كيف تُجري تأثيراً؟
في الكتاب المقدس شخصية مرموقة هو الملك حزقيا. لكن أباه آحاز كان إنساناً فاشلاً. لقد أخطأ وجرًّ على شعبه الشرًّ والخراب. كان هذا الملك آحاز يجلس ويفكّر ليكتشف شرّاً جديداً يقترفه. لقد عمل تماثيل مسبوكة للبعل وشجّع الشعب على السجود لها. ذبح الذبائح للأصنام على المرتفعات والتلال، وأقفل أبواب الهيكل بيت الرب. بل قدّم الذبائح البشرية حسب العبادات الوثنية وبنى المذابح في كل زاوية في شوارع أورشليم. لقد فعل الملك آحاز هذه الخطايا طوال 16 سنة من حكمه، ثم مات.
وحسب نظام الحكم في ذلك الزمن ملك ابنه حزقيا عوضاً عنه. كان الملك الجديد في الخامسة والعشرين من عمره عندما ملك.راقب أعمال أبيه وفساده. أبى أن يحذو حذو أبيه وقرًّر تغيير الاتجاه، فدعا الشعب للعودة إلى الله. عندما نتأمل الفوضى التي ورثها عن أبيه نستبعد أن يتمكن هذا الملك من إجراء إصلاحات ذات قيمة في فترة حياته. ولكننا قد نكون مخطئين في التقدير. فإن حزقيا تمكًّن في سنوات قليلة من تغيير الوضع كلياً. " وكان فرحٌ عظيم في أورشليم، لأنه من أيام سليمان بن داود ملك إسرائيل لم يكن كهذا في أورشليم" (2 أيام 30: 26).
إنها فعلاً قصة مشوِّقة. لقد أجرى حزقيا تأثيراً وأحدث تغييراً أرضى به الله، وكان ما عمله رائعاً. وكلما درست حياته ترى أنها اتَّسمت ببعض المبادئ الأساسية. من هذه المبادئ تبرز ثلاثة:
الإخلاص القلبي
إن المبدأ الأول في إجراء تأثير يرضي الله هو الإخلاص القلبي. "وكل عمل ابتدأ به في خدمة بيت الله وفي الشريعة والوصيّة ليطلب إلهه أنما عمله بكل قلبه وأفلح" (2 أيام 31: 21).
إن بولس الرسول يحضّنا للسير في هذا الاتجاه. "وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب، كما للرب ليس للناس" (كولوسي 3: 21). وقد قال سليمان كذلك "كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوَّتك، لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" (جامعة 9: 10). وعندما نقرأ هذه المقاطع نبدأ نرى أن الله يريد أناساً متشوّقين غيورين. لكن ماذا نجد في روح العصر الحاضر؟ هل الاتجاه الأغلب هو للإخلاص القلبي؟ بل ما أكثر ما نسمع قولاً يتردَّد في كل يوم: "على مهل" أو "لا تتعب كثيراً" أو "لا تجهد نفسك". إن خطورة هذا التراخي وعدم العمل بكل القلب هي في أنه داء قد يصاب به القائد المسيحي فيقصّر عمله عن الجودة ويتعرض للفشل.
كان مَثَلي الأعلى أثناء دراستي الثانوية زميلاً أكبر مني كانوا يلقبونه بالكرة الطائرة، فقد كان متفوِّقاً في الرياضة وطالباً ناجحاً. كنت أحب محاكاته في مشيته وتصرفاته. بل لقد تعلَّمت توجيه كرة السلة كما يفعل هو وقذفها بقوة تضاهيه تقريباً. لقد كان رامي الكرة في الفريق، وصرت أحاكيه في كل شيء حتى في الطريقة التي يلبس بها قبَّعته. وصممت أن أصبح الرامي في الفريق بعد تخرُّجه.
وفي السنة التي تلت تخرُّجه تقدمت لامتحان لاعبي الفريق. وعندما سألني المدرِّب إن كنت أرغب في الاشتراك في اللعب أجبته: أتسألني إن كنت أرغب؟ إني أحب ذلك بكل قواي، بل أشعر أن لا رغبة لي في شيء أكثر من هذه اللعبة.
وبكل طريقة أعرفها حاولت أن أبيِّن له حماستي وتصميمي. فسرّ بهذا ودعاني للاشتراك ومحاولة إبراز مقدرتي. وقد عملت وتوصَّلت فعلاً إلى مركز الرامي في الفريق.
