الخروج الثاني: انسحاب مجد الرب من الهيكل ومن المدينة
هذا الاختبار الثاني- بإعطاء الناموس للمرة الثانية- استمر فترة طويلة من الزمان. ولأجل أن الله أعلن عن ذاته كمن يغفر، ويغفر، ويصفح جيلاً بعد جيل لكي يرى هل من بشر يوفيه مطاليبه؟ ولقد دخل الشعب الأرضي تحت ذلك العهد الذي وُضع فيه اللوحان داخل التابوت، لكننا نعرف أن ذلك التابوت نفسه حُمل في الأسر إلى بابل وأخيراً سلم الله في ذلك الشعب وتركهم، كما تتكلم عن ذلك نبوة هوشع وسماهم "لستم شعبي" (هوشع1: 9). وبذلك انتهت التجربة الثانية. وغادر مجد الرب الهيكل، وللمرة الثانية خرج الرب من وسطهم ومن مدينتهم.
في الأسفار التي تسرد تاريخ الأسر البابلي نجد تعبيراً جديداً وعظيماً، فالله يُسمّى وقتذاك باسم "إله السماء". ولو رجعنا إلى الوقت الذي فيه عبر التابوت نهر الأردن عند دخول الأرض ليستقر في مكانه هناك، نقرأ هذا التعبير "تابوت عهد سيد كل الأرض" (يشوع3: 11) فالله كان له في إسرائيل مكانه على الأرض. كان يسكن بين الكروبيم. لكن بعد خروجه من وسطهم دعي "إله السماء".
ثم يأتي نبوخذ نصر ويُثبّت إمبراطوريته حيث كان يوجد عرش الله. وقد أقام الله هذا الملك ودفع المُلك إليه. "أنت أيها الملك ملك الملوك" (دانيال2: 37) فكل شيء بالنسبة للأرض أصبح في يد نبوخذ نصر وإذا كان الله يتسلط كما هو شأنه إلى هذا اليوم فإنما هو "سلطان في مملكة الناس".
عودة الشعب من السبي
على أن الله سمح لبقية من الشعب المسبي أن ترجع من بابل إلى الأرض مرة أخرى- إلى المدينة التي خربتها حماقتهم ورمّدها تمردهم على الله، لكي يعيدوا بناءها وليرمموا مذبحهم وهيكلهم. لكن هناك ذلك الفارق العظيم. لقد عادوا وبنوا السوار لكن لم يَعُد إلى هناك مجد الرب. لأنهم لما رجعوا بصفتهم "لوعمي" أي "لستم شعبي" ورجعوا تحت حكم الأمم (مملكة فارس التي سادت عليهم بسبب خطاياهم) ورجعوا بلا تابوت وبلا أوريم وتميم. فالتابوت يكون حيث يكون عرش الله. والأوريم والتميم كانت واسطة يتكلم بها الله إليهم عادة. فلم يكن لله مسكن في وسطهم. وكان الهيكل فارغاً ولم تكن لهم واسطة اتصال بالله. لقد أقام الله فيهم أنبياء مثل حجي وزكريا اللذين تطلعا إلى وقت مستقبل مقرين ومعرفين بالخراب الحال بهم. وكل رجاء هذين النبيين كان مُركزاً على مجيء المخلص العتيد.
كان الدرس الكبير في ذلك الوقت هو درس فشلهم. لم يكن الأمر بعدُ أمر حفظ الناموس على الإطلاق. لست أقصد بذلك أن الناموس أُلغي أو أُبطل، كلا لم يكن هذا هو موضوع الساعة. لقد ثبت فشلهم، ورجوعهم تحت سيادة الأمم كان هو المميز الذي تميزت به ظروف حياتهم عن سائر الظروف، التي سبقت. والآن، كما سبق القول إن الدرس هو أنهم كان يجب أن يقبلوا في اتضاع القضاء الذي وقع عليهم، وأن ينتظروا المخلص بانكسار قلب وبانسحاق روح.
انتهاء الوثنية وظهور الفريسية
لكن للأسف نحن نعرف ما هي قوة الشيطان وكيف بكل خديعة، يطمس قلب الإنسان عن طريق حماقته. والعجيب المدهش أنه بعد رجوعهم لم يرجعوا إلى الأوثان مرة أخرى.
لقد كانت هذه خطيتهم الخصوصية. ونحن نتذكر كيف إن النبي يتساءل: "هل بدلت أمة آلهة وهي ليست آلهة. أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع" (ارميا2: 11). كانت هذه خطيتهم من أيام البرية. أولاً كان هناك العجل الذهبي. وفي كل البرية "حملوا خيمة مولوك، ونجم إلهكم رمفان التماثيل التي صنعتموها لتسجدوا لها" (أع7: 34). إن الله أعلن لهم أنه الله الواحد لكنهم كانوا عبدة أوثان من قرارة قلوبهم. لكن عندما انسحب الله من وسطهم، وعندما زال المجد من هيكلهم، وعندما وجدوا أنفسهم في حالة الخراب التي حلت بهم. سرعان ما تقدم الشيطان، ليس في ثياب الوثنية، بل تقدم لكي يضع في قلوبهم رفض الحكم الإلهي عليهم، وعدم الاعتراف بقضائه الذي أوقعه. لقد تقدم لكي يزرع فيهم الادعاء بأنهم ليسوا "لوعمي"، بل إنهم شعب الله. وأن يتشدقوا بالقول "هيكل الرب. هيكل الرب". والواقع كانت "الفريسية" أكبر معالم تلك الفترة. والفريسية هي البر الذاتي الذي يرفض ويقاوم قضاء الله أن الإنسان عاطل من أي بر. وهكذا حتى عندما جاء المخلص المُتنبّأ عنه. وعندما، بطريقة عجيبة لم يسبق لها مثيل، كان المجد في وسطهم- نعم مجد الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب- المجد الذي كان ظله هو مجد المسكن في العهد القديم. عندما أتى فعلاً ذاك الذي كانوا ينتظرونه "كالآتي"، وكان في وسطهم بالنعمة والمحبة، وكان على استعداد لأن يقبلهم بالرحمة والعطف، وقد أتى لا لكي يُخدم بل ليَخدم، ولا ليُطالب بل ليغدق بكلتا يديه ويعطي بلا حدود- يعطي كالله- نراهم للأسف يتلفتون بعضهم لبعض قائلين "ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به". كانوا فريسيين وبأيدي الفريسيين قُتل رب المجد.
- عدد الزيارات: 8062