إثر خطواته
1بطرس 2: 21- 23
لنصغ أولاً إلى تحريض الرسول. فلقد عبر يوم في تاريخ حياة بطرس، عندما قال له الرب بعد أن رد نفسه: "اتبعني" (يوحنا 21: 19). أما الآن فإن الرسول يضع أمامنا هذه الكلمات: "لكي تتبعوا (إثر) خطواته". ومع أننا نجد هذه الكلمات شائعة غالباً بين عموم المسيحيين وأيضاً بين المؤمنين الحقيقيين، إلا أنها غير واضحة المعنى وغامضة نوعاً ما لديهم.
فقد نجد، حتى بين غير المتجددين، أنهم يرددون هذه الكلمات، ولكنهم للأسف يرددونها بأفكارهم الخاطئة، ظانين أنه إذا تمسك الناس بممارسة وصايا الموعظة على الجبل فإنهم سيصبحون حقاً مسيحيين ممتازين، وبذلك يكونون في أمان من جهة خلاص نفوسهم. ومن المرجح فإن أولئك الذين يتكلمون بخفة عن اتباع خطواته فإنهم يشعرون بالفشل والضياع إذا رجعوا إلى هذا النص الكتابي، ومع ذلك فإنهم يفضلون تفسيراتهم الخاطئة لهذه الكلمات عن كونهم يقبلون المعنى الذي يقصده الروح القدس من هذا النص.
وبالرجوع إلى النص السابق نتعلم أن الرسول يخاطب مؤمنين. أولئك الذين يقول عنهم أنهم نائلين غاية إيمانهم خلاص نفوسهم (1بطرس1: 9). ومن المؤكد أنه لا يوجد تحريض للخاطئ لكي يتبع إثر خطواته لعله ينال الخلاص. فبعيداً عن ذبيحة المسيح التي قدمها بموته، والإيمان بدمه الكريم فلا خلاص للخاطئ الهالك. والكتاب لا يستخدم "إثر خطواته" كبديل عن "عمله".
إذن فالتحريض أن نتبع إثر خطواته، موجه أساساً لمؤمنين، فضلاً عن كونه يستخدم بمعنى خاص جداً. هذا المعنى نتعلمه من أربع خطوات مميزة موضوعة أمامنا. ومن البين أن الكثير مما فعله الرب كان يرتبط بحياته المعجزية من إقامة الموتى إلى غير ذلك. وقيل أنه لم يتكلم إنسان قط مثل هذا. ولكن لا يُطلب منا أن نتبع إثر خطواته في مثل هذه الأمور. والأربع خطوات التي نحرص بأن نتبعها، يستطيع كل المؤمنين صغاراً وكباراً أن يسلكوا فيها.
فأولاً: يُذكّرنا الرسول بأنه "لم يفعل خطية"، ونعرف أنه كان يعمل أعمالاً حسنة، ويحرضنا الرسول مرة تلو الأخرى في ذات الرسالة أن نعمل "الأعمال الحسنة" ولا ننسى "فعل الخير". وهنا نجد التحريض يتخذ صيغة النفي.. فعلينا أن نتبع إثر خطواته من جهة أنه لم يعمل خطية. فمهما حدث وكيفما واجهتنا الظروف وتحدتنا، ومهما كانت الأخطاء التي نعاني منها، والإهانات التي علينا أن نحتملها، فلا يجب أن نخطئ. وقد يصبح من السهل أحياناً أن نعمل حسناً لكوننا محبين للخير وأن نسدد أعواز الآخرين، ولكن لكون الجسد فينا ففي بعض الأوقات يكون من الصعب ألا نعمل خطية. وأنه لشيء عظيم ألا نعمل خطية عندما تتحدانا الظروف الصعبة من أن نعمل الخير في الأوقات السهلة. كان الرب يسوع كاملاً في كل الظروف التي علينا أن نواجهها فإن أول ما نحرص عليه في حياتنا أن نتبع إثر خطواته وأن نتمسك بصفاته بألا نعمل خطية. إنه من الأفضل أن نحتمل الأخطاء من الآخرين عن كوننا نخطئ، ومن الأفضل أيضاً أن تتخلى عن ثوبك من أن تتنازل عن صفة المسيح التي تظهرها.
وثانياً: نقرأ "ولا وُجد في فمه مكر". فعلى الرغم مما لاقاه من قسوة موجعة من الأشرار، ولكن لم تخرج من شفتيه كلمة- سواء في سؤال طرحه أو إجابة أعطاها- مما تشوه خطواته بالخداع أو المكر. أما نحن فبالأسف، في أوقات كثيرة، فالحسد والخبث يختفيان وراء كلماتنا التي هي "أنعم من الزبدة" و"ألين من الزيت". ولكن الرب لم تكن عنده دوافع شريرة تكمن خلف كلماته. أما عن الفريسيين فعندما سألوا الرب سؤالاً بدا في ظاهره بريء ولكنه كان يخفي الخبث من ورائه، قالوا له: "أيجوز أن تُعطى جزية لقيصر أم لا؟". نقرأ عنهم أنهم "تشاوروا لكي يصطادوه بكلمة" (متى 22: 15- 18). وطالما الجسد فينا فمن المحتمل جداً أن ننشغل باصطياد أحدنا الآخر بالكلمات الناعمة والتساؤلات التي تبدو بريئة. وللأسف فإننا نُخفي أحياناً هجومنا على الآخرين بالكلمات التي نتخاطب بها مع الله في الصلوات الجهارية. يا له من تحريض جميل وأساسي أن نتبع خطواته ذاك الذي لم يوجد في فمه غش.
