المسيح في حياة الرسول بولس
الآن وقد انكشف لنا ما تحمله هذه الكلمات في جوفها من معنى نتقدم لنرى كيف أنها كانت ممثلة في حياة الرسول حتى في ظروفه الخاصة. إننا لا نجهل بأن بولس عندما نطق بهذه الكلمات كان الرسول الأسير في سجن رومية المُعرّض للاستشهاد. وفي الوقت نفسه كان الخادم المحوط بالخدم الكثيرة التي تطمح نفسه لإتمامها وما أمرّ الساعات التي يقضيها خادم الله الأمين مُبعداً ومحروماً من السير في طريق خدمته حتى في هذا الوقت العصيب لا نستطيع أن نقول بأن الرسول لم يعمل فيه شيئاً لأنه كان يعمل على إظهار المسيح وتعظيمه. فإذ غابت نفسه من أمامه استخدم أسره في إعلان المسيح، إذ كم نندهش عندما نقرأ ما يكتبه لإخوته "ثم أريد أن تعلموا أيها الإخوة أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل حتى أن وثُقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقي الأماكن أجمع". وما يعنيه الرسول بهذا القول هو أن أسره قد أصبح مرتبطاً بكونه خادم المسيح وأصبح معلوماً لدى الجميع بأنه لم يزج في السجن لجريمة مشينة ارتكبها بل لأنه خادم المسيح فقط. وهو يرى بأن هذه المعرفة التي ذاعت في دار الولاية وفي باقي الأماكن أجمع لا بد أن تعود بفائدة لذاك الذي هو لأجله سفير في سلاسل.
وأكثر من ذلك فإنه يكتب "وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بدون خوف" فكثرت المناداة بالإنجيل وكثر الكارزون به ولكنه مع ذلك كله لم يجهل بأن قوماً كانوا يكرزون بالمسيح عن حسد وخصام ظانين أنهم يضيفون إلي وثقه ضيقاً وآخرين عن محبة عالمين بأنه موضوع لحماية الإنجيل وهنا نرى امتزاجاً غريباً قد يفشل بسببه الكثيرون من الخدام ولكن ماذا كان يرى الرسول في هذا الامتزاج وقد استطاع أن يقول أولاً "لي الحياة هي المسيح" "فماذا غير أنه على كل وجه سواء كان بعلّة أم بحق يُنادي بالمسيح وبهذا أنا أفرح. بل سأفرح أيضاً". لقد غابت من أمام عينيّ الرسول غايات نفسه فأصبح يفرح لأنه علم أنه مهما كانت غايات الذين يكرزون فيكفيه أن اسم المسيح يُعلن ويُنشر. كما أنه كان يوقن بأن الله قادر أن يستخدم هذه الشهادات لتتميم مقاصده مهما كانت أغراض الكارزين، بل أكثر من ذلك فإننا نرى بأن نفس الرسول قد صغرت أمامه جداً ولم يحسب لها حساباً لأنه استطاع أن يفرح في عمل الآخرين ما دام موضوع الكرازة يسوع دون سواه.
ثم يتقدم الرسول قائلاً، لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاص بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح حسب انتظاري ورجائي أني لا أخزي في شيء بل بكل مجاهرة كما في كل حين كذلك الآن يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياة أم بموت لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح، فإذ كانت وجهة الرسول في الحياة إظهار المسيح وتعظيمه. وإذ كانت له الثقة القوية بالله كمن يسلك بالإيمان وليس بالعيان استطاع أن يقول "إني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاص" فقد وصل العلم إلى أعماق نفس الرسول وإذ تغلغل هذا اليقين في نفسه ارتفع بقوة الروح فوق جميع ظروفه وأدرك بأن الله لا يعجز عن تتميم أغراضه ومقاصده. فاستراح قلب الرسول على هذا العلم الذي مُنح له واثقاً بأن أسره موكول ليد الله وليس ليد إنسان.
ولا شك أن الله كان يستخدم وسائط لتتميم أغراضه. وأول واسطة كانت صلوات القديسين الذين كان يُسّر أن يشركهم الرسول معه في حاجاته وظروفه وثانياً مؤازرة روح يسوع المسيح أي الروح الذي أظهره يسوع في وسط تجاربه وأحزانه واضطهاداته. وبواسطة صلوات القديسين ومؤازرة روح يسوع المسيح استطاع أن يتوقع استشهاده دون أن تظهر عليه عوارض القلق بل اعتبرها فرصة أخرى لتعظيم المسيح وهكذا يقول بحق، حسب انتظاري ورجائي أني لا أخزى في شيء بل بكل مجاهرة كما في كل حين كذلك الآن يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياة أم بموت، أي أنه إذا أُطلق من أسره فهو يعتبر بأنها فرصة مقدمة له لتعظيم المسيح أكثر في حياته وخدمته وإذا أُطلق فريسة للأسود فهو يحسب بأن الله قادر أن يحوّل هذا العمل ليكون شهادة للمسيح. وصفوة القول هي أن الرسول نظر إلى جسده كمجرد آنية لإظهار المسيح وتعظيمه إن بحياة أم بموت. وهذا ما يوضح لنا السبب الذي يقدمه "لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" ومن ذا الذي يستطيع أن يُقدّر عُظم ربح الرسول؟ تأمل إلى حالته مثلاً وهو مقيد بسلاسل مع جندي بسجن رومية ثم ارفع بصرك إلى فوق وتأمل إلى حالته وهو متغرب عن الجسد ومستوطن مع الرب. وعند الرب الذي ظهر له في طريقه إلى دمشق ودعاه بنعمته وأُفرز لخدمته. قارن بين هاتين الحالتين. بين حالته مع جندي في السجن وحالته مع الرب في المجد فتدرك شيئاً قليلاً جداً من عُظم ربحه. وماذا كان الموت لرجل كبولس؟ ليس سوى طريق يجوزه ليصل إلى حضرة ذاك الذي أحبه وأسلم نفسه لأجله. فلم يرتاع الرسول الأسير مما ستعمله سلطة رومية بل ارتفع منتصراً فوق كل مكيدة والسر في ذلك لأنه استطاع أن يقول "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح".
وما حالنا نحن؟ أنرغب في أن تكون لنا القوة على النطق بلغة الرسول؟ أنعتبر أجسادنا مجرد أوان لإظهار المسيح وتعظيمه؟ هل عندما نقوم في الصباح ننظر إلى اليوم القادم كأنه فرصة أخرى مقدمة لنا لإعلان المسيح وتمجيده؟ إن الرسول في هذه الحالة قدوة لكل مؤمن وإذا ما رغبت قلوبنا وحبت نفوسنا لأن تكون في هذه الحالة فلا بد أن الله يهب لنا النعمة الكافية سواء أكانت طريقنا في الليل البهيم أم في النهار المنير.
وخليق بنا أن نشير إلى علاقة الإصحاحات الباقية من الرسالة إلى أهل فيلبي بموضوعنا الذي نحن بصدده الآن. قد لاحظنا بأن إظهار المسيح وتعظيمه في الحياة هو غرض هذه الرسالة وهذا ما رأيناه في الإصحاح الأول مرتبطاً بظروف الرسول الشخصية. أما في الإصحاح الثاني فينتقل نظرنا من الرسول إلى المسيح نفسه فنرى أنه بدون فكر المسيح فينا لا يمكن إظهاره في الحياة. وفي الإصحاح الثالث نرى القوة التي تعيننا على إظهار المسيح حياتنا. وفي الإصحاح الرابع نشاهد صفات من كان المسيح حياتهم.
- عدد الزيارات: 4377