ماذا تظنون أنه كان سيحدث لو أني أجبت المدرب مثلاً "لا أدري. لقد فكرت في هذا ولكني غير متأكد... ربما أحاول، مع أن هذا لا يهمني كثيراً". في هذه الحال كان من الممكن أن يلقي المدرّب إلي بنظرة ثانية وينصرف في سبيله. وقد تكون تلك خاتمة المطاف في ما يتعلق بقصة لعبتي المفضَّلة.
هل تظنون أن لدى الله مقاييس أوطأ من مقياس مدرِّب كرة القاعدة (بيس بول)؟ لا البتَّة. إن الله يبحث عن أناس يتعهدون بالإخلاص القلبي في خدمته. إن الإنسان السهل، المتهاون، الذي يسير على نهج هذا العصر ليس من مقياس الله في شيء. ومن الصعب الاحتفاظ بمستوى كتابيّ في عصر لا انضباطي. يجب أن يكون مقياس تصرّفاتنا عالياً.
في عامي الأول من خدمتي في الغرب الأوسط في الولايات المتحدة تصادفت مع شاب يدعى جوني ساكيت. كنا نشترك في درس الكلمة والصلاة، وربط الله بين قلبينا. بدأ يظهر من جوني ما يدلّ على أن له مستقبلاً في عمل المسيح. وسألني يوما ًإن كان يستطيع الانضمام إلى فريقنا. فشرحت له مقدار ما في ذلك من التزام فأظهر حماسة وانضمَّ إلينا. وكان مساعداً قوياً مملوءاً من النشاط والاندفاع.
استمر التقدم لعدة أشهر. وفي أحد أواخر الأسبوع خطّطنا للقيام بنشاط تبشيري في حرم جامعة ولاية أيوا. وعندما حان وقت الذهاب بالسيارة لاحظت غياب جوني. سألت أحد الشبان عنه فأجابني بأن جوني قرَّر عدم الذهاب. عندها حاولت أن أعرف لماذا قرَّر ذلك، هل لكثرة الدروس، أم أنه غير مرتاح لسبب ما، أم أنه يلقى معارضة من والديه؟ اتضح أخيراً أنه قرَّر عدم مرافقتنا دون أي سبب.
يومها ذهبنا بدونه، وكان عملنا مثمراً. وقد التقينا عدداً وافراً من الطلاب الذين كانوا متحمسين للتحدُّث عن الرب وعن تكريس حياتهم له، ورجعنا مملوئين من الفرح والشكر لله.
في يوم الاثنين التالي استعرت سيارة أحد الأصدقاء وذهبت لأرى جوني. وبعد أن تحدثنا قليلاً سألته إن كان قد فهم المقاييس التي اتخذها الفريق لعمله فأجاب بالإيجاب وبأنه كان سعيداً في انضمامه إلينا. فأعربت له عن سعادتي بانضمامه إلى الفريق وأسفي لقراره الأخير بألا يساهم في العمل معنا. فأصيب بصدمة وسألني ماذا أعني بذلك. وهنا شرحت له أن أهم مبادئنا في الخدمة هو أن يكون كلٌّ منا مستعداً وحاضراً عندما يتقرَّر القيام بخدمة مشتركة. هنا بدأ يبكي، وبعد برهة هدأ وترك السيارة وعاد إلى غرفته.
صلَّيت من أجل جوني يومياً لمدة أسبوعين. وبعد ذلك وصلتني منه رسالة يشكرني فيها على اهتمامي بالإيضاح له عن معنى انضمامه للفريق، ثم ذكر 13 سبباً لوجوب اعتباره عضواً عاملاً. فاتصلت به في الحال هاتفياً وأبديت له فرحي الشديد بعودته. إنه الآن يُعتبر أكثر الأخوة إنتاجاً، وقد خدم الرب في قارتين منذ ذلك الحين. وكانت المشكلة في البدء أنه لم يكن لديه أية فكرة عمَّا كنت أعنيه بمقاييس الالتزام والإخلاص القلبي. لا يكفي أن نشعر بالأسى والأسف عند مواجهة وضع خاطئ، بل علينا أن نعمل بمحبة وعطف واهتمام.
