الفصل الرابع: الخطيئة
"الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رومية3: 23)
نعيش اليوم في عالم مشحون بالخطيئة. تؤكد لنا الرسالة إلى أهل رومية (3: 10) أنه "ليس بار ولا واحد". لكن الكتاب المقدس يؤكد لنا من ناحية أخرى أن الله الذي خلق هذا العالم هو إله خيّر صالح أيضاً. فلماذا إذن نرى الخطيئة منتشرة والشر مسيطراً والأحزان والآلام منتشرة في كل مكان وبهذا القدر الهائل؟ ومن أين جاءت كل هذه البغضاء؟ ولماذا صنعنا لأنفسنا أصناماً نعبدها؟ ولماذا نتعبد في هياكل الأنانية والطمع والحروب؟ ولماذا غرق الجنس البشري، الذي خلق على صورة الله، لماذا غرق في الفساد والفجور حتى لزم أن يُتبع الله الوصايا العشر بأمر يحض على تنفيذها؟ كيف امتلأ البشر بالشهوة والشر؟ ولماذا وجب أن يرسل الله ابنه الوحيد ليخلصنا؟
إذا أردنا أن نفهم لماذا تتآمر أمة على أمة ولماذا تنقسم العائلة على نفسها ولماذا تمتلئ صحفنا بأنباء العنف والإجرام والبغضاء فلا بد لنا من الرجوع إلى البداءة لنرى القصة التي يرويها الفصل الأول من سفر التكوين عن آدم حينما كان في جنة عدن.
يظن بعض الناس أن قصة الخلق كما يرويها الكتاب المقدس ليست سوى خرافة قد يصدقها الأطفال! لكنهم مخطئون فيما زعموا، إذ أن ما يرويه الكتاب المقدس هو صادق كل الصدق. فهو يروي لنا بأمانة ودقة ما حدث بالفعل في أول الأمر ثم يروي لنا كيف ولماذا مضى الإنسان في سيره، منذ تلك اللحظة، في طريق الدمار والخراب. لا خلق الله هذا الكون كاملاً لا نقص فيه ولا علة. خلقه كامل الجمال والانسجام... ونحن اليوم نتوق إلى ذلك العالم.
في هذا العالم الكامل وُضع الإنسان كاملاً: كان آدم كاملاً لا نقص فيه ولا علة. وهل يُعقل أن يصنع الله شيئاً إلا كاملاً؟ ثم سكب الله في آدم أعظم الهبات وأثمنها وهي الحرية: حرية الاختيار. كان آدم كامل النضوج في جسمه وعقله، سائراً مع الله ومتمتعاً بالشركة المباركة معه. وكان من المقرر أن يكون ملكاً على الأرض يحكم وفق إرادة الله.
في جنة عدن نرى سموّ حالة الإنسان الكامل، الإنسان الأول الذي تفرّد بين سائر مخلوقات الله بهبة الحرية. حرية كاملة: فله أن يختار وله أن يرفض، له أن يطيع وصايا الله وله أن يعصيها، له أن يسعد نفسه أو يشقيها. ولكن مجرد امتلاك الحرية لا يكفي لإسعادنا وإنما ما نختار فعله بحريتنا هو الذي يقرر ما إذا كنا سنجد أم لا السلام مع أنفسنا ومع الله.
هذا هو جوهر المشكلة لأنه حالما توهب الحرية للإنسان يجد نفسه مخيراً بين طريقين اثنين. إذ لا معنى للحرية إذا كان هناك طريق واحد لاتباعه. الحرية تتطلب أن يمتلك المرء حق الاختيار وحق تقرير ما ينوي أن يفعله.
نعرف رجالاً ونساءً ذوي استقامة وأمانة ولكن ليس ذلك منهم عن اختيار حرّ بل لأن لم تتح لهم الفرصة ليكونوا غير ما هم عليه. وكثيراً ما يفتخر الناس بأنهم طيبون، بينما هم في الواقع مدينون في صلاحهم إلى البيئة المحيطة بهم وإلى نمط الحياة التي يحبونها. وكيف نفاخر بمقاومة التجربة إذا لم نواجه أية تجربة؟
وقد أعطى الله آدم تمام الحرية ليختار ما يشاء، كما هيأ له أفضل فرصة ليمارس تلك الحرية. في جنة عدن كان آدم مجرداً من الخطية مزداناً بالبرارة التامة. العالم كافة كان خاضعاً له رهنَ إشارته، وتاريخ البشرية كان في قبضة يديه، أشبه بالقرطاس الناصع البياض، ينتظر أن يخط عليه آدم مجرداً الفصل الأول... لقد أنجز الله عمله فخلق جنة أرضية، غنية بكل ما يمكن أن يحتاج إليه الإنسان. وأبدع إنساناً كاملاً على شبهه وجهزه بعقل وروح. ومنحه حرية كاملة ليستخدم عقله ويتصرف بروحه كما يشاء. ثم انتظر، كما ينتظر الوالد، ليرى أي سبيل يختار ولده.
