Skip to main content

الهرب من الأهواء

ذكرنا فيما سلف، أننا إذا سهونا ولم نسلك بالروح، نعرض أنفسنا للدخول في جهاد عنيف ضد الخطيئة. لكن ليس معنى ذلك، أننا إذا وصلنا إلى هذه المرحلة، نفقد الأمل في الانتصار على الخطيئة، كلا – فباب الأمل مفتوح أمامنا على مصراعيه، إذا سرنا في سبيل النجاة الذي أرشدنا الوحي إليه. وما هو هذا السبيل؟

الجواب: هو الهرب من الشهوات، وغض النظر عنها. فقد قال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس، وبالحري لكل واحد منا "أما الشهوات الشبابية، فاهرب منها" (2 تيموثاوس 2: 22). كما قال لأهل كورنثوس "اهربوا من الزنا" (1 كورنثوس 6: 8). وقال بطرس الرسول للمؤمنين "هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة" (2 بطرس 1: 4). وقال عن قوم أنهم هربوا من نجاسات العالم بمعرفة الرب والمخلص يسوع المسيح (2 بطرس 2: 20). وقد عرف يوسف الصديق ضرورة الهرب، ولذلك عندما ألقت امرأة فوطيفار الشباك حوله قديماً، هرب في الحال (تكوين 39: 15).

لكن من يختبر ضراوة الأهواء، وحقيقة كونها في الطبيعة البشرية، وتعذر الانتصار عليها بالقوة الذاتية، كثيراً ما يظن أنه أصبح في مأمن عنها، إذا لم يسقط أمامها يوماً، أو إذا كان قد اجتاز سناً معينة، غير عالم أن القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس (أرميا 17: 19)، ومن ثم لا يرى داعياً للهرب منها. فإذا واجهته ظل أمامها يدفعها حيناً وتدفعه هي حيناً آخر، وهكذا يستمر الصراع بينه وبينها سجالاً. وتكون النتيجة الحتمية لذلك، أن تأثيرها يقوى عليه في نهاية الأمر بطريقة ما، فيسقط أمامها. وإذا فرضنا جدلاً أنه انتصر، فإن نصرة مثل هذه، لتعد في الواقع هزيمة. لأن قلبه لا بد أن يكون قد تدنس، وفكره قد تنجس. بالإضافة إلى ذلك، يكون قد أضاع جزءاً من حياته الثمينة، كان من الممكن أن يستثمره في القيام بعمل نافع. فكان يجلب الخير إلى نفسه، وإلى غيره أيضاً.

فإذا ظن أحدنا أنه قوي، يجب أن يذكر أن صرعى الخطيئة أقوياء. ألم يقل الكتاب "لأنها طرحت الكثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء"؟ (أمثال 7: 26). وإذا ظن آخر أن كبر سنه يجعله في مأمن منها، يجب أن يذكر أن داود النبي سقط في خطيئته المشهورة وهو في دور الكهولة، هذا الدور الذي لم يكن يخطر بباله أو بال غيره أنه يسقط فيه أمامها. ولماذا سقط؟ طبعاً لأنه لم يهرب من الأهواء، بل ظل أمامها. فلنضع في أذهاننا إذن أنه لا يمكن أن نكون في وقت ما، في مأمن من التجارب. فالرب لم يعدنا مطلقاً بأن يقصي عدو الخير بعيداً عنا، بل بالعكس أنبأنا بأن هذا طلب بأن يغربلنا (لوقا 22: 31)، إنما لكي لا نفشل أو نيأس، أعلن له المجد لنا أنه يكون معنا إلى انقضاء الدهر (متى 38: 41)، وأنه سيسحق الشيطان تحت أرجلنا سريعاً (رومية 16: 20).

لذلك إذا رأى أحدنا منظراً مثيراً للشهوة، يجب أن يهرب من أمامه، ويتجه بكل قلبه إلى الرب، لأن هذا المنظر بداية نار، لا تلبث أن تندلع متخذة منه وقوداً لها. ألم يقل الكتاب "لأن الفجور يحرق كالنار"؟ (أشعياء 9: 18). وأيضاً "أيمشي الإنسان على جمر، ولا تكتوي رجلاه؟" (أمثال 6: 27، 28). كما يجب أن لا يسلك في مشورة الأشرار، أو يقف في طريق الخطأة، أو يجلس في مجلس المستهزئين (مزمور 1: 1)، بل أن يتنكب عن طرق هؤلاء جميعاً، ويحيد عنها (أمثال 4: 14و 15)، لأن من يسير فيها، لا يؤوب ولا يبلغ سبل الحياة على الإطلاق (أمثال 2: 19).

لذلك يجب أن لا ننخدع بقول الجهلاء أن الهرب من أمام الشهوات ليس من الشجاعة في شيء، لأن من يلقي بنفسه إلى التهلكة، لا يعتبر شجاعاً بل جاهلاًَ. ولذلك قال الحكيم "الذكي يبصر الشر فيتوارى. والحمقى يعبرون فيعاقبون" (أمثال 22: 3). كما قال "المستعجل برجليه يخطئ" (أمثال 19: 2). كما يجب أن لا ننخدع بقول هؤلاء الناس أن الهرب من أمام الشهوات تصرف سلبي لا يلجأ إليه إلا من لا حيلة له. لأن الموقف السلبي إزاءها هو الاستسلام لها والخضوع لمطالبها، لكن الهرب منها عمل إيجابي سريع، للنجاة من شباكها.

