الفصل السادس: ماذا بعد الموت؟
"إنه لخطوة بيني وبين الموت" (1 صموئيل 20: 3)
قيل: ما الحياة إلا استعداد للموت. وقال صاحب المزامير: "أي إنسان يحيا ولا يرى الموت"[1]؟
ندعي أننا في عصر التفكير الحر والتجارب الحاسمة. وحاولنا أن نغير العالم والقوانين التي تضبطه بالعلوم والاكتشافات والاختراعات والفلسفة المادية، كما حاولنا أن نحل أصنام المال والشهرة والذكاء الإنساني على عروش نسجد أمامها. ولكن بالرغم من كل محاولاتنا لا تزال النهاية هي نفسها: " وُضع للناس أن يموتوا مرة "[2].
الموت يحيط بنا من كل جانب. إن منجل الموت مصلتٌ فوق رؤوسنا، في كل لحظة.. الموت يتعقبنا دون هوادة، ويحصد أرواح البشر. يحاول العلماء والعلم الحديث إحراز غلبة على الموت- ولكن الموت هو الغلاَّب أبداً!
أكسبتنا جهود العلم الجبارة زيادة في أعمارنا تبلغ بضع سنوات. ولكن متوسط أعمارنا ما يزال في حدود السبعين سنة- كما يخبرنا الكتاب المقدس.
أمراض القلب تفتك بكثيرين في عنفوان شبابهم، والسرطان يصرع الألوف. السل وأمراض الدم وشلل الأطفال والتهاب الشعب الرئوية تقضي على الكثيرين رغماً عما أحرزه الطب من نجاح في مكافحة هذه الأمراض. إن حقيقة الموت تبقى دون تغير، والموت آخر ما نختبره على هذه البسيطة.
ما إن يولد الطفل حتى يبدأ صراعه مع الموت. تقضي الأم سنوات ترعى طفلها وتحمي حياته: تراقب طعامه وملابسه ومحيطه وتؤمن له الفحوص الطبية الخ... ولكن الطفل رغماً عن كل عنايتها سائرٌ في طريق الموت. وسرعان ما تبدو علائم الضعف فيعالج طبيب نخر أسناننا وآخر ضعف عيوننا ويتجعد جلدنا بمرور الزمن وتتقوس أكتافنا وتقصر خطواتنا متثاقلة، وتصبح عظامنا أكثر تعرضاً للكسر، وتنحل عزيمتنا تدريجياً.
فيا له من عدو غامض- كل الغموض كالحياة نفسها. لأن الحياة التي نراها من حولنا في النبات والحيوان والإنسان لا يمكن أن ننتجها نحن بل لا نستطيع أن نفسرها. كذلك الموت لا تفسير له. هذا مع أننا نشعر بوجود الحياة. وما أقل ما نرغب في التحدث عنه أو التأمل في أهميته! إننا نفرح حين تتفتح الحياة ونرزق مولوداً، أما حين تنطفئ حياة إنسان ما وتنتهي بالموت فإننا نحاول أن ننسى الأمر بأسرع ما نستطيع، مع أن كلا التفتح والانطفاء متساويان أهمية. ينيف عدد سكان الأرض على "مليارين" ولا بد انهم جميعاً سيموتون خلال مئة عام فتفقد أجسادهم مشاعرها. ويكتنف الغموض عدداً من الأسئلة: ماذا سيحل بأرواحهم التي هي الجزء الأهم الأبدي في حياتهم؟ ما هو الشيء الذي يفقده الإنسان عند الموت؟ وأين يذهب ذلك الشيء؟
توفي أحد محرري الصحف. وفي ساعة الدفن أصغت عائلة الفقيد إلى تسجيل صوتي للميت قال فيه:" هذه ساعة دفني. لقد كنت منذ عدة سنين وما أزال حتى الآن ملحداً. إنني أضمر أشد الاحتقار للترّهات اللاهوتية. وفي اعتقادي أن رجال الدين ليسوا سوى جبناء من الناحية الأدبية. أما المعجزات فهي نتاج المخيلة. ولو دُعي أربعة من الصحفيين إلى مشاهدة تنفيذ إعدام في أحد المحكومين ثم شوهوا الحقائق كما فعل الرسل لاستحقوا الموت حرقاً. إنني لا أريد ترانيم دينية بل أريد أن تكون جنازتي جنازة مدنية بحتة يرضى عنها العقل السليم ".
