إلى إطاعة المسيح وبرّه لأجل مصلحتنا، "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً" (رومية 5: 19)، "فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من اجل الخطايا البارّ من أجل الآثمة لكي يقرّبنا إلى الله" (1 بطرس 3: 18).
ويدّل هذان العددان على ناحيتين لعمل المسيح من أجلنا، يشار إليهما غالباً بوصفهما طاعته العملية وطاعته المذعنة أو المستسلمة.
والطاعة العملية تعني حياة المسيح البارّة على أرضنا هذه، طاعته اللا محدودة وقداسته الشاملة الكاملة. وهذه الحياة المثالية هي رصيدٌ لكل الذين يتّكلون عليه لأجل خلاصهم. أما طاعة المسيح المذعنة فتظهر في موته على الصليب حيث أدى قصاص خطايانا كاملاً وهدّأ غضب الله علينا. ونقرأ في الرسالة إلى العبرانيين 10: 5-9 أن المسيح جاء ليفعل مشيئة الآب ومن ثم يقول الكتاب: "فبهذه المشيئة نحن مقدّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" (عبرانيين 10: 10). وهكذا يتبين لنا أن قداستنا أمام الله تعتمد كلّياً على عمل المسيح من أجلنا وفقاً لمشيئة الله.
إذاً هل تشير الآية في العبرانيين 12: 14 إلى القداسة التي نكسبها على يد يسوع المسيح؟ كلا، لأن الكتاب يتكلّم في هذا السياق عن القداسة التي يجب أن نجاهد من أجلها، علينا "أن نبذل كل جهد لنكون قديسين". من دون هذه القداسة لن يرى أحد الرب، كما يقول الكاتب.
يتحدث الكتاب المقدس عن نوعين من القداسة: تلك التي لنا في المسيح أمام الله، والأخرى التي يجب أن نسعى وراءها. وهذان الوجهان من القداسة يكمّل أحدهما الآخر، لأن خلاصنا هو الخلاص من أجل القداسة: "لأن الله لم يدعنا للنجاسة بل في القداسة" (1تسالونيكي 4: 7). ويكتب الرسول بولس إلى أهل كورنثوس: "إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدّسين في المسيح يسوع المدعوّين قديسين" (1 كورنثوس 1: 2). والمعنى أننا قدّسنا في المسيح لننال مقاماً أمام الله، ونحن مدعوّون لنكون قديسين في حياتنا اليومية.
هكذا يحثنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن نأخذ بعين الاعتبار أهمية القداسة العملية والشخصية. وعندما يأتي الروح القدس إلى حياتنا عندما نحصل على الخلاص فإنما يأتي لكي يقدسنا عملياً. وعليه، فإذا لم يكن في قلوبنا حتى شوق لنحيا حياة مقدسة ترضي الله، فيجب علينا أن نساءل أنفسنا بجديّة: هل إيماننا بالمسيح أصيل غير زائف؟
الحق يقال إن هذه الرغبة في القداسة قد تكون مجرد شرارة في البداية، لكن هذه الشرارة ينبغي أن تنمو حتى تصبح شعلة، شعلة التوق الشديد إلى عيش حياة مقدسة ترضي الله إرضاءً تاماً. فالخلاص الحقيقي تصحبه رغبة صادقة في التقديس. إذ عندما يخلّصنا الله بالمسيح، فهو لا يخلّصنا فقط من عقاب الخطيّة بل يحررنا أيضاً من سيادتها. ويقول الأسقف رايل في هذا الموضوع: "في الواقع إني أرتاب في جواز التصريح بأنّ إنساناً ما قد يحصل على التجديد دون أن يتكّرس للرب. لا شك أنه سيزداد تكريساً كلما نما في النعمة لكنه إذا لم يقف نفسه لله في اليوم عينه الذي فيه تجدد ووُلِدَ ثانيةً، فأنا لا أفهم كيف يكون قد تجدد".
فإنَّ غرض خلاصنا برمّته أن نكون: "قدّيسين وبلا لوم قدّامه" (أفسس 1: 4). فإذا استمر المسيحي في العيش في الخطية فهو يعاكس غرض الله الأساسي من خلاصنا. وقد وصف أحد الكتّاب هذا الأمر منذ ثلاثة قرون بالكلمات التالية: "أي نوع غريب من الخلاص يبتغيه هؤلاء الذين لا يعيرون القداسة أي اهتمام... فهم يريدون أن يخلصوا بواسطة المسيح لكن يبقون خارج المسيح يتصرفون بحسب الجسد... يودّون أن يحصلوا على مغفرة خطاياهم، لا كي يسيروا من ثم مع الله في المحبة، بل كي يمارسوا عداوتهم له دون أي خوف من العقاب."
