عدم الهرب من الخطية ونتائجه
كان شمشون على النقيض من يوسف تماماً. فيوسف كانت الخطيئة تسعى إليه، فيغض النظر عنها. ولما أمسكت بثيابه اسلت منه وتركها وهرب. أما شمشون فكان يسعى إليها برجليه. وعلى الرغم من أنه اكتشف أن الهوى كلن قد أعمى بصيرته، فظل يتردد عليها حتى أسرته وأذلته وأعمت عينيه (قضاة 16).
فقد قيل عنه أنه أحب دليلة. ولكن شتان بين حب وحب. فهناك حب ناتج عن تفكير هادئ متزن يسعى إلى أن تكون لصاحبه علاقة كريمة مع من يحب إلى نهاية الحياة. مهما كانت الظروف والأحوال. ومبدؤه الاحترام المتبادل بين الطرفين. وغرضه التعاون معاً وتقاسم حلو الحياة ومرها، وإنجاب نسل يمجد الله. وشروطه التوافق في الحياة الروحية والثقافية والتقارب في السن والحالة الاجتماعية. وهناك حب أهوج لا يقيم وزناً لأي مبدأ من المبادئ الأدبية أو الاجتماعية كما أنه لفترة محدودة من الزمن يخبو بعدها ويزول. وإذا ظل مدة ما، فإنه ينطفئ إذا أصاب أحد الشريكين مرض أو إملاق ومن ثم فالحب الأول هو الحب الروحي، الذي تختفي فيه الذات ويسعى الواحد بكل ما لديه من جهد لأجل خير صاحبه. أما الحب الثاني فهو الحب الجسدي، الذي يسعى إلى إرضاء الذات وحدها، بغض النظر عن أي شيء آخر – وما أتفهه من حب وما أحقره!!
كان حب شمشون لكل أسف من النوع الثاني، كما كان حب دليلة من هذا النوع أيضاً. فاستغل كل منهما صاحبه لمآربه الخاصة. فشمشون استغل دليلة إرضاء أهوائه، واستغلت دليلة شمشون للحصول على الشهرة والمال، بغض النظر عما يصيب شمشون من ذل أو أذى. وإذ ارتضي هذا أن سلم قلبه لها، أصبحت هي المتسلطة عليه والمسيرة له – فهذا البطل العظيم الذي دوخ جبابرة عصره وسخر منهم وساد عليهم، سيطرت عليه امرأة وجعلته ألعوبة بين يديها. وكم غدر الهوى بصاحبه. وكم قاده إلى الحضيض والهوان.
أخذت دليلة، مدفوعة بحب المال، تسأل شمشون من وقت لآخر عن سر قوته لكي تبلغه إلى أعدائه، فكان يحرص على عدم الإباحة به في أول الأمر. غير أنها لما أخذت تضرب له على الوتر الحساس، ألا وهو بحق حبه لها، وتلح عليه بأسلوبها الناعم الرقيق، "ضاقت نفسه إلى الموت" – عجباً وكل العجب من شمشون! لماذا انتظر حتى وصل به الأمر إلى هذا الحد؟ ولماذا تضيق الدنيا في عينيه على الرغم من سعتها، حتى يصل إلى درجة الرغبة في الموت؟ والجواب: لأنه لم يهرب من الشهوة بل استسلم لها. والشهوة إذا استسلم المرء لها سلبته الراحة والهدوء وضيقت الخناق حوله وقادته، إن أمكن، إلى الانتحار، كما تطالعنا الصحف من وقت لآخر.
وإذ بلغ شمشون الدرجة القصوى من الضيق، هذه الدرجة التي يخبو فيها نور العقل، والتي يجب على كل إنسان أن يبتعد عنها كل البعد، أعلن لها أن سر قوته يكمن في عدم حلق شعر رأسه، بسبب كونه نذيراً لله[1]. ولكن علم شمشون أم لم يعلم، فإن قوته لم تكن راجعة في الواقع على عدم حلق شعره أو إلى غير ذلك من الأمور الأرضية. مثل الشجاعة أو متانة العضلات، بل إلى العلاقة السامية التي كان قد ارتبط بها مع الله كنذير له. إذ كان المفروض في النذير أن يكون مقدساً لله وخاضعاً له، وسالكاً وفق شريعته. وما عدم حلق شعر الرأس إلا رمز إلى هذه الأمور. فموقف النذير بالنسبة إلى الله من هذه الناحية، هو موقف الزوجة المقدسة الأمينة لزوجها (1 كورنثوس 11: 15، أفسس 5: 22- 24).
وماذا فعلت دليلة عندما عرفت سر قوته؟ أنامته على ركبتيها ودعت رجلاً ليحلق له شعر رأسه، لكي تسلمه بعد ذلك إلى أعدائه. فانتبه شمشون من نومه، وهو لا يعلم أنه بحلق شعر رأسه قد فارقه الله – فدليلة، هذا الصديق اللدود أظهرت الحب لشمشون، ولكنه الحب المزيف، إذ قد سلبته كل قوته وتركته ذليلاً مسكيناً. ذلك لأنها أبعدته عن الله وقضت على كل علاقة تربطه به.