لقد وجد في كل عصر أناسٌ حاولوا بسبب بغضهم لله أن يشمتوا الكنيسة والمسيح والأسفار المقدسة. ويخبرنا التاريخ عن أمثال فولتير وجورج برناردشو سعوا بشتى الوسائل أن يقضوا على الخوف من الموت.
ولنسمع إلى ما يخبرنا علماء الانتربولوجيا عن الموت في الأدغال. هناك لا مجال "للترهات اللاهوتية" لأن سكانها لم يسمعوا عن يسوع المسيح. ومن عادة بعض القبائل أن يقتادوا المسنين منهم لمجابهة الوحوش المفترسة بعيداً عن عيون الأحبة. وفي قبائل أخرى يخلع جميع الأفراد ثيابهم ويطلون أجسادهم بالبياض علامة الحداد. وفي كل ساعة نسمع عويل النساء ينبئنا بان نفس إنسان قد فارقت جسده. حقاً إن الموت في البلدان التي لا تعرف الإنجيل لأمرٌ مرعب يدعو لليأس والقنوط!
شتان بين موت المسيحي وموت غير المسيحي. إن المسيح أعطى معنىً جديداً للموت. كان الإنسان ينظر دائماً إلى الموت نظرته إلى عدو غاشم. أما المسيح فيؤكد أنه قد غلب الموت وكسر شوكته. وكان يسوع واقعياً جداً حينما ناشد الناس بالاستعداد للموت. لا تهتموا لموت الجسد بل اهتموا لموت النفس الأبدي.
ويبين الكتاب المقدس أن ثمة نوعين من الموت: موت جسدي وموت أبدي. وأوصانا يسوع بأن نخاف خاصة من الموت الثاني. ووصف الموت الثاني بأنه الجحيم أي النفي الأبدي من حضرة الله. وبيّن أن الموت الجسدي لا يعد شيئاً إذا قيس بفظاعة ما تعانيه النفس المنفية من حضرة الله.
منذ عدة سنوات كانت الدكتورة أفيّ جان هويلر تدرّس اللغة الإنكليزية والأدب في نفس الجامعة التي تلقيت فيها دراستي وقد عرفت بتقواها وسعة إطلاعها بالموضوع الذي كانت تقوم بتدريسه. وفي أيار
1949 كتبت إلى الدكتور أيدمن عميد الكلية وزملائه والتلامذة القدماء الرسالة التالية: " شكراً من أجل الوقت القصير الذي تخصصونه لقراءة هذه الرسالة. اود أن تطلعوا، قبل ذهابكم إلى العطلة الصيفية، على حقيقة اكتشفتها فقط يوم الجمعة الفائت. لقد أخبرني طبيبي الخاص أخيراً عن المرض الذي كان يبرّح بتعذيبي منذ عدة أسابيع، وقال أنه حالة من حالات السرطان المستعصية... لو كان طبيبي مسيحياً لما استصعب مصارحتي. حبذا لو كان يعرف - مثلكم ومثلي- أن الموت والحياة مستويان حين نعيش وفق إرادة الرب وفي شركة مستمرة مع الرب. وإذا كان الرب قد اختارني لأذهب إلى جواره في وقت قريب فإنني ذاهبة بكل سرور. أرجوكم ألا تحزنوا عليَّ لحظة واحدة. لست أودعكم كمن لا أمل له باللقاء. أعزائي "إلى اللقاء"، في الوطن السعيد، في المدينة السماوية حيث أنا بانتظاركم. وأختم بإهداء خالص المحبة لكل فرد منكم".
ولم يكد يمر أسبوعين على كتابة تلك الرسالة حتى انتقلت الدكتورة هويلر من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية... يعلمنا الكتاب المقدس أن لنا نفساً خالدة، نفساً تحيا إلى الأبد. نعم إن ذاتنا الحقيقية أي الجزء الذي يفكر ويشعر ويحلم ويطمح- وهو الأنا أو الشخصية- لن تموت أبداً.
ويعلمنا الكتاب المقدس أيضاً أن نفسنا ستحيا إلى الأبد في أحد مكانين: السماء أو الجحيم. فإذا لم تكن مسيحياً- أي إذ لم تولد من جديد فإن نفسك ستذهب حالاً بعد الموت إلى المكان الذي دعاه يسوع الهاوية، لتنتظر دينونة الله.