عندما قال يسوع "إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" فقد كان يعني ذلك فعلاً. وإني عندما أنظر إلى العشرين سنة الماضية أرى أنه كان عليّ أن أعالج الأمور بشكل مختلف. كان عليّ أن أظهر حنوّ المسيح ولطفه، ولكن المبدأ يبقى ثابتاً لا يتغيَّر.
كان مدرِّبي في معسكر مشاة البحريَّة يصرّ دائماً على ضرورة تأدية أعمالنا بأعلى مستوى. ولم يفعل ذلك رغبة في إزعاجي وإتعابي ولكن لعلمه بأني سأذهب إلى جبهة القتال، وعليه أن يعوِّدني على عادات يمكن أن تنقذ حياتي. فهو إذن لم يكن يؤذيني بل كان يسدي إليّ خدمة لا تثمَّن. وعندما وصلت إلى ساحة المعركة، وأحاطت بي النيران واكتنفني الموت والدمار شعرت بعرفان الجميل نحوه، بسبب كل ما علمني إياه. إن على القائد للسبب نفسه أن يعمل بروح الإخلاص القلبي لكي يجعل أتباعه يخلصون بقلوبهم للعمل. فلو لم يُبدِ حزقيا تلك الروح، روح الإخلاص القلبي، لما تاب الشعب عن الخطيئة بتلك الطريقة البارزة. إن قيادته هي التي رسمت الطريق التي سار عليها الآخرون.
كنت مرة في مدينة مينيابوليس أعمل في رفع الأثقال مع صديق اسمه بيل كول. انضم إلينا شاب آخر لفترة وجيزة. وبينما كان يغادر القاعة، كنت أرفع تسعين كيلوغراماً فوق رأسي، فالتفَتَ نحوي وقال "على مهلك". فلو كنت تمهَّلت في تلك اللحظة لكنت قضيت على نفسي. بالطبع لم يكن الشاب يعني ما قاله ولا استهدف أَذيَّتي، لكنها طريقته في قول "إلى اللقاء". ولقد فكَّرت طويلاً في تلك الجملة، فنحن نقولها كثيراً دون أن نفكر بأنها لا تنطبق على ما نودّ الإعراب عنه. إني شخصياً لا أشعر بأية رغبة في إتِّباع نصيحة كهذه إذ أني بطبعي أكثر ميلاً للحركة. ولعل طبيعتي الجامحة هي سرّ ذلك. وكلما شعرت بالتحدّي ازددت اندفاعاً إلى الأمام.
على القائد أن يأخذ بعين الاعتبار الحقيقة التالية. أنه لا يبني للحاضر فقط بل للمستقبل أيضاً. فإن كان قلبه فاتراً فماذا يخبّئ له المستقبل؟ وماذا تكون حال هؤلاء الذين درّبهم؟ هل تشتعل قلوبهم حماسة من أجل الرب؟ لا أظن ذلك إذا كان قلبه هو فاتراً. فالنار هي التي تشعل النار. عندما طهّر يسوع الهيكل تذكّر تلاميذه ما ورد في أسفار العهد القديم "غيرة بيتك أكلتني" (يوحنا 2: 17- انظر مزمور 119: 139). في كلتا الآيتين ذكر للغيرة الآكلة المتَّقدة من أجل الرب. متى كانت آخر مرّة ذكرت فيها أحدهم بآية في الكتاب المقدس تتكلم عن الاشتعال بنار الغيرة المقدَّسة؟ أم هل أصبحت الروح الحماسيّة المشتعلة غير متناسبة مع روح العصر كالعربات التي تجرها الخيول؟ وهل أصبح منظِّمو فريق الهتاف في المباريات الرياضية هم كل ما بقي في عصرنا الحاضر ممّن يقومون بأعمالهم بحماسة وحيوية بالغة؟ إن القائد المسيحي الحقيقي مفروض فيه إبداء الحماسة والحرارة نفسيهما اللتين أبداهما المسيح.
إن الإخلاص القلبي والحماسة هما تعبير عن الحب الذي يشتعل في قلب القائد، ومن هناك ينتشر في قلوب وحياة الآخرين الذين تصيبهم عدوى تلك الروح المشتعلة. يشعر بعضهم أن على القائد أن يقلّل من حماسته قليلاً لئلا ينفر الناس. إن هذا غير صحيح، إذ لو لعب القائد لعب الرجال فإن الرجال سيأتون ليلعبوا أيضاً. إن الوصيّة العظمى لا تزال في الكتاب المقدس: "الرب إلهنا ربٌ واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك" (مرقس 12: 29- 30).
