الانفصال في الكتاب المقدس
إن الحق المختص بالانفصال يمكننا أن نوليه الأهمية العظيمة إذا عرفنا أنه موجود في أول صفحة من أسفار الكتاب, فنقرأ في تكوين 1: 4 "وفصل الله بين النور والظلمة". هذا هو حق الانفصال. ومن المفيد لنا أن نتأمل هذا العدد. فسفر التكوين هو "المشتل أو الوعاء الذي يجمع بذار الكتاب" وبذرة كل حق تتخلل أسفار الكتاب كلها. وكم هو أمر مُلذ لنا أن نتعلم أن الانفصال هو أولى الحقائق التي يستحضرها الكتاب أمامنا, كما نجدها في الإصحاحات الأخيرة للسفر الأخير من الكتاب حيث يُستعلن الانفصال الأبدي والنهائي للمُخلّصِين عن الهالكين.
إنه موضوع يستحق منا كل اهتمام وتقدير واجتهاد, فرغبة كل واحد من أولاد الله الحقيقيين أن يفعل إرادة أبيه. وأحياناً لا تسير هذه الرغبة كما يجب أن تكون, لأن الطبيعة القديمة فينا تستاء من الانفصال وتتعلق بالأشياء القديمة. إنه قول صحيح ما نسمعه إن المرء متى خلص فإنه سُلِب من هذا العالم. ومتى حاول المؤمن أن يستمر في مسرات العالم وطرقه فإنه لا يقدر أن يستمتع كما كان يفعل ذلك في الأيام التي سبقت تجديده. إنها حقيقة بالنسبة إلى حياته الجديدة وطبيعته الجديدة, شخص منفصل كما أن النور منفصل عن الظلمة. وروح الله القدوس يسكن أجساد المؤمنين ويسكب محبة الله في قلوبنا, أما إذا سمحنا للخطية أن تجد مجالها فإنه يحزن ويجعلنا غير سعداء حتى نعترف بها "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" 1 يوحنا: 9. وهذا هو السبب في أن المؤمن الحقيقي لا يجد مسرته في العالم كما كان قبل أن يخلص.
والانفصال يبدأ عندما يخلص المرء, لأن الله يفصل المؤمن عن العالم الذي هو تحت الدينونة. وموقف العالم من هذا المؤمن " خذوه بعيداً مع المسيح" وهكذا يُعلّق الاتهام فوق رأسه أنه من أتباع المسيح المرفوض منهم.فعندما يقبل المرء الرب يسوع المسيح كمخلصه فإنه يتقدس أو ينفصل للمجد مع المسيح الذي في السماء. "الذي يؤمن به لا يدان, والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" يوحنا 3: 18. ونحن كمؤمنين قد أحضرنا إلى مركز جديد. فنحن لسنا من العالم (يوحنا 17: 16) بل بالحري مرتبطين بالسماء حيث مواطنتنا وآمالنا تتركز هناك (فيليبي 3: 20 و21). ومركزنا هنا قريب الشبه بالسفير الذي يمثل بلداً آخراً (2 كو5: 20 و21) طالبين الخير والبركة للجميع, فمع أننا في هذا العالم ولكننا لسنا منه. وعلينا أن نُظهِر اللطف والمحبة لغير المخلصين عندما نحذرهم بوقوع القضاء الآتي ونطلب منهم أن يقبلوا الرب يسوع كمخلصهم. ونحن ننتظر مجيء المسيح لكي يأخذنا إلى بيتنا في العلا. عندئذ سننفصل انفصالاً تاماً عن هذا العالم إلى الأبد. فياله من إنقاذ مجيد سيتحقق.
