الغفران السياسي (أو التدبيري)
ربما لا نجد موضوعاً مستبعداً من تفكير المؤمنين، بل غير مفهوم لديهم، مثل موضوع "طرق الله في الحكم على شعبه". بينما نراه مستقراً في صفحات الوحي المقدس وفي تاريخ شعب الله في كل العصور.
وما لم نستوعب فكر الله من جهة سياسته وحكمه فإننا لن نفهم معنى الغفران السياسي أو التدبيري. وأرى أنه من المهم أن نتناول النقطة الأولى قليلاً. فإننا نجد هذا المبدأ واضحاً في (غلاطية6: 7-9) "لا تضلوا الله لا يُشمَخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد فساداً. ومن يزرع للروح يحصد حياة أبدية. فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نَكلّ".
وهناك نتائج مترتبة على سلوكيات معينة في هذا العالم, والله يسمح بذلك سواء كان لشعبه أم لأبناء الظلمة. فأياً من زرع فإنه سيحصد بالضرورة.
إنه مبدأ معروف جيداً في سجل طرق الله مع الإنسان ولكنه يختلف تماماً عن مبدأ النعمة. فقد نجد إنساناً في كمال التمتع بنعمة الله ومع ذلك نراه موضوعاً, في ذات الوقت, تحت معاملات الله وسياسته التأديبية. بل وأكثر من ذلك, فإن الله يتحكم في نتائج ما زرعه هذا الإنسان جسدياً, وتُمسِكُها في النهاية يد النعمة.
ولكي يعرف القارئ, مزيداً من الوضوح والفهم حول الاختلاف بين النعمة والحكم, فإننا نلفت انتباهه إلى هذه الحقيقة, فعندما تصبح المسألة متعلقة بالحكم فليس بالضرورة أن يتم التعامل مع الخطأ ولو تم الاعتراف به.
ولكن قد يقول واحد: (لقد أشرت من قبل أن مسألة الخطية قد حُسمت إلى الأبد). نعم فعندما كانت المسألة دينونة الله على الخطية باعتبارها ذنباً وهذا يتعلق بأمر خلاصنا, فهذه الخطية التي اُعترف بها قد تم التعامل معها على الصليب عندما قال يسوع "قد أَكمل", وذلك قبل أن تُرتكب. وثانياً من جهة التمتع بعلاقتنا مع الله فهذا تم لحظة مجيئنا بقلب منكسر معترفين بخطئنا بكل صدق وأمانة. أما من جهة ارتباط الخطية بسياسة الله التأديبية, ففي هذه النقطة لم تكن هناك ضرورة أن يتعامل الله معها.
ونحن نرى هذا المبدأ يسري في كل صفحات الكتاب, ومطبوعاً على التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي, وهو يتغلغل كل أحداث الأمم والشعوب, وظاهراً أيضاً في العائلات والأفراد. ليقل الملحدون ما شاءوا فإن تاريخهم لم يُستَثن من هذه القاعدة.
خذ مثلاً تاريخ اليهود منذ موت المسيح, فقد اختاروا لحظتها "لصاً" وفضلوه على المسيح. "ليس لنا ملك إلا قيصر", كانت هذه صرختهم,. "اصلبه" للمسيا الحقيقي, ومن ذلك التاريخ انظر كيف عاملهم قياصرة العالم؟
كذلك "أدونى بازق" الوثني, وهو أحد رؤساء كنعان فقد حاربته قوات مشتركة من يهوذا وشمعون وأخذوه أسيراً وقطعوا أباهم يديه ورجليه, وبدا هذا العمل أنه معاملة قاسية جداً ولكن كان حكم الله من وراء ذلك. فقد كان "أدونى بازق" يجني ثمرة ما قد زرعه, واعتراف شفتيه يشهد بذلك فقال "سبعون ملكاً مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانوا يلتقطون تحت مائدتي, كما فعلت كذلك جازاني الله" (قضاة1: 6و7).
كانت أم يعقوب قد حَرَّضت ابنها أن يذبح جدياً, وبينما كان يطعم أبيه من اللحم, كان يخدعه بجلد الجدي, ولكن كانت تنتظره مَخَادِعهُ, أراد أن يهرب بسرعة بحجة البحث عن زوجة, بينما كان السبب الحقيقي هو احتداد عيسو وطلب الانتقام منه, لاحظ أولاً كيف حصدت الأم.. كانت خطتها أن يهرب لأيام قليلة عند أخيها لابان ولكن الغياب طال به إلى عشرين عاما ًوهكذا سجل التاريخ أنها لم تقع عيناها ثانية على يعقوب الذي كانت تحبه! وعندما وصل إلى لابان فإنه دُعي على الفور لكي يحصد ما قد زرعه قبلاً. لقد خدعه لابان واعداً إياه بإعطائه راحيل, كان يعقوب قد استغل إكلال عيني إسحق ليخدعه, والآن يستغل لابان ظلام الليل ليخدع يعقوب.