وجاءت التجربة العظيمة التي كانت بمثابة اختبار لآدم الذي كان له ملء الخيار والحرية في اختيار السبيل السوي أو السبيل الخطأ. ولم يكن أمامه سبيل واحد لا بد من اتباعه بل كان أمامه سبيلان؛ وقد اختار أحدهما بمحض إرادته.
لقد أجرى اختياره فتحمل نتائج ذلك الاختيار ووضع النموذج الذي كان لا بد للإنسانية من اتباعه. "بخطيةٍ واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة[1]".
وما أشبه آدم بالينبوع الذي انبثقت منه الإنسانية بأسرها. وقد كان بإمكان ذلك الينبوع الصافي الرقراق أن يختار مصيره بين أن يصبح نهراً صافياً يجري في المراعي الخضراء المخصبة ليرويها وينعشها، أو أن يصبح نهراً موحلاً قذراً يتسرب بين الصخور القاسية منحدراً في الفجوات والكهوف المظلمة- فيصبح هو نفسه شقياً كما يصبح عاجزاً عن حمل الفرح والقدرة على الإخصاب لما يمر به من الأماكن والأراضي.
لا يجوز لنا من أن نلوم الله بسبب ما نراه في العالم من فوضى واضطراب مُستعصِيَين لأن الغلطة ترجع في أصولها على آدم وحده. فقد منح حق الاختيار في أن يصغي إلى أكاذيب الشيطان، أو يصدق قول الله. ويتلخص تاريخ الجنس البشري منذ ذلك اليوم حتى الآن في محاولاته لاستعادة الوضع الذي خسره بسبب سقطة آدم.
قد تقول في نفسك: "إن هذا ليس من الانصاف في شيء! فما جنينا نحن حتى نتألم؟ وهل ينبغي أن نتألم اليوم لمجرد أن الإنسان الأول قد أخطأ منذ عهد بعيد؟ ولماذا لم يتمكن الإنسان من التخلص من تلك الحالة واستعادة وضعه الذي كان فيه؟ ولماذا نستمر نحن في تحمل الجزاء يوماً بعد يوم؟
لنعد ثانية إلى قصة النهر البارد المظلم الذي يجري في أسفل الممر العميق بين الفجوات والكهوف. لماذا لا يستطيع ذلك النهر أن يرجع ويصعد إلى الحقول المبهجة الممتدة فوقه؟ ولماذا لا يترك طريقه المحزن وينقلب إلى جدول خرار سعيد كما كان عندما انبثق من الأرض لأول مرة؟
إنه لا يفعل ذلك لأنه لا يستطيع. وهو لا يمتلك بذاته القدرة على أن يفعل خلاف ما اعتاد أن يفعله دائماً. فما إن انحدر إلى ممره المظلم مرة حتى لم يعد بوسعه الارتفاع إلى الأراضي المشرقة الممتدة فوقه. فالوسيلة للارتقاء متوفرة وكذلك الطريق لكن النهر لا يعرف كيف يستفيد منهما. ولا شك أن ذلك يتطلب معجزة. إن تلك المعجزة اللازمة مهيأة دائماً وهي كفيلة بتحويل نهر الإنسانية من الشقاء الذي تسير فيه لتجعله يسير مرة أخرى في مجرى السلام الدافئ المتألق، لكن النهر لا يرى ولا يسمع. وهو يظن أنه لا يستطيع سوى الاستمرار في طريقه الملتوي إلى أن يتلاشى أخيراً في بحر الدمار.
وقصة النهر هي قصة الإنسان منذ عهد آدم. فما زال يتمادى في مسيره بين الفجوات والكهوف مستمراً في انحداره نحو الظلمة المرعبة. ونحن أنفسنا بالرغم من أصواتنا التي تصرخ طالبة النجدة، ما نزال نختار، بمحض حريتنا، الطريق الخطأ كما فعل آدم. وحين يدركنا اليأس والقنوط، نلتفت إلى الله وننحي باللائمة عليه بسبب مشكلتنا المستعصية، ونشك في حكمته وقضائه، وننتقص من رحمته ومحبته.