إذاً القداسة ليست ضرورية كشرط للخلاص، وإلاّ كان ذلك خلاصاً بالأعمال، ولكنها لازمة كجزء من الخلاص الذي نناله بالإيمان في المسيح. وقد قال الملاك ليوسف: "وتدعو اسمه يسوع لأنّه يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى 1: 21). ومعلوم أن معنى "يسوع" هو "يهوه (الرب) هو الخلاص".
على ذلك يمكننا القول أن لا أحد يضع ثقته في المسيح لينال الخلاص الحقيقي إلاّ إذا وثق به في أمر القداسة. وهذا يعني أن الشخص يجب أن يعي هذا التوق إلى القداسة في الوقت الذي يُقبل فيه إلى المسيح، بل بالحري أن الروح القدس الذي يخلق فينا الإيمان المخلّص هو أيضاً يخلق في دواخلنا الرغبة في القداسة. فهو بكل بساطة. لا يُوجد ذاك الإيمان دون هذه الرغبة، ولا هذه دون ذاك.
ويقول الرسول بولس: "لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر" (تيطس 2: 11و 12). فالنعمة التي تؤتي الخلاص هي عينها التي تعلمنا أن ننبذ حياة الفجور والإثم، وليس بإمكاننا أن نقبل نصف نعمة الله. فإذا كنا اختبرنا هذه النعمة بالفعل، فإننا لن نختبر فقط غفران خطايانا بل أيضاً التحرر من سلطة الخطيّة.
هذه خلاصة المقطع الصعب حول الإيمان والأعمال في رسالة يعقوب (2: 14-26) حيث نفاد بكل بساطة أن "الإيمان" الذي تنتج منه أعمال، أي بعبارة أخرى لا يفضي إلى حياة القداسة، لا يكون إيماناً حياً بل ميتاً، لا فرق بينه وبين إيمان الشياطين.
إن طبيعة الله تقتضي أن يحيا المؤمنون المسيحيون حياة القداسة فهو عندما يدعونا للخلاص، يدعونا أيضاً للشركة معه ومع ابنه يسوع المسيح (1 يوحنا 1: 3). ولكن الله نور، وليس فيه ظلمة البتة ( 1يوحنا 1: 5) فكيف يمكن أن تكون لنا شركة معه إذا داومنا على السلوك في الظلمة؟
فالقداسة إذاً تقتضيها الشركة مع الله. وقد طرح داود هذا السؤال: "يا رب من ينزل في مسكنك. من يسكن في جبل قدسك" (مزمور 15: 1)، وتأويله: "يا رب، من يتسنى له أن يعيش في شركة معك؟" وبإمكاننا أن نوجز الجواب الذي يقدم في الأعداد الأربعة التالية من ذلك المزمور بما يلي: "هو من يحيا حياة القداسة".
إن الصلاة عنصر أساسي في شركتنا مع الله، إلا أنّ المرنم يقول: "إن راعيت إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب" (مزمور 66: 18). فمراعاة الإثم هو أن أتعلق بخطية ما، أن أحبها إلى حد لا أعود معه قادراً على التخلي عنها. أعرف أن هذه الخطيّة موجودة لكنني أبررها بطريقة أو بأخرى، كذلك الطفل الذي يقول: "لكنه هو ضربني أولاً". وتعلُّقنا بخطيّة معينة، يعني أننا لسنا بصدد السعي وراء القداسة ولا يمكن أن تكون لنا شركة مع الله.
والله لا يتطلب حياة كاملة خلواً من الخطيّة ليعطينا حق الشركة معه، لكنه يطلب منا أن نكون جديين في موضوع القداسة، أن نحزن على الخطيّة في حياتنا بدلاً من أن نسعى لتبريرها، وأن نتبع القداسة بكل شوق نمطاً لحياتنا. والقداسة أيضاً مطلوبة لسلامتنا الشخصية، إذ تقول كلمة الله: "لأن الذي يحبه الربّ يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله" (عبرانيين 12: 6).
وهذا القول ينطلق من كوننا نحتاج إلى التأديب، لأن الله لا يؤدبنا اعتباطياً. فهو يؤدبنا لأننا نحتاج إلى التأديب.والإمعان في طريق العصيان يزيد حاجتنا للتأديب.فإن بعض المؤمنين المسيحيين في كورنثوس أمعنوا في العصيان حتى لم يكن مفرٌّ من أن يعدمهم الله الحياة (1 كورنثوس 11: 30).
ويصف داود تأديب الرب على النحو التالي: "سكتُّ بليت عظامي من زفيري اليوم كله. لأن يدك ثقلت عليّ نهاراً و ليلاً. تحوّلت رطوبتي إلى يبوسة القيظ" (مزمور 23: 3 و4).