إن الحديث عن الجحيم أمر مكروه لدى الكثيرين، ومثار جدل كثير. وكثيرون هم الذين يسيئون فهم هذا الموضوع الخطير.
يزعم البعض بأن جميع الناس سيخلصون وإن الله لن يرسل أحداً إلى الجحيم لأنه إله محبة. يقولون أن كلمة أبدي أو دائم - في هذا المقام- لا يقصد بها إلى الأبد. ولكن ألم ينتبهوا إلى أن نفس الكلمة التي تتحدث عن النفي الأبدي من حضرة الله تستعمل أيضاً للدلالة على أبدية السماء. إن من الإنصاف أن نجعل فرح البار وعقوبة الشرير متعادلتين لأن لهما، في الأصل اليوناني، نفس الكلمة ونفس الدلالة الزمنية.
ويزعم آخرون أن أولئك الذين رفضوا خطة الفداء التي أعدها الله سوف يمحون من الوجود بعد موتهم. ولكن إذا فتشنا الكتاب سطراً سطراً فلن نجد بوضوح أن الإنسان، خلص أو لم يخلص، سيظل، بروحه وبشخصيته، في حيز الوجود بصورة أبدية واعية.
وثمة أخيراً من يزعم أن الخلاص ممكن حتى بعد الموت،
وأن الله سيمنح الخاطئ فرصة ثانية. لو كان ذلك صحيحاً لوجدنا في الكتاب المقدس تأييداً له أو أقل إشارة إليه. والحال أن الكتاب المقدس، بتحذيراته العديدة، يدحض مثل هذا الزعم: "هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص"[3].
والأسفار المقدسة، في كثير من آياتها، تعلّم وتثبت وجود جهنم وتؤكد أن جهنم هي مصير كل إنسان يرفض بمحض إرادته ومعرفته أن يقبل المسيح رباً ومخلصاً:
" إني معذب في هذا اللهيب"[4].
"من قال لأخيه... يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم[5].
" يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم. ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"[6].
"هكذا يكون في انقضاء العالم. يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار. ويطرحونهم فيأتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"[7]"ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته"[8].
"أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ"[9].
" يجازيهم ضيقاً... في نار لهيب معطياً نقمةً للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح. الذين سيعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوته"[10].
" فهو أيضاً سيشرب من خمر غضب الله المصلوب صرفاً في كأس غضبه ويُعذَّب بنار وكبريت أمام الملائكة القديسين وأمام الخروف. ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين ولا تكون راحة نهاراً وليلاً للذين يسجدون للوحش ولصورته ولكل من يقبل سمة اسمه"[11].
وطُرح الموت والهاوية في بحيرة النار. هذا هو الموت الثاني. وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طُرح في بحيرة النار"[12].
" وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني"[13].
رُبَّ معترض يقول: انا لا أؤمن بالجحيم، ولا أقبل ديناً سوى ما تنادي به "العظة على الجبل ".
حسناً! فدعنا نصغي إلى فقرة من تلك العظة الخالدة "إن كانت عينك اليمنى تعثرك فأقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم."[14]
فيتضح لنا من قول يسوع هذا أن جهنم موجودة. وقد ضرب يسوع عدة أمثلة وقدّم عدة إيضاحات حول الموضوع، كما حذر الناس المرة تلو المرة من حماقة العيش في الإثم والرياء.
ولا شك أن جحيم الأشرار يبدأ- نوعاً ما في أثناء حياتهم على الأرض. يقول الكتاب المقدس" تعلمون خطيتكم تصيبكم"[15] كما يقول أيضاً: " الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً"[16].
ونرى من جهة أخرى الأشرار ناجحين في الظاهر بينما الأبرار يضطهدون. إن الكتاب المقدس يؤكد لنا أنه سيكون يوم فيه يجازى كل واحد حسب ما تقتضيه العدالة.
ولكن هل يعقل أن الله- إله محبة- يرسل إنساناً إلى الجحيم؟- نعم. ولكن لا يفوتننا أن الإنسان حينما يرفض طريق الخلاص الذي أعده الله فإنما يدين نفسه بنفسه. إن الله بمحبته ورحمته، يقدم للإنسان وسيلة نجاة، طريق خلاص ورجاء أما الإنسان فبسبب عماه وبلادته وعناده وأنانيته يرفض طريق النجاة الوحيد من آلام النفي الأبدي.