إننا ننسى أن آدم بالنسبة إلى الجنس البشري هو بمثابة الرأس. فشل آدم فانخذلنا نحن معه وفشلنا، وليس ذلك فحسب بل أن هذا الفشل والخذلان يمتدان إلى الأجيال التي لم تولد بعد. لأن الكتاب المقدس يبين وضوح أن جميع الذين سينحدرون من صلب آدم سوف تشملهم نتائج خطيئته. وجميعنا ندرك مرارة الحقيقة المعلنة في سفر التكوين (3: 17، 18، 19): "ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكاً وحسكاً تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود".
أما حواء فقد قال لها الله: " تكثيراً أكثر أتعاب حبلك. بالوجع تلدين أولاداً. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك"[2].
لقد تبدلت الأرض، بسبب خطيئة آدم الأصلية، من أرض لا تحمل سوى النباتات الجميلة المغذية، إلى أرض تحمل من النباتات الجيد والرديء على السواء. وبعد أن كان الإنسان في الجنة يكتفي بأن يمد يده ليحصل على أي طعام يشاء ولم يكن في حاجة إلى الملبس والمأوى، أصبح الآن يكدح كل أيام حياته ليؤمن هذه الضروريات لحياته وحياة عائلته. وبعد أن كانت المرأة خالية البال أصبحت مثقلة بالأوجاع والأحزان. وأصبح كلا الرجل والمرأة واقعين تحت جزاء الموت الجسدي ثم الموت الروحي.
لقد دخلت الخطيئة إلى الجنس البشري بواسطة آدم، وما يزال الجنس البشري يجاهد بلا انقطاع للتخلص منها. يخبرنا الكتاب المقدس بأن الله حذر آدم منذ البداية بأنه موتاً سيموت إذا أكل من شجرة المعرفة. كما يخبرنا أن الله أوصى آدم وحواء "أثمروا واملؤوا الأرض". لذلك انتقل مرض الخطيئة المميت إلى قايين وهابيل بالعدوى وانتقل منهما بالوراثة إلى كل ما أعقبهما من أجيال. فجميعنا إذن خطأة بالوراثة. ومهما حاولنا فلن نستطيع أن نتهرب من حق الإرث الطبيعي.
وجميع الوسائل التي لجأنا إليها لتغيير واقعنا قد باءت بالفشل. لقد عجزنا عن استعادة الوضع الذي فقده آدم. حاولنا أن نطرح عن أعناقنا نير الفجور والخطيئة، مستعينين بالثقافة والفلسفة والدين والحكومات، كما حاولنا أن ننجز، بعقولنا التي تحدها الخطيئة، الأشياء التي صمم الله أن ينجزها الإنسان بالبصيرة التي لا يمكن أن تأتي إلا من العلاء. كانت دوافعنا صالحة وكانت المحاولات حميدة، لكننا في كل ذلك أخطأنا الهدف.
وكل ما نتمتع به من معرفة واستنباط وخطط طموحة متطورة لم تستطع أن تدفعنا إلى الأمام إلا بمقدار ضئيل لنعود من جديد إلى النقطة التي بدأنا منها. لأننا ما نزال نرتكب الخطيئة التي ارتكبها آدم وهي محاولة الحكم والسيطرة بوسائلنا بدلاً من أن نحكم الأرض وفق شرائع الله.