ثبات العزم
والشيء الثاني الواجب ملاحظته في حياة حزقيا هو إخلاصه. فقد باشر العمل بالإصلاح واستمرّ فيه. "هو في السنة الأولى من ملكه في الشهر الأول فتح أبواب بيت الرب ورمَّمها، وأدخل الكهنة واللاويين وجمعهم إلى الساحة الشرقية. وقال لهم اسمعوا لي أيها اللاويون، تقدَّسوا الآن وقدّسوا بيت الرب آله آبائكم وأخرجوا النجاسة من القدس" (2 أيام 29: 3- 5). فهو لم ينصرف عن غايته إلى الأمور التافهة والمهازل أو المعارضة.
هناك ثلاثة من كتّاب الكتاب المقدس. يعطوننا أسباباً لثبات العزم. فبطرس يقول: "ولكن سيأتي كلصّ في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحلّ العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها" (2 بطرس 3: 10). إن كل شيء في العالم هو وقتيّ وعابر. هناك شيئان فقط يسموان فوق العالم ويبقيان إلى الأبد وهما كلمة الله ونفوس الناس. فعندما يكرّس القائد نفسه لخدمة هذين الشيئين فقد التزم بقيمٍ أبدية. إن الأشياء الدنيوية تحاول جذب اهتمامه إليها، لكنه يحدّق بعزم ثابت إلى الأشياء الأبدية.
والسبب الثاني لثبات العزم هو ما تقترحه كلمة يعقوب "أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد، لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخارٌ يظهر قليلاً ثم يضمحلّ" (يعقوب 4: 14). إن الحياة قصيرة ولا يجوز أن نضيعها. وعندما يرى الإنسان هذه الحقيقة فإنها تساعده على أن يبقى على الطريق القويم، رغم محاولة العالم جذبه لتحويل نظره عن المسيح. إن كلمة الله تبيّن لنا أين يجب أن ننظر. "لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا، لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستعيناً بالخزي، فجلس في يمين عرش الله" (عبرانيين 12: 1- 2).
والسبب الثالث لثبات العزم بيَّنه بولس. "إذن يا أخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب" (1 كورنثوس 15: 58). فعندما نكون سائرين في الطريق الضيق المستقيم وعيوننا على المسيح نحصل على اليقين بأن عملنا ذو قيمة. ويا لها من فرحة تلك التي يشعر بها القائد عندما يرى أنه بينما يضيع كثيرون حياتهم في أعمالٍ لا قيمة لها يعرف هو أن خدماته للمسيح ذات قيمة أبدية.
إن الكتاب المقدس مملوء من الأمثال عن رجال كانوا ثابتي العزم في عملهم مع الله، ولعل موسى هو نموذج لذلك. "بالإيمان موسى لمّا كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون، مُفضِّلاً بالأحرى أن يذلّ مع شعب الله على أن يكون له تمتّع وقتي بالخطيّة حاسباً عار المسيح غنىً أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عبرانيين 11: 24- 26).
وبولس الرسول ضرب على الوتيرة ذاتها: "أيها الأخوة، أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت، ولكني أفعل شيئاً واحداً إذ أنسى ما هو وراء وأمتدّ إلى ما هو قدَّام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (فيلبي 3: 13- 14).
ولكن أعظم مثل هو مثل يسوع نفسه. "وحين تمَّت الأيام لارتفاعه ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم" (لوقا 9: 51). وحين رأى تلاميذه ذلك تعجبوا "وكانوا في الطريق صاعدين إلى أورشليم ويتقدَّمهم يسوع. وكانوا يتحيَّرون، وفيما هم يتبعون كانوا يخافون. فأخذ الإثني عشر أيضاً وابتدأ يقول لهم عما سيحدث له" (مرقس 10: 32). لماذا تحيَّروا؟ لقد كان يسوع يعرف بالتمام ما كان سيواجهه ومع ذلك فإنه كان يسير إلى الأمام بلا تردُّد وقال: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت ويسلِّمونه إلى الأمم" (مرقس 10: 33).