ولا يفوتنا أن نقف قليلاً عند العبارة "ولم يعلم (شمشون) أن الرب قد فارقه". ففي لحظة أو طرفة عين، هوى شمشون من المجد إلى الهوان، ومن القوة إلى الضعف، ومن النصرة إلى الهزيمة – ذلك لأنه ليس هناك طريق وسط بين القداسة وبين النجاسة. فإما أن تكون حياتنا حياة القداسة أو حياة النجاسة، فحياة الاتصال بالله أو حياة الابتعاد عنه، أما العروج بين الناحيتين فلا مجال له في أمر العلاقة مع الله (1 ملوك 18: 21). وإذا كان الأمر كذلك، فلنوطد العزم على أن تكون لنا الصلة الروحية مع الله في كل حين، مهما كانت الظروف والأحوال، متشبهين بدانيال الذي وضع في قلبه أن لا يتنجس، ومن ثم لم يتنجس على الإطلاق (دانيال 1: 8).
وبمناسبة الحديث عن شمشون، أعرف حق المعرفة شاباً عاش نذيراً بالمعنى الروحي ردحاً من الزمن. إذ عندما اخترقت محبة الله الفادية قلبه، تعلق به كل التعلق، ومن ثم أصبحت حياته حياة العبادة والتقوى والخدمة الخالصة. فكان بمجرد أن يسجد أمام الله، يتدفق من قلبه فيض غزير من عبارات الحب والشكر له، يستمر بضع ساعات. وعندما كان يسير في الطريق، كان، بسبب علاقته القوية مع الله، يخيل إليه أحياناً أن يسجد وقتئذٍ أمامه في خشوع وورع. وعندما كان يقدم على تناول طعامه في المنزل، كان يصرف أحياناً وقتاً طويلاً في تقديم الشكر لله، حتى كان ينسى كل شيء عن الطعام، وعندما ينتهي من الشكر كان يأخذ "ساندوتشاً" في يده ثم ينطلق إلى عمله. وحتى في أثناء قيامه بهذا العمل، كان يرفع قلبه من وقت إلى آخر نحو الرب بكل معاني الحب والامتنان. ولم يكن هذا شأنه في أوقات اليقظة فحسب، بل وفي أوقات النوم أيضاً، ولذلك لم يكن يستيقظ إلا وفي فمه تسابيح الحمد والشكر لله – وبالإجمال يمكن أن يقال أنه كان صلاة، إذ أن معظم شهيقه كان استقبالاً لبركات الله ومعظم زفيره كان إرسالاً للتشكرات إليه.
بالإضافة إلى ما تقدم كان يدرس الكتاب المقدس بشغف وعمق، ويفكر في أوقات فراغه فيما درسه ويشكل نفسه على مقتضاه، حتى تشبع بما جاء في الكتاب المقدس تشبعاً تاماً. ولذلك كان يعلن محبة الله وخلاصه الثمين في كل مجال يحل فيه. ويقود نفوساً كثيرة للتمتع بهما.
ومن جهة العطاء للفقراء، كان لا يتقيد بدفع العشور بل كان يقدم أكثر من ذلك بكثير. كما كان يشتري للفقراء في بعض الأحيان ملابس أغلى من تلك التي كان يشتريها لنفسه – وهكذا سمت حياته الروحية حتى أنه لم يكن يصلي مع الآخرين "احفظ حياتي ليكن تكريسها يا رب لك... "، بل كان يصلي عوضاً عن ذلك "أشكرك يا رب لأنك حفظت حياتي، فكان تكريسها كلها لك...".
ولكن بكل أسف، فإنه في ساعة من ساعات الغفلة، لم يهرب هذا الشاب من الأهواء بل فتح قلبه لها، ناسياً قول الحكيم "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (أمثال 4: 22)، فتسللت الأهواء إلى قلبه واستقرت فيه، كما تتسلل الميكروبات إلى جسم لم يألفها من قبل وتتمكن منه. ثم دخل في حرب شعواء معها، يصارعها حيناً وتصارعه هي حيناً آخر، فينتصر عليها مرة وتنتصر هي عليه أخرى. فأصبح والحالة هذه مثل نسر انكسر جناح له، فإنه لا يكاد يهم بالطيران حتى يعود إلى الأرض كما كان. ولذلك ظل على هذه الحال من البؤس والشقاء أضعاف المدة التي عاشها مع الرب من قبل – ذلك لأن النكسة التي يصاب بها المريض بعد شفاؤه، تكون دائماً أقسى من المرض الذي كان يشكو منه في أول الأمر.
والآن، وإن كان هذا الشاب لم ينجرف في تيار النجاسة مثل الأشرار، غير أنه لم يعد، حتى بعد توبته، إلى الحالة الروحية السامية التي كان عليها من قبل. ليس لعدم قدرة الله على إنقاذه من ضعفه، بل لتأثر نفسه بالنجاسة تأثراً أضعف فيه الميل إلى القداسة إلى حد ما.
وإذا كان الأمر كذلك، فليحذر الشباب من الجنسين من النظرة النجسة الأولى، والشهوة النجسة الأولى، لأنهم إذا سمحوا لواحدة من هذه أن تتسرب إلى نفوسهم، تعرضوا لمتاعب قد تستمر معهم مدى الحياة. والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
[1] بالإضافة إلى عدم حلق شعر الرأس، كان النذير لا يشرب خمراً ولا يتنجس بلمس ميت (سفر العدد: 6). وعدم شرب الخمر رمز إلى الامتناع عن أهواء العالم وملذاته. وعدم لمس الميت رمز إلى الامتناع عن النجاسة. بوصف الموت هو النتيجة الحتمية للخطيئة (تكوين 3: 17).
- عدد الزيارات: 3533