وثالثاً: ثم يُذكّرنا عن الرب أنه "إذا شتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهود" ففي مواجهة الشتائم والاتهامات الكاذبة والأحقاد، فإنه ظل صامتاً. وعندما انبرت الافتراءات الكاذبة عليه أمام المجمع اليهودي بقي محتفظاً بسلامه، وأمام بيلاطس "لم يُجب بشيء، ولبيلاطس نفسه "لم يُجب بكلمة". أما هيرودس الذي كان يسخر منه فقد "سأله بكلام كثير فلم يُجبه بشيء" (متى26: 63، 27: 12، 14، لوقا23: 9). وكم هو حسن لنا أن نتبع إثر خطواته، وفي مواجهة كلمات الناس الماكرة التي تأتينا من أي مكان، فعلينا أن نبقى ساكتين. ومن أجزاء أخرى في الكتاب يتضح أن المسيحي يمكنه أن يُحذّر وينصح وينتهر ولكنه ليس عليه أن يشتم أو يهدد مطلقاً.
ورابعاً: أنه كان يُسلّم لمن يقضي بعدل". ما رأيناه أنه لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر، وأمام كلمات التهديد ظل صامتاً، هذه صفات مسبوقة بأدوات نفي، أما الخطوة الأخيرة فهي صفة إيجابية. فعندما نواجه الشتائم فإننا لسنا فقط لا نجيب على الشر والخبث، بل بالحري نترك الإجابة مع الله. وغير مسموح لنا مطلقاً أن ننتقم من فاعلي الشر فالله يحتفظ لنفسه بمطلق سلطانه أن ينتقم كل النقمة. قال: "لي الانتقام وأنا أجازي يقول الرب. وأيضاً الرب يدين شعبه (عبرانيين10: 30). إن نصيبنا إذن أن نتبع خطوات الرب يسوع، وعند مواجهة الاتهامات فلنستودع أنفسنا لمن يقضي بعدل، متذكرين القول: "لا تنتقموا لأنفسكم، بل أعطوا مكاناً للغضب، لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رومية12: 9). ونستعيد مرة أخرى قول النبي "طيب هو الرب للذين يترجونه، للنفس التي تطلبه. جيد أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب" (مراثي3: 24- 26).
رأينا هنا أربع خطوات اتخذها الرب في كماله، ونحن نُحرَّض بأن نتبعه في تلك الخطوات عينها. ولكن لا نجد في تلك الخطوات أية كلمة عن الخدمة أو أية مظهر لها تجعلنا منظورين لدى العالم أو تعطينا أولوية بين شعب الله. ولكن إذا اتبعنا هذه الخطوات بصورة عملية فإن إخوتنا لن يصابوا بخيبة الأمل فينا. وأيمكننا أن نقول أنه إذا سرنا في هذه الخطوات عينها فإن الآخرين سيجدوا فينا أعظم منظر مدهش يمكن أن يرى في هذا العالم- سيرون المسيح في مظهر إنسان.
وحاشا أن نستخف بالخدمة الحقيقية للمسيح، بل لا ننسى أن نجوب العالم مسافرين لنخدم بل أن نكرز للآلاف من الناس. وربما تكون أسماؤنا في محيط الدوائر الدينية معروفة، وخدمتنا تسجل مكتوبة في حينها، وهذا كله سوف لا يُعطي تقديره في نظر الله إذا كانت الخطوات الأربعة هذه ناقصة عندنا. لنتذكر أنه حتى لو تكلمنا بألسنة الملائكة فقد نصبح كلا شيء، ففي يوم آتٍ ربما نجد آلاف العظات الجميلة التي قدمناها التي سببت لنا كبرياء نفوسنا والتي مدحنا الناس عليها. ستُوجد كلها تراباً وقشاً، بينما القليل الذي أظهر حياة المسيح فينا والتي ربما نسيناها، ستلمع ببهائها في ذلك اليوم وتنال المكافأة. إن تلك الخطوات الأربعة لن تجعلنا مرموقين في يومنا هذا، بل ستذهب بعيداً إلى أمجاد الملكوت في يوم قادم. ويحسن لنا أن نتذكر هذه الكلمة. "ولكن كثيرون أولون يكونون آخرين والآخرون أولين" (مرقس10: 31).
- عدد الزيارات: 3583