ويحسن بنا- بدلاً من نعت الله بالجور أو ضعف المنطق بسبب سماحه للخطيئة في العالم- أن ننظر إلى الموقف نظرة أكثر دقة وانتباهاً. لقد أرسل الله ابنه، مدفوعاً في ذلك برأفته العظيمة، ليرينا الطريق التي تؤدي بنا إلى الخلاص من مصاعبنا. لقد أرسله الله ليختبر نفس التجارب التي تعرض لها آدم، ولينتصر عليها. وجرب إبليس يسوع كما جرب آدم من قبل، وأغراه بالقوة والمجد كما أغرى آدم عن طريق حواء. ولكن الفرق العظيم بين الموقفين هو أن يسوع قاوم التجربة: فعندما أراه الشيطان كل ممالك العالم ووعده بها وبأمجادها انتهره يسوع بقوله: " اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد[3]". أحرز على الشيطان انتصاراً كاملاً معلناً بذلك للبشرية عن طبيعته الخالية من الخطيئة. بضعفنا وطبيعتنا الفاسدة أثبتنا أننا أبناء آدم، واتبعنا خطواته بأمانة ودقة. نلعن آدم غاضبين، ومع ذلك فنحن نتشبه به! ولا يمر يوم واحد إلا ونواجه نفس الاختبار الذي تعرض له آدم ويسوع. كذلك لا يمر يوم واحد إلا ونمنح فيه فرصة الاختيار بين وعود الشيطان الملفقة وبين كلمة الله الأمينة الصادقة. ولن يزول القنوط والمرض والموت من هذه الأرض إلا حينما يرجع بنو آدم إلى الله الذي رفضه آدم منذ آلاف السنين. عندئذٍ فقط ننال حريتنا التي طالما نشدناها، حريتنا التي تعني التحرر من العوز والبغضاء والخوف والعذاب.
إن طلب الإنسان للقوة، مجردةً من خوف الله، وتصميمه على استعمال هبة الحرية في الاختيار لأغراضه الخاصة الأنانية منذ خلق حتى اليوم، قد أوصله إلى حافة الهلاك. تشهد على ذلك ما خلقته الحضارات البائدة من الأنقاض والأطلال المتناثرة في شتى أنحاء الأرض. وما ذلك إلا شهادة على أن الإنسان لا يستطيع أن يشيد بناء عالم دائم بدون الله. وفي كل يوم جديد تتكرر المآسي ويحلّ الدمار والإنسان ماضٍ في طريقه بتصلب وعناد.
لكن الله في رحمته وحكمته اللانهائيتين ينتظر بأناة ورأفة يفوقان العقول، أن يعود إليه الإنسان بمحض إرادته. وما زال الطريقان اللذان وضعهما الله أمام آدم موضوعين أمامنا، ومازالت لنا حرية الاختيار. صحيح أننا نعيش في عصر النعمة الذي يمسك فيه الله عن فرض جزائه الذي نستحقه بصورة عادلة. لكن يوم الدينونة- يوم يجري الحساب الذي وعد به الكتاب المقدس- سيأتي، وقد لا ينتظر الإنسان الذي أعمته حماقته، قد لا ينتظر كثيراً مجيء ذلك اليوم.
أليس وجود الخطيئة هو الذي يحول بين الإنسان والسعادة؟! بلى وما عجز الإنسان عن إدراك الفردوس الأرضي الذي يحلم به إلا لسبب الخطيئة. وهكذا نجد أن كل ما يخططه من مشاريع وكل ما يحرزه من تقدم في مجال الحضارة، سرعان ما يفشل ويتداعى ويغدو في حيز النسيان. لأن تلك الأعمال التي يعملها الإنسان، إنما يعملها مجردة من تقوى الله. وما يحيط بنا من أطلال في هذه الساعة في شتى أنحاء العالم هو خير شاهد على الخطيئة التي تملأه.
يبدو أن الإنسان قد فقد معرفته بقانون السبب والنتيجة الذي ما زال ساري المفعول في عالمنا. فالنتائج من حولنا واضحة كل الوضوح. لكن أسبابها العميقة الأساسية تبدو أقل تميزاً ووضوحاً وربما كان سبب ذلك مزاعم الفلسفة التطورية التي أعمت بصائر الكثيرين، أو تعلق البشر وتسلحهم بذلك الاعتقاد المرتكز على نظريتهم الحمقاء التي ابتدعوها- ذلك الاعتقاد الذي يزعم بأن الجنس البشري يتقدم، رغم سرعته البطيئة، تقدماً مضموناً نحو الكمال الأسمى النهائي.
من الفلاسفة من يدّعون أن مأساة عالمنا اليوم أن هي إلا مصادفة عرضت له في سيره الصاعد، ثم يشيرون إلى أحقاب أخرى من تاريخ الإنسانية كان يبدو فيها المستقبل حالكاً كما يبدو الآن. ويزعمون أيضاً أن الظروف السيئة التي نعيش فيها اليوم هي كآلام المخاض التي سينبثق عنها مستقبل سعيد. يزعمون أن البشر اليوم يحيون كالأطفال ويتعثرون في طريقهم الذي سيؤدي بهم إلى النضج والتعقل- وإن اقتضى ذلك عدة قرون.