لقد رأى الإثنا عشر في ملامح وجه يسوع شيئاً جعلهم يتحيَّرون ويقلقون. كانوا يخافون ما تخبّئه لهم الأيام المقبلة، وقد حيَّرتهم شجاعة قائدهم. فقد كان يسوع المسيح يسير بخطوات متَّزنة وعزم نحو الصليب. إنه كان يعرف مهمته ويتقدَّم بعزم نحو إتمامها. وعلينا نحن أن نعمل على هذا النحو. العالم يضايقنا لكي نقع في هذا الشرك أو تحت ذلك الحمل. ولكن كلمة الله تدعونا لكي نتجرَّد من كل شيء ونطرح عنا كل حمل ونجدّ في السير نحو الهدف. ثبات العزم ليس سهلاً ولكنه ضروري.
عاش دوسون تروتمان مؤسس حركة "الملاّحين" حياة تضحية ومات كذلك، وعندما مات ابنه الواعظ بيلي غراهم فقال وهو يشير إلى ثبات عزم تروتمان:
هنا رجل لم يقل "أمامي أربعون مهمة أحاول أن أُتمّمها" بل قال كما قال بولس: "أفعل شيئاً واحداً... أسعى نحو الغرض".
يمكن للإنسان أن يضيع حياته بإحدى هذه الطرق الثلاث. الأولى هي بالاسترخاء والكسل وعدم القيام بأي عمل. ولكم رأيت شباناً يعملون ذلك، فيشترون قيثارة ويلبسون سراويل قصيرة، ثم يذهبون إلى شواطئ كاليفورنيا المشمسة، حيث يقضون أوقاتهم منطرحين على الرمال الساخنة. والطريقة الثانية لإضاعة الحياة هي أن تتخذ لنفسك هدفاً وتعمل جادّاً لبلوغه ثم تكتشف آخر الأمر أنك أخطأت في اختيار الهدف. ولقد عرفت كثيرين ممن أصابهم ذلك وقد رووا قصَّتهم بأسفٍ مرير ودموع.
أما الطريقة الثالثة فهي ما كان يتكلم عنه الدكتور غراهم، أي الارتباك في مجموعة من المهامّ ومحاولة إتمامها دون إنجاز أيّ منها تماماً.
لقد حذَّر الله يشوع من الارتباك والتردُّد إذ قال له: "كن متشدّداً وتشجّع جداً لكي تتحفَّظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي. لا تمِل عنها يميناً ولا شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب" (يشوع 1: 7). لم يكن هذا تحذيراً من السير في الطريق بل من الترجُّح بين ناحية وأخرى في الطريق الصائب.
ولكم راقبت أناساً يعملون هذا. فحيناً يبدؤون في الاتجاه الصحيح، ولكن شيئاً ما يحدث، فيعرقل سيرهم وإذ بهم يميلون عن طريق الصواب. ثم يرون خطأ ذلك فيعودون إلى الطريق الصحيح لكنهم لا يلبثون أن يميلوا إلى هذا الجانب أو ذاك. إنه من المفجع حقاً أن يرى المرء أناساً طيّبي القلوب يدورون في الحياة حول أنفسهم. لماذا؟ لسهولة تحوّلهم عن عزمهم؟ ليس لديهم ثبات عزم والإصرار على المواصلة نحو الهدف الذي كان في موسى أو بولس أو يسوع.
قد يتذّمر البعض ويقولون "هذا الأمر صعب". إنه صعب فعلاً. قال بولس الرسول "أسعى نحو الغرض" إنه سعيٌ وسيرٌ حثيث نحو الهدف الواحد بعزم ثابت. ليس في الأمر سهولة العوم أو التزلُّج. وفي قول بولس "أسعى نحو الغرض" دليل على وجود صعوبات في الطريق. فإن العالم يحاول إغراءك والشيطان يحاربك، لكن نظرك المتواصل إلى يسوع يتيح لك القوة لمواصلة السعي وبلوغ الهدف.
إن شهادة بولس تبيّن ذلك بوضوح "ولكنني لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي، حتى أُتمّم بفرحٍ سعيي والخدمة التي أَخذتها من الرب يسوع، لأشهد ببشارة نعمة الله" (أعمال 20: 24). إنه يقول "سعيي" إن أعظم فرح في الحياة هو أن تعرف بأنك تسعى كما يريد الرب وفي الطريق الذي اختاره لك.