ونقرأ أيضاً في عبرانيين 10: 10 "فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة". والفكرة هنا ليست الانفصال عن العالم كنظام (الذي كنا نتكلم عنه الآن), بل بالحري مركز المؤمن في ارتباطه بالنظام الديني وطقوس العبادة تحت الناموس. هنا نجد أن موت المسيح يفصلنا عن كل الطقوس اليهودية, التي هي "ظل الأمور العتيدة". ومع أننا لسنا عبرانيين, ولكن من الأهمية لنا أن نتأمل هذا الجزء مصلين, لأن الأنظمة الدينية المسيحية اليوم تحاكي في جزء كبير منها اليهودية, ومكاننا - بالنظر إلى هذا- يتضح في هذا العدد: "فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة حاملين عارة" عبرانيين 13: 12. ولهذا فإنه بموت المسيح لم ننفصل فقط عن مسرات العالم والخطية, بل من خلط اليهودية بالمسيحية في تلك الأنظمة الدينية.
وبعد أن تحدثنا بإيجاز عن الانفصال من زاوية المركز, فلنأخذ الآن الجانب العملي منه: كان الرب يسوع قد صلى لأجل خاصته في صلاته الكهنوتية العظيمة: "قدسهم في حقك, كلامك هو حق" يوحنا 17: 17. وصلى الرسول أيضاً لأجل مؤمني تسالونيكي بهذه الكلمات: "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتُحفَظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح: 1تس5: 23. عالمين أننا قد انفصلنا عن عالم تحت الدينونة, وانفصلنا للسماء, وهذا بالضرورة سيؤثر على حياتنا. فإن كنا غير مرتبطين بهذا العالم فلا يجب أن نتصرف كما كنا قبلاً. "ولا تشاكلوا هذا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" رومية 12: 2. إن حياتنا كلها ومسراتنا وسيرتنا ومظهرنا وكل شيء يجب أن يُظهِر أننا مرتبطون بالمسيح وبالسماء. وعندما نتحدث عن الانفصال ثم نطلب مكاناً في أنظمة العالم فهذا يجعل انفصالنا له مظهر خارجي فقط وليس حقيقياً. فإذا كنا نلاحظ ونجري نحو مُتَع العالم ونتغذى على حماقاته ونتابع حكمته لأجل مسيرتنا في هذه الحياة فإننا نتشبه بالعالم.
إن الانفصال الحقيقي هو عمل إلهي في القلب, ليس هو مجموعة قوانين ولكنه شخص المسيح المبارك أمام القلب. إنه يملأ القلب فيوجه أرجلنا لكي تتبعه. لقد سار هنا مرة قبلنا كالشخص المرفوض. وكان لا يزال هو الشخص المنفصل حقاً- وهو الآن في المجد- رئيس خلاصنا, ليأتي بأبناء كثيرين إلى ذات المجد. فإذا كان الانفصال هو عمل خارجي فقط فإنه يقود إلى الكبرياء والاكتفاء بالذات- وهذا شيء بغيض لدى الله. إن الانفصال الحقيقي ينتج من محبة المسيح التي تحصر القلب. وهذا يجلب له الرضى والسرور. إن الانفصال أولاً يكون للمسيح ثم لكل شيء لا يُسره "وهذه هي الغلبة التي لا تغلب العالم إيماننا" 1يوحنا5: 4.
وفي هذا الصدد نتذكر ما قاله واحد: إن الحالة العالمية معناها أن تصبح بلا قلب من نحو المسيح- ذاك الذي فدانا لنفسه بدمه الغالي الثمين. إنه "بذل نفسه لأجل خطايانا لكي ينقذنا من العالم الحاضر الشرير بحسب إرادة الله وأبينا" غلاطية 1: 4, والآن وهو في المجد قد خطب كنيسته لنفسه كعذراء عفيفة (2كو11: 2). ولكن يؤسفنا القول بأن الكنيسة والعالم غالباً ما وُجِدتا تسيرا جنباً إلى جنب. وكم كان محزناً لعريسنا السماوي الذي يرغب أن تكون عواطفنا تعلو فوق كل شيء بخلافه. "فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً لله" يعقوب4: 4. ولا يجب أن يُفهَم كأننا موضوعون تحت ناموس معين عندما نتكلم عن الانفصال. ألم يقل الرب يسوع "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" يو 14: 15. وهذه ليست عبودية, إنها "ناموس الحرية" لكل قلب يتمتع بمحبته. فالإنسان الجديد يُسَّر بالطاعة.
- عدد الزيارات: 4369