ومع ذلك فإننا لا نحصد دائماً بسرعة كما حدث هكذا. وتمضي سنوات طويلة منذ أن ذبح يعقوب الجدي ليخدع أباه, ويأتي أولاده ليذبحوا جدياً ويرشوا دمه على قميص يوسف ويخدعوه به!.
ثم يأتي دور داود الذي يلطخ سمعته ويسيء إلى عرشه باثنين من أفظع الجرائم التي تجعله مذنباً في التاريخ (2صموئيل11: 12) فقد زنى مع زوجة واحد من أكثر رجاله أمانة وإخلاصاً, ثم لكي يغطي على جريمته خطط لاغتيال هذا الزوج.
ويمضي عام وداود غير مبال بما فعل, ولكن هل يبقى إله داود لا يبال؟ حاشا! وانتظر ناثان الرجل الأمين على الملك المذنب. ويخبر داود بتلك القصة المؤثرة عن النعجة التي ذبحها الغني وهي ليست ملكاً له بل اغتصبها من الفقير الذي لم يملك غيرها, ويحتد غضب داود بشدة على الغني قائلاً "حي هو الرب إنه يُقتل الرجل الفاعل ذلك, ويرد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق"! إنه شيء مدهش أن نقسو على أخطاء الآخرين بينما نترفق ونتساهل بأخطائنا نحن وأخطاء ذوينا. ولكن إذا فكرنا قليلاً في حكم الله فإننا بالتأكيد سنكون أكثر رفقاً بعضنا ببعض. فمبدأ الحكم هو: "وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (متى7: 2). "لان الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة" (يعقوب2: 13). ولقد أعلن داود القضاء. ووجد الله أنه لا بد من إجراء هذا القضاء.
فأولاً يموت ابن بثشبع, وهكذا تضيع أول نعجة! ويرى داود أن خطيته تتكرر في ولديه فيزني أمنون مع أخته ثم يقتله أبشالوم وهكذا تُفقد نعجة ثانية. وبعد ذلك يثقتل أبشالوم بسهم يوآب, وهذه هي النعجة الثالثة التي تُفقد. ويبقى أيضاً أن يحصد داود حصاداً مزدوجاً. فقد كان أدونيا جميل الصورة جداً وشاباً متدفق الحيوية. ويبدو أن داود أهمل في تعليم وتربية أولاده, فنقرأ "ولم يُغضبه أبوه قط قائلاً لماذا فعلت هكذا؟". ونحن نتيقن أنه إذا كان رأس البيت قد فشل في إظهار سلطانه, فإن شخصاً آخر يمتلك الزمام في الحال. وهذه هي الحالة المحزنة التي أمامنا. فقد قال أدونيا (قبل أن يموت أباه): "أنا أملك" وماذا حدث بعد ذلك؟ جاء الأمر من سليمان (ابن بثشبع) وتسقط النعجة الرابعة بالسيف!.
يا لهول تلك الأحداث التي تركت تأثيرها العميق على قلب داود, فعاش ورأى ثلاثة من أولاده الأربعة يُقتلون بالسيف, وربما كان الجزء الأكثر مرارة لنتائج ما نزرعه بالجسد هو ما نحصده في وسط بيوتنا وعائلاتنا.
إن الحق المختص بعاملات الله بالحكم تفوق طاقة احتمال أي واحد منا, ولكن صاحب الحكم من امتيازه لنا أنه في رحمته يكبح جماحنا, وتحت شروط خاصة يلطف من نتائج ما زرعناه بالجسد أو بكلمات أخرى يهبنا غفراناً سياسياً أو يرفع عنا تأديباته وأحكامه.
ولنأخذ مثالاً لهذا الغفران التدبيري أو السياسي, في حالة المريض الذي يصلي لأجله في (يعقوب5: 15), نلاحظ هنا أن غفران الخطايا واسترداد صحته يسيران معاً. إنه ليس غفراناً, بل كما رأينا "صلاة الإيمان" التي عند الآخرين والتي لا يمكنها أن تهب الغفران الفدائي, إنه بالحري الإيمان الفردي بدم يسوع الغالي. كما أننا لا نجد هنا غفران رد الشركة. بل تظهر الشركة القلبية بين المريض وشيوخ الكنيسة قبل حدوث الشفاء والغفران. وإذا رجعت إلى (مرقس11: 25) نقرأ هذا النص "ومتى وقفتم تصلون فاغفروا, إن كان لكم على أحد شيء, لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاتكم". إنه لا يتكلم هنا عن خلاصنا في العالم الآتي, ولكن عن معاملات الله وأحكامه معنا, وما أبعد هذا تماماً عن "كل من يؤمن به ينال غفران الخطايا" وذلك عندما تصبح المسألة الغفران الأبدي أ "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا" وذلك في حالة رد النفس.