إن لكل منا طريقاً يسلكه ومهمّة يتمِّمها وهدفاً يسعى إليه. "قولوا لأرخبُّس انظر إلى الخدمة التي قبلتها في الرب لكي تتمِّمها" (كولوسي 4: 17).
أتذكَّر حدثاً مصيرياً في حياتي. لقد اختبرت أنا وزوجتي الإيمان من خلال قراءة الكتاب المقدس. ولم يكن حولنا كثير من الذين يمكن أن يقدِّموا لنا النصح الروحي، ومع هذا فقد قرَّرنا أن نسير مع الله بعزم ولغرض واحد. وأخبرنا صديق لنا من هارلان، أيوا، هو القس آرلان هالرسون عن مدرسة للكتاب المقدس في مدينة مينيا بوليس، حيث نستطيع أن نتعلَّم كلمة الله. كنا يومها جديدين في الإيمان ولدينا رغبة في النمو، لذا قررنا الذهاب إلى تلك المدرسة وتكريس حياتنا كلها لخدمة المسيح. وكنت في ذلك الوقت ناجحاً في عملي، وعندما بدأت أُخبر زملائي في العمل كما كنت أنوي القيام به لم ألقَ منهم إلا المعارضة والانتقاد. لقد حسب بعضهم تصميمي غباوة أو تطرُّفاً. إن من الجنون في رأيهم أن يترك المرء عملاً يدرُّ عليه دخلاً ويؤمّن له العيش. أما نحن فكنا نعرف ما يجب أن نفعل.
لقد تركت عملي وأَعددت ما يلزم لمغادرة مدينة كونسل بلوفز إلى كليّة نورث وسترن. بعنا بعض ممتلكاتنا ووزَّعنا أكثر ما بقي منها وأصبحنا أحراراً في الذهاب. وضعنا بعض ملابسنا وحاجياتنا على عربة أطفال واتجهنا نحو المحطة. كانت فرجينيا زوجتي تجرّ العربة وأنا أدفعها من الخلف في طريق مغامرتنا. ولقد قرَّرنا أل ننظر قط إلى الخلف، بل ولا نلتفت يميناً أو شمالاً بل نُبقي عيوننا متَّجهة نحو يسوع فنتبعه أينما وجَّهنا. وها قد مرَّ خمسة وعشرون عاماً منذ ذلك الوقت فواجهنا خلالها معارضة وتجارب، إنما لا يزال يسوع يسير معنا ويُرينا الطريق.
يبحث الرب هذه الأيام عن أناس لا يهتمون قط بالمديح الفارغ واللذات الدنيوية في الحياة. إنه يبحث عن رجال ونساء يهتمون فقط بحاجة العالم للمسيح، ويتحمَّسون لإتِّباعه ولهم عزم وهدف. إن شهادة بولس مشجّع لنا، وقد كتب إلى تيموثاوس يقول: "فإني أنا الآن أُسكب سكيباً ووقت انحلالي قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديّان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً" (2 تيموثاوس 4: 6- 8).
الروح المناضلة
بالإضافة إلى الإخلاص القلبي وثبات العزم عمل الملك حزقيا بروح مناضلة. لقد واجه صعوبات كثيرة لكنه جاهد متقدّماً بإيمان وحماسة بالغين. أرسل سعاة إلى المناطق فواجههم البعض بالسخرية. "فكان السعاة يعبرون من مدينة إلى مدينة في أرض افرايم ومنسَّى حتى زبولون، فكانوا يضحكون عليهم ويهزؤون بهم" (2 أيام 30: 10). لكن هذا لم يؤخّر العمل. "هكذا عمل حزقيا في كل يهوذا، وعمل ما هو صالحٌ ومستقيمٌ وحق أمام الرب إلهه" (2 أيام 31: 20).
هذه هي القاعدة الأساسية التي نراها في حياة القادة المذكورين في الكتاب المقدس. إليكم شهادة بولس: "من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلاّ واحدة، ثلاث مرات ضربت بالعصي، مرة رُجمت. ثلاث مرات انكسرت بي السفينة. ليلاً ونهاراً قضيّت في العمق، بأسفار مراراً كثيرة، بأخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الأمم، بأخطار من المدينة بأخطار في البرية، بأخطار في البحر، بأخطار من أخوة كذبة، في تعب وكدّ، في أسهار مراراً كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مراراً كثيرة، في بردٍ وعري، عدا ما هو دون ذلك. التراكم عليّ كل يوم، الاهتمام بجميع الكنائس" (2 كورنثوس 11: 24- 28).
