عائق الطبيعة
وهناك عائق آخر كبير يقف أمام خدمتنا وشهادتنا للرب. فليس الجسد فحسب في كل أشكاله المختلفة للأنانية، بل أيضاً الطبيعة بكل مطالبها تصبح عائقاً حقيقياً تاماً. وهذا نراه في الأعداد الختامية لهذا الفصل (ع57- 62).
أولاً نتعلم أن طاقة الطبيعة وقوتها لا يمكنها أن تسير في طريق التلمذة الحقيقية. فقد أتى واحد إلى الرب قائلاً: "أتبعك أينما تمضي". ولعل هذه الطاقة هي حصيلة اندفاع شديد وإفراط من إنسان للسير وراء الرب. إن الطبيعة في طيشها مُضلّلة، ولا يمكنها أن تفهم من هو الرب، ولا إلى أين هو ذاهب، ولا الطريق الذي يسلكه. إنه بحق هو الإنسان المرفوض. إنه "في الطريق" لكي يرتفع إلى عالم المجد، وبينما كان في الطريق هنا في هذا العالم الحاضر، لم يكن له منـزل، بل أمامه فقط الصليب والقبر والقيامة. ومن الحكمة أن يذهب مثل هذا الإنسان إلى الثعالب حيث أوكارها، والطيور حيث أعشاشها، من أن تذهب إلى ابن الإنسان المسكين على الأرض. إن الطبيعة في قوتها مهما كانت أصيلة، فإنها لم تُجهّز لطريق كهذا. تستطيع الطبيعة أن تفعل الكثير ولكنها لا يمكنها أن تتخلى عن راحتها ومسرتها لتتبع رباً مرفوضاً. ولذلك بعدما اتضح الطريق أمام هذا الشخص المتطوع فإننا لا نسمع عنه بعد ذلك.
ثم نتعلم أن علاقات الطبيعة ربما تكون عائقاً حقيقياً في خدمة الرب (ع59و 60). وفي هذه الحالة فقد دُعي هذا الإنسان أن يتبع الرب، وكان الرب هو الذي دعاه بنفسه. كان الشخص السابق يعمل في خفة الطبيعة دون أن يرى عوائق أمامه، أما هذا الإنسان المدعو من الرب فقد عرف المصاعب التي ستواجهه. وكما كان موسى قديماً يعمل بقوة الطبيعة ظاناً أنه يمكن أن تسير الأمور في وضعها الصحيح ببساطة بين شعب الله، ولكنه لما دُعي من الله لم يجد شيئاً غير المصاعب، هكذا مع ذلك الإنسان في زمان الإنجيل- بدت أمامه مصاعب عظيمة، فأب طاعن في السن ويقترب من القبر، وهو يعتمد على ابنه. وعندما واجه تلك الصعوبة كانت لغة هذا الإنسان (إني مستعد أن أتجاوب مع دعوتك، ولكن دعني أنتظر حتى يموت والدي، وأقوم بواجبي الأخير نحو مطالب الالتزامات الطبيعية). وقد يبدو أن هذا القول منطقي إلى حد بعيد. فالآب له مطلب الطبيعة الأول. ولكن في الحقيقة أن المسيح له المطلب الأول في الحياة الجديدة، وهي مسألة حياة أو موت. وكما قال واحد (إن متطلبات الحياة التي وضعها الرب، أن يكون المسيح ومطاليبه في المقام الأول). ولكن هذا الإنسان وضع مطاليب الأموات أولاً، إذ قال "ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي". إن الرب لا ينكر أو يستبعد مطاليب الطبيعة، ولكنه يؤكد على تفوّق مطاليبه. لم يرَ هذا الشخص أن الرب عندما يدعو فإن مطاليبه تأتي أولاً، وأن ذاك الذي دعاه يستطيع في نفس الوقت أن يعتني بالآب الذي تركه.
وفي النهاية نتعلم أن عواطف الطبيعة قد تصبح عائقاً حقيقياً في خدمة الرب (ع61و 62). فيتطوع إنسان أن يتبع الرب ولكنه يرغب في البداية أن يذهب ويودع أهله في البيت. ومع أن هذا أمر طبيعي فإنه يبين نظرة الرب الفاحصة للجميع، فقد كان قلبه مترنحاً ومتلكئاً في البيت. إنه يضع يديه بسرور على المحراث- ويلتزم بالخدمة- لكن قلبه يتطلع إلى الخلف إلى البيت، بينما كان يلزم أن يكون قلبه متطلعاً إلى الطريق الذي يسير فيه. ومن المستحيل لمن يحرث القطعة التي أمامه، أن تسير في اتجاه ويتطلع إلى اتجاه آخر. إن خدمة الرب تتطلب قلباً غير منقسم.
من هنا يأتينا التحذير، فالطبيعة قد تصبح عائقاً حقيقياً في خدمة الرب. وليس معنى ذلك أن الرب يستبعد عمل الرحمة بالذين في الأرض، أو أنه يتجاهل مطالب الطبيعة المرتبطة بالعلاقات الطبيعية، أو بالعواطف الطبيعية، ولكنه يضع مطاليبه أولاً، وينتظر التكريس الذي يُخضع كل شيء له. ولهذا وجدنا التلاميذ يصلحون لملكوت الله. وهذه الجملة الأخيرة تُرجعنا إلى الجبل حيث رأى التلاميذ ملكوت الله في مجده (ع27). إنه فقط في ضوء مجد المسيح في ملكوت الله، وبقوة نعمة المسيح في الوادي، نصبح قادرين أن نرفض الجسد في كل صوره المختلفة، سواء في أنانية قلوبنا أو مطاليب الطبيعة.
- عدد الزيارات: 2900