وبالارتباط بهذا. إذا عدنا إلى مثل المديونين الوارد في آخر متى18 نجد توضيح الرب لمبدأ الغفران التدبيري أو السياسي. فهناك الملك (أي رأس الحكومة) وكذلك عبيده أمامه يُحاسبون, فواحد مدين للملك بعشرة آلاف وزنة (وبلغة حسابات هذه الأيام أي 9 مليون دولار). وفي وقت المحاسبة لم يكن عنده ليسدد هذا المبلغ, فأمر سيده أن يباع هو وزوجته وأولاده وكل ما له ليوفي الدين (لاحظ هنا بالمناسبة كيف أن عائلة الرجل مرتبطة به بحسب طرق سياسة الله وحكمه), وخرّ العبد أمامه معترفاً بعدالة مطلب سيده, وخاضعاً لتلك المطالب, ومستعداً أن ينفذ ذلك متى كانت له القدرة أن يتمم. عندئذ يتحنن سيده ويترك له الدين. ولكن كان هناك عبد رفيق للعبد الأول مديناً بمائة دينار (وبلغة حساباتنا أي خمسة عشر دولار), إنه شيء تافه بالمقارنة مع ما كان مديناً لسيده, ويتخذ ذلك العبد نحو رفيقه ذات الموقف الذي اتخذه العبد الأول تجاه سيده, ولكن النتيجة اختلفت فالعبد الدائن طالب رفيقه بالدين, ولكنه لم يتعامل معه كما تعامل سيده معه من قبل, بل "أمسكه وأخذ بعنفه" وبعد ذلك "ألقاه في السجن". وعندما سمع الملك اغتاظ جداً ودعاه مذكراً إياه بالدين الهائل الذي كان عليه والغفران الكامل الذي أعطاه إياه, ولكنه طالما لم يسامح أخيه فإنه يسلمه إلى المعذبين حتى يوفي كل ما كان عليه.
ويكمل ربنا المبارك قائلاً: "فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من
قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته". أليس هناك خطر, لأننا تحت النعمة, ونعرف شيئاً من الغفران الأبدي بالدم, ولكن ننسى طرق الله بالحكم والتأديب, وهذا النوع بالذات من الغفران الذي يتحدث عنه الرب بكل صراحة هنا؟
ماذا إذن أيعلمنا الله بالتأديب؟ وإذا كان تاريخنا الماضي يتحدث عن احتياجنا للرحمة وطول أناة الله لاحتمالنا ولا يحكم علينا, فيجب علينا لكي نقبل من يديه مثل هذا, أن نحرص جداً لنظهر هذه الصفة مع الآخرين. ويا للأسف فقد نكون قساة كأحجار الصوان وأحياناً نتصف بالحدة خاصة عندما نعتقد أننا في وضع عادل أن نفعل ذلك. وليس معنى هذا أننا يجب أن نتساهل مع الشر. فإذا أخطأ أخ إلينا فإن الله لا يستر على الخطأ أو يتغاضى عنه بأية طريقة. ولكن لنحذر من روح عدم التسامح. بل لنذهب إلى الأخ المخطئ ونجتهد أن نتكلم إلى ضميره, أو كما يُعبر الرب ببساطة "إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه, إن تاب فاغفر له", متذكراً أنه "بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم".
"من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضاً يصرخ ولا يستجاب" (أمثال21: 13). "مع الرحيم تكون رحيماً مع الرجل الكامل (أو المستقيم) تكون كاملاً مع الطاهر تكون طاهراً ومع الأعوج تكون ملتوياً" (2صموئيل22: 26و27).
صحيح إن هذه ليست إعلانات نعمة الله, ولكنها مبادئ حكمه, ولا يجب أن نتجاهلها. ومرة أخرى كم هو منعش ومشجع لنفوسنا أن نرى رحمة الله مع يعقوب. وهب أننا سألناه في أيامه الأولى, عندما كان كل من حوله, أي رغبتين تتوق إلى تحقيقهما؟ فربما قال أحب أن أرى كل أولادي مزدهرين وأنا أعتني بهم جيداً, ولكن "القميص الملون" الذي أراه على كتفي يوسف يظهر سعادتي به عندما أراه متعظماً فوق كل أخوته. ولكن كم يكون مدهشاً أن يقال ليعقوب: حسناً فإن الله عازم على أن يرسل عليك بأسوأ مما يمكن أن يحدث لك فهو يقاوم هاتين الرغبتين التين تتوق إلى تحقيقهما, وبهذه المقاومة فقط ستتحقق تلك الرغبة بطريقة لا تتوقعها. أهناك أسوأ من فقدان يوسف في الطريق الذي أرسله إياه؟ وتأتي بعد ذلك المجاعة التي تهدد البقية بهذه الكارثة. نعم فما لم يُفقد يوسف كيف أمكن له بعد ذلك أن يتبوأ أعظم مكان في مصر وبعدما تعظّم يوسف كيف أمكن ليعقوب أن يعرف ذلك بدون المجاعة وهذا يبدو لنا أن كل شيء أكثر عجباً. عندما نتذكر أن ذلك كان بالارتباط مع حصاده لما سبق أن زرعه بسنوات قبلاً. إنه كان قد خدع من جهة السر الحقيقي لغياب يوسف.
- عدد الزيارات: 3279