عمق المحبة
(يوحنا 11)
والآن نأتي إلى حادثة أخرى في قصة مريم من بيت عنيا، لنتعلم درساً آخر في قصة هذه المحبة. فإن كنا قد رأينا في لوقا 10 كيف أن المحبة تدوم وسط ظروف الحياة، ففي يوحنا 11 نتعلم كيف تتعمق المحبة وسط المصاعب وأحزان الحياة. هناك كانت تتدفق الحياة في مجراها المعتاد، وإذا بالحياة اليومية تصطدم بحادثة مؤسفة. فقد جاء المرض ليغزو هذا البيت الهادئ، ويخيم شبح الموت عليه. وإزاء تلك الصعوبة القاسية ترى ماذا ستفعل الأختان؟ إنهما تحركتا بالنعمة وأخذتا أفضل الوسائل الممكنة، واعتمدتا على محبة المسيح في لوقا 10 تعلمت محبة المسيح في سكون الحياة الهادئة، وفي يوحنا 11 عولت على تلك المحبة وسط عواصف الحياة.
هناك تمتعت بمحبته في معية شركته وهنا استخدمت محبته في أحزانها. وقد أظهرت هاتان الأختان التقيتان دعواهما مكتوبة للرب، فأرسلت له قائلتين: "هوذا الذي تحبه مريض" (ع2). كم هو واضح ومشرق ذلك الإيمان وتلك الثقة في الرب لهاتين الأختين والمُعبّر عنه في تلك الرسالة القصيرة. لقد أصابا عندما اتجها نحو الشخص بعينه "فأرسلت الأختان إليه". وكانت محبتهما صحيحة، إذ قالتا: "يا سيد هوذا الذي تحبه مريض". ولم يتذرعا في طلبهما بمحبة لعازر الضعيفة للرب، بل بمحبة الرب الكاملة للعازر التي لا تفشل أبداً. كذلك أيضاً فقد طلبا إلى الرب بالطريق الصحيح. كما أنهما لم يقترحا على الرب بماذا يفعل، فلم يسألا الرب أن يشفيه، ولا أن يأتي، ولم يتكلما كلمة لفائدتهما. إنهما عبّرا للرب ببساطة عن حزنهما وألقيا بأنفسهما على نبع متدفق من محبة بلا حدود. فهل تلك المحبة خيَّبت آمالهما؟ كلا! فإن المحبة تُسرّ بأن تتجاوب مع نداء القلوب التي تتحرك بالمحبة.
وعلى كل حال، فإن المحبة الإلهية تتخذ طريقاً كاملاً. فقد يبدو حقاً أن الطريق بحسب تصور الطبيعة هو غريب. فقد أنعشت الأختان قلبه باجتذاب محبته. وهو الآن يُسرّ قلبيهما بأن يعمق في نفسيهما الإحساس بمحبته، ولهذا تعمقت محبتهما له. وهكذا فإنه كلما تعمق الإحساس بمحبته، كلما تعمق تجاوب محبتنا له. نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً.
ولكي يتمم عمل نعمته فإنه يستخدم أحزان الحياة، كما أن محبته تتعمق في نفوسهم، إنه يُعمّق أولاً الحزن. والقديسون قد دُعوا إلى مجد الله بعدما تألموا يسيراً (2بطرس5: 10)، وهكذا في طريقنا إلى المجد، فإننا غالباً ما نمسك ببعض أشعة مجده اللامعة بعد أن نأخذ وقتاً يسيراً من الآلام. وهكذا كان الحال مع الأختين. كان عليهم أن يتألموا قليلاً، فالرب قد أبطأ ولم تخرج منه كلمة. إن الأيام تعبر، ولعازر يذوي هابطاً، وظل الموت يزحف على بيتهم. وفي النهاية يأتي الموت ولعازر يموت. إنهم يتألمون يسيراً، وسيرون مجده الآن- و"هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله، ليتمجد ابن الله به". وإن كان أمامنا أن المرض للموت، ولكن الحقيقة أن الموت قد اسُتخدم لإظهار مجد المسيح ونصرته الغالبة للموت. ولكي ما يحقق هذه النهايات العظيمة كم اتخذ من طرق كاملة.
إن المحبة البشرية تفكر فقط في إنقاذ المريض، وذلك بالتحرك الفوري والذهاب إلى بيت عنيا. والحيطة البشرية تفكر في الذات التي تعني ألا يذهب إلى هناك، كما قال التلاميذ: "يا معلم الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك وتذهب أيضاً إلى هناك". لكن الرب ارتفع فوق المحبة البشرية والحيطة البشرية كذلك، وتصرف طبقاً للمحبة الإلهية التي تتحرك بالحكمة الإلهية". فطرق الله كاملة.
وبعد أن أكمل الصبر عمله، تأتي المحبة في وقتها المناسب. وجاء الرب إلى الأختين المكلومتين في بيت عنيا ويعلن محبة قلبه العميقة. إنه ماض في تعميق محبتهما بكلمات محبته، وطرق محبته، ودموع محبته، فأي أعماق للمحبة تكمن خلف تلك الكلمات السامية "بكى يسوع". إنه منظر عجيب أن نرى خاطئاً يبكي في مشهد محبته، ولكن ما هو أكثر عجباً أن نرى المخلص يبكي في مشهد أحزاننا. إن كان يجب أن نبكي نحن بسبب خطايانا فهذا أمر لا يدهشنا كثيراً، أما وجوب بكائه بسبب أحزاننا نحن فهو أمر عظيم الدهشة- وتلك الدهشة تُفصِح لنا أي قرب قد بلغ إلينا ومدى قربه من القديس المتألم.
وقد نسأل لماذا هذه الدموع؟ فاليهود الذين أحاطوا بالقبر أساؤوا فهم هذه الدموع إذ قالوا: "أنظروا كم كان يحبه!". وبالحق كان الرب قد أحب لعازر، ولكن الدموع لم تكن تعبيراً عن محبته للعازر فالأختان كانتا تبكيان لفقد أخيهما، أما الرب فلا حاجة به أن يبكي على شخص سيقوم. إنه لم يبكِ على ميت بل على حي- وليس على فقد لعازر، بل على حزن مريم ومرثا. وباختصار فإن المحبة ستُقيِم لعازر، ولكن المحبة الأولى تبكي مع مرثا ومريم. لقد كسر قلبه ليربط قلوبنا، وسكب دموعه ليجفف دموعنا. وإذ يفعل ذلك فإنه يعلن محبته ويعمّق محبتنا. لهذا استخدم التجارب والأحزان وطرق الحياة الصعبة ليكشف عن كنوز محبته ويجتذب محبتنا له.
وبعد تلك التجارب الصعبة، فإن الأختين تقولان بكل تأكيد "نحن قد علمنا أنه أحبنا، ولكن قبل أن تأتي التجربة لم نكن نعلم بأنه أحبنا بهذا القدر الكثير، مثلما رأيناه يسير معنا ويبكي معنا في أحزاننا".
فعند قدميه، في لوقا 10، تعلمت مريم محبته، وفي يوحنا 11 انجذبت لمحبته التي تعلمتها، وتعمقت في المحبة التي اجتذبتها.
أي دروس مقدسة ومبهجة نتعلمها من هذه المشاهد المختلفة. فنتعلم أننا كخطاة عند قدمي يسوع تُيقظنا المحبة، وعند قدمي يسوع كمتعلمين تدوم المحبة، وعند قدمي يسوع كحزانى تتعمق المحبة.
- عدد الزيارات: 4824