هب أنك مرضت واستدعيت طبيباً وبعد أن فحصك أعطاك" وصفة" طبية. ولكنك بعد أن فكرت ملياً في الأمر قررت تجاهل نصيحته ورفض دوائه. فلو رجع بعد بضعة أيام ووجدك في حالة أسوأ مما كنت عليه فهل يمكنك أن تلوم الطبيب أو تلقي عليه أي مسؤولية؟ لقد أعطاك الوصفة وعيّن لك العلاج لكنك رفضته وبالتالي فالذنب ذنبك.
كذلك يصف الله العلاج الناجح لجميع أمراض الجنس البشري. العلاج هو الإيمان بيسوع المسيح وتسليم الذات له. فإذا رفضنا باختيارنا ذلك العلاج فعلينا أن نتحمل النتائج دون أن نلوم الله. وهل يعقل أن يكون اللوم على الله لأننا نحن رفضنا العلاج؟
ويسأل سائل ما هي طبيعة جهنم؟ إن كلمة جهنم في الكتاب المقدس ترجمة واحدة لأربع كلمات مختلفة وهي:
1- الكلمة العبرانية "شيول" SHEOL :ورد ذكرها في العهد القديم إحدى وثلاثين مرة وهي تعني "حالة غير مرئية" وهي تستعمل للتعبير عن الألم والحزن والدمار.
- الكلمة اليونانية "HADES" ولها نفس معنى الكلمة السابقة وترد في العهد الجديد عشر مرات وهي تفيد دائماً معنى القصاص والعذاب.
- الكلمة اليونانية TARTAROS وهي ترد مرة واحدة في رسالة بطرس الثانية (2:4) حيث نجد أن الملائكة العصاة قد طرحوا في TARTAROS وهي تعني برجاً أو سجيناً يغمره الظلام الشامل الكثيف.
- الكلمة اليونانية GEHENNA وردت إحدى عشرة مرة في العهد الجديد خاصة على فم الرب يسوع في خطبه؛ وهي مقتبسة من اسم وادي هنّون، قرب مدينة القدس، الذي كانت تحرق فيه بصورة مستمرة البقايا والأقذار.
رُبَّ سائل: هل يعني الكتاب المقدس وجود نار - بالمعنى الحرفي- في جهنم؟ صحيح أن كلمة "نار" وردت عدة مرات في الكتاب المقدس بالمعنى المجازي ولكن لا شك أن ثمة ناراً تشتعل بلا انطفاء.
فعندما رأى موسى العليقة دهش لأن العليقة كانت تشتعل ولا تنطفئ. وعندما وُضع الفتيان الثلاثة في أتون النار لم يحترقوا بل أن شعرة واحدة من رؤوسهم لم تمس بأذى.
ومن جهة ثانية يقول الكتاب المقدس أن لساننا " يُضرم من جهنم" حين نتكلم بالسوء عن قريبنا. وهذا لا يعني اشتعالاً بالمعنى الحرفي. ولكن سواء كان المعنى حرفياً أو رمزياً فإنه لا يغير من الحقيقة شيئاً. فإذا لم تكن هناك نارٌ فإن الله يستعمل اللغة الرمزية للتعبير عن شيء قد يكون أشد هولاً.
إن جهنم هي النفي من حضرة الله، إنها الموت الثاني الذي يوصف بأنه النفي الأبدي عن كل نور وعدالة وبرّ وسعادة. ويعطي الكتاب المقدس أوصافاً متعددة مرعبة لتلك الحالة المخيفة التي تبلغها النفس بعد ساعة الموت.
ومن المستغرب أن الناس يتأهبون لكل شيء إلا للموت! نتأهب طويلاً قبل الحصول على الشهادات، نتأهب للزواج وللشيخوخة... ولكننا لساعة الموت لا نتأهب. ومع ذلك فإن الكتاب المقدس يؤكد لنا أنه حتم على الناس أن يموتوا مرة.