ماذا كان موقف بولس وسط كل هذه الصعوبات؟ "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألَّموا لأجله" (فيلبي 1: 29).
لقد واجه نحميا معارضة مستمرَّة من أعدائه. "ولما سمع سنبلَّط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون أن أسوار أورشليم قد رمِّمت والثُغر ابتدأت تُسدّ غضبوا جداً وتآمروا جميعهم معاً أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضرراً" (نحميا 4: 7- 8). ولقد بدَت روح النضال في ردِّه "فصلَّينا إلى إلهنا، وأقمنا حرَّاساً ضدَّهم نهاراً وليلاً بسببهم" (نحميا 4: 9).
ومرة أخرى جهَّزت المعارضة هجوماً لكي يمنعوا نحميا من إتمام غايته، وفي كل مرة كان هو يفوز. "أرسل سنبلَّط وجشم إليّ قائلين: هلم نجتمع معاً في القرى في بقعة أونو، وكانا يفكران أن يعملا بي شرّاً. فأرسلت إليهما رسلاً قائلاً أني أنا عامل عملاً عظيماً فلا أقدر أن أنزل، لماذا يبطل العمل بينما أتركه وأنزل إليكما؟ وأرسلا إليّ بمثل هذا الكلام أربع مرّات وجاوبتهما بمثل هذا الجواب" (نحميا 6: 2- 4).
يستخدم بولس الرسول كأمثلة مجازية حياة الجندي والرياضي والزارع. "فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجنَّد يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنَّده. وأيضاً إن كان أحد يجاهد لا يكلّل إن لم يجاهد قانونياً. يجب أن الحرَّاث الذي يتعب يشترك هو أولاً في الإثمار" (2 تيموثاوس 2: 3- 6).
إن علامة الجندي الصالح هي أنه يربك العدو. إن أعداء إيمان المسيح كانوا يتضايقون من وجود بولس. وفي أفسس اعتقد ديمتريوس، صانع هياكل الفضة، أن صناعته ستتدمّر بسبب تعليم بولس (انظر أعمال 19: 23- 28). لقي بولس معارضة من قادة الديانات الزائفة ومن شياطين جهنّم لكنه لم يرهب أحداً. لقد برهن بولس أنه الجندي الصالح.
يتبارى الرياضي عادة مع منافسين، لكن صراعه الأول يكون مع نفسه. فعليه أن يتغلّب على شكوكه ومخاوفه وكسله، والرغبة في القعود والراحة. يخبر بولس الرسول عن معارك في حياته نفسها: "وكل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء. أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلاً يفنى وأما نحن فإكليلاً لا يفنى. إذن أنا أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين. هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء، بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً" (1 كورنثوس 9: 25- 27). يواجه القائد باستمرار شتى أنواع المشاكل والصعوبات من الآخرين، لكن صراعاته الرئيسة تكون في الغالب مع نفسه.
والزارع يواجه في عمله قلة المطر حيناً والسيول الجارفة حيناً آخر، وتصاب زراعته بالأمراض من كل نوع. وإني لأذكر كيف أن إحدى مزارعنا في أيوا ضربتها عاصفة برد عاتية قبل عدة سنين، وكان طول نبتات الذرة في الحقل حوالي ستة أقدام، ولكن من يرى الحقل بعد العاصفة يصعب عليه أن يصدّق أن ذاك كان حقل ذرة. كانت تلك العاصفة بالغة الشدة حتى أنها هدمت جرسيّة الكنيسة وحطّمت عدة نوافذ. وعندما سمعت إحدى شركات البذور في مدينة شينادووا عن نكبتنا أرسلت بعض المساعدات. لقد جاءت منها شاحنة محمّلة بحبوب الصويا، وقالوا لنا أننا لو زرعناها فلربما نحصل على مؤونة لإطعام ماشيتنا في فصل الشتاء.
ولم نكن نعرف في ذلك الحين شيئاً عن حبوب الصويا. إنما كنا نعرف أن موسم زراعة الذرة قد فات أوانه. ولذا قمنا بمحاولة على أمل الحصول ولو على غذاء للماشية.