لكن الكتاب المقدس يوضح لنا أن الطبيعة تعلن وجود الخالق ووجود المفسد الكبر. إن عالمنا لم يبق كما صنعه الله بل أُفسد وخُرب. خلقه الله جيداً لكن الخطيئة أفسدته. خلق الله الإنسان باراً ولكن الخطيئة أفسدته وجعلته شريراً.
وكل مظهر من مظاهر الشر إنما هو نتيجة للخطيئة الأصلية التي ما زالت هي هي. ربما تنوعت مظاهرها، لكن الخطيئة نفسها لا تتغير؛ سواء ارتكبها أحد سكان الغاب المتوحشين، أو طيار مثقف متدرب يُغيِرُ في طائرته النفاثة على نفس الغابة ليرميها بقنابله المدمرة. فبين ذينك الرجلين تفصل قرون من المعرفة ويقال عن أحدهما أنه أكثر" تطوراً" من الآخر. كما أن أحدهما يتمتع بجميع مزايا الحضارة البشرية، بينما لا يزال الآخر في الحالة" الابتدائية". ومع ذلك فهل ثمة فرق حقيقي بينهما؟ ألا تحرك كلاهما نفس الدوافع، وهي الخوف وعدم الثقة بأقرانه. ألا يندفع كل منهما بأنانية وقسوة إلى هدفه مهما غلا الثمن الذي يدفعه أخوته في سبيل ذلك؟ وهل القنبلة أقل توحشاً وهمجية من الرمح البسيط؟ وبعد هذا كله هل يبقى ثمة أمل في إيجاد حل لمشاكلنا طالما يستوي "الابتدائي" و"المتطور" رغبةً في قتل القريب أكثر مما يرغبان في محبته؟!
فجميع آلام الإنسانية وأحزانها ومرارتها ومآسيها وعارها يمكن أن تلخص بكلمة واحدة: الخطيئة. كلمة لا نحب سماعها وهي في الواقع كلمة حقيقية مخيفة.
ولا يرغب الناس أن يُدعوا خطأة كما كان آباؤهم وأجدادهم يدعون من قبل. غير أن الكتاب المقدس يقول: "أنه لا فرق بين إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله[4]". ويعلن أيضاً أن كل إنسان على هذه البسيطة هو خاطئ في نظر الله. وكلما سمعت امرأ يدعي أنه غير خاطئ أتذكر القصة التالية: جاء رجل يوماً إلى راعي كنيسته وقال له: إن "الرعية" ترجو منك ألا تتكلم عن الخطيئة بمثل هذه الصراحة لأننا نشعر أنه إذا استمر شبابنا في سماع خطبك الطويلة حول هذا الموضوع فسوف يسهل عليهم أن يصبحوا خطأة. ولماذا لا تدعوها "غلطة"؟ لماذا لا تقول في عظاتك أن شبابنا تعوزهم حكمة وينقصهم روح التمييز. أرجوك ثم أرجوك لا تتكلم في موضوع الخطيئة بعبارات شنيعة. إذ ذاك مد الراعي يده إلى رفٍ قريب وتناول قنينة كتب عليها بأحرف كبيرة" ممنوع اللمس مادة سامة". ثم سأل الراعي الرجل: ماذا تريدني أن أفعل بالقنينة؟ هل تظن أنني أكون أكثر حكمة إذا نزعت هذه الكتابة الواضحة ووضعت بدلاً منها " روح النعنع"؟ ألا ترى معي أنه كلما أغرقنا في الخداع كلما زاد السم خطورة؟
إن الخطيئة- الخطيئة القديمة التي سببت سقوط آدم- هي مصدر آلامنا ومصائبنا الحالية. وكلما ازدادت رغبتنا في تغطية الخطيئة بقناع ازدادت الخطيئة ضراوة وضرراً. لا نحتاج إلى تسميتها بأسماء جميلة لكننا نحتاج إلى فهم دلالة هذه الكلمة التي طالما استعملناها. ومع أن الخطيئة تسود العالم اليوم أكثر من كل شيء آخر، فإن عدداً كبيراً من الناس يجهلون معناها الحقيقي جهلاً تاماً. كثير من الرجال والنساء لا يعدلون عن سلبهم الملتوية الأثيمة لأنهم لم يعرفوا الخطيئة إلا معرفة زائفة؛ كذلك فإن افتقار كثير من المسيحيين إلى تفهم حقيقي للخطيئة هو الذي يمنعهم من العيش عيشة المسيح الحقيقية.