إن الموت يجعل جميع الناس سواء: يجرد الثري من ثروته والفقير من أسماله؛ يخمد البخل ويطفئ نيران الشهوة. إن جميع الناس يرغبون تجاهل الموت لكنهم جميعاً سيواجهونه بلا ريب، سيّان في ذلك الكبير والصغير، الأبله والحكيم، المجرم والقديس. إن الموت لا يعرف حدوداً ولا تحيزاً.
يروي دانيال وبستر أنه في أواخر أيامه حضر اجتماع عبادة في كنيسة ريفية كان قسيسها متقدماً في السن طيب القلب تقياً. ولما حان وقت العظة نهض القسيس وباشر عظته بلهجة بسيطة يتجلى فيها الحزم والجد فقال: " يا أصدقائي إننا لا نستطيع أن نموت إلا مرة واحدة". وعلَّق دانيال وبستر على ذلك فقال: " إن هذه الكلمات- رغم ما تبدو عليه لأول وهلة من ضعف وبرود- وقعت في نفسي بقوة مؤثرة لم أعهد مثلها من قبل".
أن نفكر في غيرنا أنهم على موعد مع الموت سهلٌ علينا؛ إما أن نتذكر بأننا نحن أيضاً على موعد محتوم مع الموت فعسير جداً علينا! وحين نرى الجنود يذهبون إلى ساحات الوغى أو نقرأ عن الحكم بالإعدام على أحد السجناء أو نزور صديقاً قاده المرض إلى حافة القبر نشعر بالسكون والرهبة المحدقين بأولئك الأشخاص. إن الموت موعد مقرر لكل إنسان ووقوعه ليس إلا مسألة وقت. نستطيع أن نخلف أو نرجىء موعد التسلية مثلاً، أما الموت فموعد لا نستطيع تجاهله أو أرجاؤه أو التخلف عنه. لقد وُضع للناس أن يموتوا مرة، ولا مناص لأحد من الموت!
ولو كان الموت الجسدي هو العاقبة الوحيدة التي ترقب من عاش منفصلاً عن الله لهان الأمر نوعاً ما. لكن الكتاب المقدس يحذرنا من الموت الثاني وهو النفي الأبدي من حضرة الله.
لكن في المسألة جانباً مشرقا. فكما ينذر الكتاب المقدس الخاطئ بجهنم فهو يعد المبررين بالسماء. إن الكلام عن السماء أيسر قبولاً من الكلام عن جهنم، ومع ذلك فالكتاب المقدس يذكر كليهما.
حين تنتقل إلى بيت جديد تسعى لمعرفة جيرانك الجدد وأحوالهم وطباعهم الخ، وإذ كنت تود الانتقال إلى مدينة أخرى تستفسر عن الطرق والصناعات والحدائق والمدارس في تلك المدينة؛ أفلا تستفسر عن المكان الذي ستقضي فيه أبديتك؟
معلوماتنا عن السماء نجدها في الكتاب المقدس. لنا الحق أن نفكر في السماء ونتحدث عنها. وكم تبدو الأرض كئيبة مظلمة حين نتطلع إلى السماء! وكم تتضاءل مشاكلنا وهمومنا حين ننظر إلى المستقبل نظرة ملؤها اليقين! يمكننا القول إن المسيحي يتذوق- وهو بعد على الأرض- مذاق السعادة السماوية: فهو يملك سلام النفس وسلام الضمير ويستمتع بالسلام مع الله. وسط المصاعب والمحن نفسه
مطمئنة يغمرها الفرح، وعلى وجهه تشرق ابتسامة الهناء، وفي مشيته هزة وطرب!
بوسعنا أن نورد في إثبات حقيقة السماء شواهد كثيرة، ولكننا نقتصر على ذكر ما ورد في بشارة يوحنا (14:2و3) "في بيت أبي منازل كثيرة. وإلا فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضي لأعدّ لكم مكاناً. وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً." وقد كان بولس شديد اليقين بالسماء حتى أمكنه أن يقول: "فنثق ونسرّ بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب".
وكثيراً ما كان بولس الرسول يكرر مثل هذه العبارات: "إننا نعلم" "إننا نثق" "إننا متيقنون دائماً". ويقول الكتاب المقدس إن إبراهيم كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله"[17].
يقول كثيرون: "هل تؤمن بالسماء كمكان معين؟" - نعم! فقد قال يسوع "أنا أمضي لأعد لكم مكاناً" ويخبرنا الكتاب المقدس أن أخنوخ وإيليا قد صعدا بجسديهما إلى مكان لا يقل حقيقة عن سائر الأماكن.