كانت صدمة أخي شديدة باعتباره المسؤول عن المزرعة، لكني لا أزال أذكر كيف شمَّر عن ساعديه وبدأ يجاهد. ما كان أسهل أن يقطع أخي الأمل ويجلس يندب سوء حظّه. إن أخي لم يفعل ذلك قط بل أظهر روح النضال الصحيح.
بعد أن ذهب والدرون وجوان سكوت وعائلتهما إلى الشرق الأوسط في أواخر الخمسينات ليخدموا المسيح ساءت الأمور معهم من كل ناحية. عن حالتهم المالية لم تسمح لهم بابتياع الأثاث اللازم. ولذا قامت الأخت جوان بعمل كيس قماش لتغطية حقيبة السفر واستعمالها كمقعد. وانفجر يوماً إناء غلي الماء فأصابها بعدة حروق. وخلال سلسلة من الأحداث أُدخل والدرون السجن وغرقوا في متاعب كثيرة، إلا أن روح النضال لم تفارق هذين العزيزين فإن ثقتهما بوعود الله قد ساعدتهما على الاستمرار في الجهاد. والآن يوجد في أنحاء الشرق الأوسط رجال ونساء ممن مسَّت حياتهم روح إنجيل المسيح التي وصلتهم بواسطة المرسلين والدرون وجوان سكوت. إن أولئك المسيحيين الأقوياء والجنود المخلصين للإيمان قد رأوا في والدرون المثل الصحيح للجندي الحقيقي للمسيح وهكذا تحوَّلت الظروف الصعبة لمصلحة ملكوت الله.
إن هذا ما تميّز به خدام المسيح في كنيسة العهد الجديد. لقد كان لديهم روح النضال الذي يتميّز به المحاربون المكرّسون لله. لقد كانوا كما جاء عن بولس وبرنابا أنهما كانا "رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح" (أعمال 15: 26).
هل بهذا يتصف القائمون على العمل المسيحي اليوم؟ في بعض الحالات نجد الجواب نعم، لكن كثيراً ما نعتبر حسنات الإنسان قدرته الفكرية وثقافته العالية. لقد سمعت مرة مديح رجل لكونه يملك مكتبة فيها عشرة آلاف مجلّد. من الواضح أنه ليس من الخطأ امتلاك أو قراءة كتب عديدة فمن واجبنا أن نعرف الله ونحبّه من كل فكرنا. ولكن على القائد ألا يقف عند هذا فالمطلوب ليس ذهناً متوقداً بل روح نضال تجعله يستمر في التقدم عندما ينهار كل شيء حوله.
في بدء حياة المسيحية عرف هذا الرسول ما كان سيتحمله من آلام. "فقال له الرب اذهب، لأن هذا إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل. لأن سأريه كم ينبغي أن يتألّم من أجل اسمي" (أعمال 9: 15- 16). لقد عرف بولس المكافأة التي سيحصل عليها، لكنه عرف أيضاً كم ستكلّف. كان يعلم قيمة التتلمذ للمسيح، وقد قال فيما بعد "وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم... في ما بعد لا يجلب أحدٌ عليّ أتعاباً لأني حامل في جسدي سمات الرب يسوع" (غلاطية 6: 14- 17). وعندما أراد الرسول أن يُسكت أولئك الذين حاولوا الطعن في رسوليّته أراهم آثار الاضطهاد في جسده. فقد كان المسيحيون الأولون يواجهون المخاطر والجلد والأسود. لقد كانوا أبطالاً بكل معنى الكلمة. أما نحن فنعيش في عصر الرفاهية، عصر الطيران والتلفزيون والنايلون. ليت الله يهبنا القوة ذاتها والإيمان اللذين تحلّى بهما وأظهرهما رجال الله في الماضي.
إذن، هذه هي الأشياء الثلاثة اللازمة في القائد لكي يُجري تأثيراً. إن علينا أن نكون ذوي قلوب مخلصة وعزم ثابت وأن يكون لنا روح النضال. قد تستمر البرامج الدينية دون هذا كلِّه، ولكن القائد الذي يريد أن يستخدمه الله فتثمر حياته ثمراً دائماً يحتاج أن يعمل لتكون فيه هذه الصفات الثلاث.
- عدد الزيارات: 9886