صدق من قال "ما كل من يتحدث عن السماء يدخلها". وهكذا أيضاً يمكن القول: ما كل من يتحدث عن الخطيئة يفهم بجلاء ما تعني. لذلك فإنه من المهم أن نفهم جيداً تعليم الكتاب المقدس عن الخطيئة.
قد ننظر إلى الخطيئة نظرة استخفاف وندعوها بكلمة "ضعف بشري"، ولكنها مأساة في نظر الله! قد نستهين بها باعتبارها حادثاً عَرضياً، أما الله فيعتبرها أمراً منكراً دنساً. يحاول الإنسان أن يخلق لنفسه الأعذار في ارتكاب الخطيئة، أما الله فيسعى إلى توبيخه وتحذيره منها وتخليصه. ليست الخطيئة لعبة نلهو بها لكنها أمر مرعب يجب أن نرهبه ونتحاشاه.
أولاً: الخطيئة عصيان وتمرد.
أي أنها تعدٍ على شرائع الله[5].لقد خط الله الحد الفاصل بين الخير والشر؛ فكلما تخطينا ذلك الحد الفاصل وكلما اقتحمنا منطقة الشر المحرمة علينا، فإننا نكسر شريعة الله. وكلمنا فشلنا في العيش وفق وصايا الله العشر، وسلكنا بخلاف مضمون العظة على الجبل فإننا نتعدى شريعة الله ونرتكب الخطيئة. وقد أوضح يعقوب أننا جميعاً خطأة حين قال: " كل واحد يجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيَّة. والخطية إذا كملت تنتج موتاً[6]." لقد دعينا جميعاً خطأة لأننا كسرنا شرائع الله وتعدينا وصاياه.
ثانياً: الخطيئة إثم.
يدعوها الكتاب المقدس إثماً لأنها انحراف عن الحق بغض النظر عما إذا كان هناك نص صريح بمنع الفعل المقصود أو لم يكن. فالإثم شيء يتعلق بدوافعنا الداخلية وبالأشياء التي نحاول غالباً أن نكتمها عن نظر الله والناس. ونعني بهذه الأشياء الشرور التي تنبثق من طبيعتنا الفاسدة، ولا نعني بها الأفعال الشريرة التي ترغمنا الظروف على ارتكابها. وقد وصف يسوع هذا الفساد الداخلي بقوله" من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان[7]".
ثالثاً: يعتبر الكتاب المقدس أن الخطيئة تقصير عن بلوغ الهدف المعين.
والهدف من وجود كل إنسان هو أن يحيا حياة المسيح الذي جاء ليرينا ما يستطيع الإنسان أن يحققه على الأرض. فحينما نفشل عن الاقتداء به فإننا نقصر عن بلوغ الهدف ويفوتنا إدراك المستوى الإلهي المعين لنا.
رابعاً: الخطيئة نوع من التعدي.
أي إنها إقحام الإرادة الذاتية البشرية في دائرة سلطة الله. فليس للخطيئة فقط وجه سلبي، يتمثل في عدم المحبة لله، بل لها وجه إيجابي أيضاً يتمثل في اختيار وتفضيل الذات على الله. إنها تعني أن يركز المرء محبته وتعلقه وعاطفته في كيانه الذاتي بدلاً من أن يسمو ويرتقي بقلبه إلى الله. فالأنانية ومحبة الذات لا يقلان شراً عن السرقة والقتل.
وربما كان هذا الشكل من أشد أشكال الخطيئة تدميراً وملقاً، لأنه يغدو من السهل في هذه الحالة أن نتغاضى عن الرقعة الملصقة على زجاجة السم. ولا يقل أولئك المنكمشون على أنفسهم - الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية وينصب كل اهتمامهم على ذواتهم ولا يحسنون سوى الجهاد في سبيل حقوقهم الخاصة- لا يقل هؤلاء خطيئةً ودناءةً عن السكيرين والزواني.
قال يسوع: " ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه[8]" وإذا أردنا أن ننقل هذا القول إلى تعابير حديثة تتفق ومفاهيم اليوم أمكننا أن نقول" ماذا ينتفع إمرء من بناء امبراطورية صناعية عظيمة إذا كان ضحية قرحة مزمنة تنغص عيشه وتحرمه متع الحياة؟ أو ماذا ينتفع "دكتاتور" بسط سيادته على امبراطورية شاسعة الأطراف إذا كان فريسة الخوف من رصاصة غادرة أو خنجر لئيم؟ أو ماذا يجني رجل أوصل أولاده على أسمى درجات العلم والغنى، إذا نبذه أولاده في شيخوخته نبذ النواة؟ والخلاصة أن خطيئة محبة الذات خطيئة مميتة بكل معنى الكلمة.