فعندما يضع الله إصبعه على خطيّة معيّنة في حياتنا، علينا أن نعيره انتباهنا ومن ثم نتصرف وفقاً لإرادته تعالى. والتقصير في معالجة هذه الخطيّة هو مجازفة تعرضنا للوقوع تحت يدّه المؤدبة. ففي صبيحة يوم بارد بينما أنا متوجه إلى الطريق الخاصة التي تؤدي إلى المركز الرئيسي لجمعية "الملاحون" حيث أعمل، انزلقت سيارتي دون أن أتمكن من السيطرة عليها، وارتطمت بعمود في زاوية سياج. ويبدو أن هنالك شخصاً آخر وقع في المأزق عينه سابقاً، وأحدث التواء في العمود، وما فعلته أنا كان زيادة الالتواء. ورغم صوت الله الناعم الذي كان يحثّني، كتمت الأمر عن صاحب ذلك العقار. وبعد مضي أسبوعين جرى لي حادث طفيف أخر. فعلمت حينئذ أن الله كان يحاول أن يسترعي انتباهي، لأنني خلال خمس عشرة سنة من قيادة السيارات لم أكن قد تعرضت لحادث واحد، فاتصلت بصاحب ذلك العقار وأطلعته على حادثي الأول وعرضت عليه أن أتولى دفع الأكلاف لقاء إصلاح عمود السياج. وكما قال بطرس: "سيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بطرس 1: 17). فالله يعني ما يقوله في موضوع القداسة في حياة شعبه، وهو سيرّبنا لإحراز هذه القداسة.
والقداسة ضرورية أيضاً للخدمة الفعالة في حقل الله. فقد كتب بولس إلى تيموثاوس: "فإن طهّر أحد نفسه من هذه يكون للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح" (2 تيموثاوس 2: 21). فالقداسة والأهلية للخدمة أمران مترابطان معاً، فلا يمكن أن نقدّم خدمتنا لله في إناء غير طاهر.
أما الذي يجعل من خدمتنا خدمة فعّالة ويقّدرنا عليها فهو الروح القدوس. ولننتبه جيداً إلى التسمية فهو الروح القدس أو روح القداسة. فعندما نطلق العنان لطبيعتنا الساقطة نقيم على نجاسة، يحزن روح الله القدوس (أفسس 4: 30) ولا يؤتينا النجاح في الخدمة. ولست أعني هنا الحالات وحالاً نلتمس الصفح والغفران من لدن الله، إنما أقصد السيرة الخاصة التي تتصف بكونها حياة غير مقدسة.
والقداسة أمر حيوي لازم لتوكيد خلاصنا في لحظة التجديد عينها بل في مجرى حياتنا كله. إن الإيمان الحقيقي لا بد أن يظهر ذاته بثماره: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2 كورنثوس 5: 17).
أذكر شاباً يافعاً اهتدى إلى الإيمان بالمسيح وهو يعيش مستقلاً عن والده، وكان يتوقّع أن يزوره والده بعدما مضت بضع سنوات لم يره خلالها، كان توّاقاً ليطلع والده على اختباره للإيمان، وصلينا معاً طالبين أن يكون شاهداً فعّالاً أمام والده.
وبعد عدة أيام سألته ماذا حصل عندما أدّى شهادته فأخبرني أن والده ادّعى أنه قد سلّم حياته للمسيح وهو في العاشرة من عمره عندما "تقدّم نحو المنبر" خلال حملة تبشيرية. هل لمست أية بيّنة على أن والدك كان مسيحياً مؤمناً؟" قال: "لا". كان يناهز الستين من عمره ولم يقدّم لابنه ولو مرة واحدة، دليلاً على حقيقة مسيحيّته.
إن السيرة المقدسة هي وحدها البرهان السليم الذي يثبت أننا في المسيح. ويقول الرسول يوحنا أن كل من عنده رجاء الحياة الأبدية يطهّر نفسه كما أن المسيح طاهر ( 1 يوحنا 3: 3). أما بولس فقد قال: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رومية 8: 14). حتى لو لم تكن لدينا ذرة من القداسة، فإننا قد نغشّ أنفسنا بتوهّمنا أننا مسيحيون حقيقيون، ولكن لا يكون روح الله القدّوس ساكناً فينا. فإذاً يجب على كل من يدّعي أنه مسيحي أن يسأل نفسه هذه السؤال: "أفي حياتي براهين عملية على القداسة الحقيقة؟ هل أنا راغبٌ في القداسة وجادٌّ في إثرها؟ هل أحزن لافتقاري إليها وأطلب بكل جدّ معونة الله أحيا قديساً؟"
لن يدخل السماء من يعترفون بأنهم يعرفون المسيح، بل بالحري من كانت حياتهم مقدسة. حتى الذين ينجزون "أعمالاً مسيحية عظيمة" لن يدخلوا السماء ما لم يعملوا أيضاً بمشيئة الله. فقد قال يسوع: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبّأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 7: 21- 23).
- عدد الزيارات: 3031