أخيراً نقول: نظراً لأن الكتاب المقدس يدعو في بعض آياته إلى مقاومة عدو الخير، يظن بعض المؤمنين أن المراد بها هو مقاومة الأهواء والشهوات لا الهرب منها. ومن ثم يعيشون بكل أسف في كفاح مرير ضدها. لكن الآيات المذكورة ليست خاصة بالجهاد ضد الأهواء، بل الجهاد الروحي ضد عدو الخير الذي يثير أعوانه ضدنا لكي يضطهدونا عند القيام بخدمة الله وعبادته. فقد قال بطرس الرسول "لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً[1] من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان، عالمين أن نفس هذه الآلام تجري على أخوتكم الذين في العالم" (1 بطرس 2: 8).

أما الاعتراضات الموجهة ضد الهرب من الأهواء، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1- (إن الغريزة الجنسية هي أقوى الغرائز في طبيعتنا البشرية، ومن ثم ليس من السهل التحول عن مطالبها).

الرد: وإن كان هذا التحول صعباً على طبيعتنا البشرية، لكن الذين يؤمنون بالله إيماناً حقيقياً، ينالون منه قوة روحية يستطيعون بها الارتقاء فوق أهواء هذه الطبيعة كما ذكرنا في الفصل الأول. ولذلك قال الوحي "هذه هي الغلبة التي تغلب(أهواء العالم) إيماننا" (1 يوحنا 5: 4). كما قال "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رومية 8: 37). ونستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوينا (فيلبي 4: 13). و"شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1 كورنثوس 15: 57). وقال للأحداث "لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير" (1 يوحنا 2: 14).

2- (إن الصداقة مع أفراد الجنس الآخر مفيدة من بعض الوجوه، لأنها تحول دون ارتكاب خطيئة النجاسة الذاتية).

الرد: إننا لا نحارب هذه الصداقة، ولكن ننبه الأذهان إلى أنها إذا لم تكن في مخافة الله، قد تتطور وتنتهي إلى علاقة أثيمة، ولو فرضنا أنها لم تتطور، فإنها تولد التعطش الجنسي في الطرفين، الأمر الذي يضر الجهاز العصبي ضرراً بليغاً. ومع كل فإن صداقة مثل هذه لا يندفع إليها إلا الشباب الطائش تحت تأثير ميوله الجسدية وحدها، أي دون أن يكون لديه تقدير للإخلاص والشرف والوفاء. ولذلك فإن العقلاء من الجنسين لا يتورطون أو يفرطون في الصداقة المذكورة.

أما خطيئة النجاسة الذاتية، فلا يفكر في إتيانها إلا ثلاثة أصناف من الشباب: (الأول) غير الناضجين في أفكارهم، لأن هؤلاء لا يعرفون كيف يتصرفون التصرف السليم في ما يتعرض حياتهم من أمور، (الثاني) الذين ينطوون على أنفسهم، كما يفعل الأطفال تماماً، (الثالث) الجبناء الذين ليس لديهم الجلد للتخلص من المشاكل التي تعترضهم في الحياة – ومن ثم، لا يليق أن يخطر إتيان النجاسة الذاتية ببال أي شباب عاقل[2].

3- (إن الصداقة مع أفراد الجنس الآخر فرصة للتعارف، حتى إذا حدث زواج، لا يكون هناك خلاف بين الطرفين، كما لا يكون هذا الزواج أمراً جديداً يتهيبه أحدهما).

الرد: إن التفكير في الزواج يجب أن يكون بعد النضوج الروحي والعقلي والجسمي. وأيضاً بعد توفر المال اللازم لتكوين الأسرة والعناية بها. فضلاً عن ذلك فإن السبيل إلى الزواج المقدس الذي لا تنفصم عراه ليس هو التعرف السابق كما يقال، بل هو الالتجاء إلى الله بالصلاة الحارة، وطلب الإرشاد منه في معرفة المؤمن المناسب – هذا مع العلم بأن من يقبل على الزواج دون خطيئة جنسية سابقة، يكون موضع تقدير عظيم من شريكه، إذ يرى فيه شخصاً عفيفاً مخلصاً جديراً بالحب والوفاء.

أخيراً نقول أننا لا ننهى عن الزمالة والصداقة بين أفراد الجنسين (كما يظن البعض)، لكن ننهى عما يثير الأهواء والشهوات بينهما. لأن الزمالة أو الصداقة في معناها الصحيح هي تعاون الواحد مع الآخر، دون الإساءة إليه أدبياً أو مادياً. وإذا كان الأمر كذلك، يجب أن تكون المعاملة بين الفتى والفتاة مؤسسة على الاحترام المتبادل. ومن علامات هذه الزمالة أو الصداقة أن تكون عامة لكل أفراد الجنس، وليست خاصة بواحد أو واحدة منه. كما تكون في نطاق العمل دون غيره، وأن تكون أيضاً أمام الكل وليس على انفراد.

أما من يختار شخصاً معيناً من الجنس الآخر لكي يذاكر معه (مثلاً) على انفراد، وينتظر التقابل معه بفارغ الصبر، ويفكر فيه كثيراً بعد الافتراق عنه، ويتضايق إذا رآهما أحد جالسين معاً، فإن زمالته أو صداقته لا تكون بريئة. ولذلك خير للطرفين في هذه الحالة أن يقطعا العلاقة التي بينهما على الفور، حتى لا تتطور إلى ما لا تحمد عاقبته.


[1] أي أنه لا يكل من السعي وراءنا.

[2] وقد تحدثنا عن هذه النجاسة كثيراً في كتاب "المشكلة الشبابية".

  • عدد الزيارات: 3700