ثم يسأل بعضهم: أين السماء؟
إن الكتاب لا يخبرنا عن موقع السماء ولكننا نعرف بكل تأكيد أن السماء موجودة حيث يوجد المسيح. ويصفها الكتاب المقدس بأنها "بناء الله" "مدينة" "وطن أفضل" "ميراث" "بجد". ويقول الكتاب: "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو 2: 9).
وتسألني: هل سيعرف أحدنا الآخر في السما؟ ونجد الجواب في الكتاب الذي يؤكد لنا أن السماء هي المثابة التي نعود فنتحد فيها من جديد مع الذين سبقونا.
ويقول غيرهم: هل يخلص الأطفال؟ نعم! فالكتاب المقدس يبين أن الله لا يأخذ الابن بجريرة أبيه أو أمه. والأدلة متوفرة على أن الكفارة تستر خطيئة الأولاد طالما أنهم لم يبلغوا بعد سن الرشد التي تجعلهم مسؤولين عما يرتكبونه من أعمال صالحة أو طالحة.
ويبين الكتاب المقدس أننا في السماء سنفهم ونعرف الأشياء التي لم نستطع أن نتعلمها على الأرض. قال العلامة اسحاق نيوتن عندما امتدح أحد الناس حكمته، وكان آنئذ في سن الشيخوخة: "ما إنا إلا ولد على شاطئ البحر يلتقط حصاة من هنا وصدفة من هناك، لكن محيط الحقيقة العظيم ما يزال يمتد أمامي". أما في السماء فستنجلي لنا أمور كثيرة تعذر علينا فهمها الآن: الفشل والألم والتجارب التي عانيناها وغاية الله من العذابات التي كانت تحل بنا.
بعض الناس يسألون: ماذا سنصنع في السماء؟ هل سنكتفي بالجلوس والتمتع بالمسرات؟- كلا! فالكتاب المقدس يبين أننا سوف نخدم الله، سوف نقضي وقتاً طويلاً في مديحه: "ولا تكون لعنة ما في ما بعد. وعرش الله والخروف يكون فيها وعبيده يخدمونه"[18] خدمة فرح وترنيم ومديح. ويبين الكتاب أن التغرب عن الجسد معناه الوجود في حضرة الرب. إن المسيحي حالاً بعد موته يذهب إلى حضرة المسيح وتمكث نفسه هناك منتظرة القيامة حيث تتحد النفس والجسد من جديد.
وثمة سؤال أخير وهو: كيف تستطيع ان تقوم الأجساد البالية المتفسخة؟ لقد أثبت العلماء أن لا شيء يفنى على الأرض. فيستطيع الله الذي خلق الجسد أولاً أن يجمع مركباته الأصلية مرة أخرى ليقوم ويتحد مع النفس. لكن الجسد الذي سنمتلكه سيكون جسداً ممجداً كجسد المسيح وسيكون جسداً أبدياً ولن يعرف الدموع والأحزان والمآسي والمرض والآلام والموت.
ترتسم أمامنا صورة عالمين أبديين، وكل امرء من نسل آدم سيكون في أحدهما - السماء والجحيم. كلا العالمين مكتنف بكثير من الغموض، ولكننا نجد في الكتاب المقدس من التلميحات والإشارات ما يكفي لكي نعلم أن أحدهما سيكون عالم لوعات وعذابات وحسرات والآخر عالم مسرات وإشراق ومجد!
[1]- مزمور 89: 49
[2]- عبرانيين 9: 27
[3]- 2 كورنثوس 6: 2
[4]- لوقا 16: 24
[5]- متى 5: 22
[6]- 42 - متى 13: 41
[7]- 40 :13 متى
[8]- متى 25: 41
[9]- متى 3: 12
[10]- 2 تسالونكي 1: 6، 8، 9
[11]- رؤيا 14: 10- 11
[12]- رؤيا 20: 14- 15
[13]- رؤيا 21: 8
[14]- متى 5: 29 - 30
[15]- عدد 32: 23
[16]- غلاطية 6: 7
[17]- عبرانيين 11: 10
[18]- 3 :رؤيا 22
- عدد الزيارات: 6415