خامساً: الخطيئة عدم إيمان.
لأنها إهانة لصدق الله. "من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه[9]". وإنما عدم الإيمان الذي يغلق أبواب السماء ويفتح أبواب الجحيم أمام الخاطئ وهو الذي يدفع الناس إلى إعطاء أذن صماء لصوت الإنجيل وإلى نكران معجزات المسيح، إلى رفض كلمة الله ورفض المسيح مخلصاً.
تجر الخطيئة على صاحبها الموت وما من إنسان يستطيع أن يخلّص نفسه من هذه العقوبة أو أن يطهر قلبه من فساده. لا يستطيع أحد من الناس أو الملائكة أن يكفّر عن الخطيئة. المسيح وحده يستطيع أن يمنحنا العلاج الشافي وينقذ الخاطئ من المصير الرهيب الذي ينتظره حتماً. " لأن أجرة الخطيئة هي موت[10]" " النفس التي تخطئ هي تموت[11]" "الأخ لن يفدي الإنسان فداء ولا يعطي الله كفارة عنه[12]" " لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم في يوم غضب الرب[13]".
ونجد الوسيلة الوحيدة التي نتخلص بها من الخطيئة في مكان وحيد على الأرض، وهو رابية منعزلة لها شكل الجمجمة. فعلى تلك الرابية نصبت ثلاثة صلبان عُلق على أولها لص وعُلق على ثالثها قاتل مجرم، وعلى أوسطها عُلق رجل يعلو رأسه تاج من الشوك والدماء تسيل من يديه ورجليه وجنبه وجبينه. أما الذين وقفوا قبالته فقد مضوا يتبارون في شتمه وتعبيره والسخرية منه.
من هو صاحب هذا الوجه المعذب؟ وما شأن ذلك الإنسان حتى طالب الناس بإهانته وتحقيره وقتله؟ غنه ابن الله، أمير الأمراء الذي تخر الملائكة ساجدة أمامه مسترة وجوهها من ضياء مجده، وهو أيضاً مبعوث السماء إلى ارضنا الملطخة بالخطيئة، وبالرغم من ذلك نراه معلقاً على الصليب، محتقراً مهاناً ملطخاً بالدماء. فأي سبب أتى به إلى ذلك المكان المرعب؟ ومن رسم أمارات العذاب على وجه ذلك الإنسان الذي جاء ليعلم الناس المحبة؟ أنا وأنت وجميعنا. خطايانا هي التي قادته إلى الصليب وسمرته عليه. وفي تلك اللحظة الخالدة بلغ الجنس البشري أحلك ظلمات الخطيئة وغرق إلى أحط درجاتها وتوغل إلى أبعد حدود الخيانة والتلوث. فليس عجيباً أن تعجز الشمس عن رؤية ذلك المشهد وأن تحجب وجهها عن الأرض.
لكن الخطيئة خدعت نفسها على الصليب. لقد كان الصليب ضربة موجهة إلى المسيح فانقلب إلى ضربة فتحت للإنسان أبواب الحرية. كذلك كان الصليب يمثل أفضل مظهر لما أنتجته الخطيئة من بغضاء وخزي وتحقير لكنه أصبح يمثل أعظم وأنبل مظهر لرحمة الله ومحبته وغفرانه.
لقد سمرت على الصليب جميع خطيئات الذين يؤمنون بالمسيح. موته أساس رجائنا ومنه نستمد انتصاراتنا. المسيح حمل في جسده على الخشبة ما كان يثقل كاهلنا من خطيئات. مات المسيح من أجانا وقام فأثبت لنا صدق مواعيد الله.
فإذا قبلت المسيح اليوم وآمنت به فإنك تستطيع أن تكسر قيود الخطيئة وتصبح حراً مطمئناً مغتصباً لمعرفتك بأن المسيح قد أحبك وبدمه طهرك من الخطيئة وحررك من الدينونة.
[1]- رومية 5: 18
[2]- تكوين 3: 16
[3]- متى 4: 10
[4]- رومية 3: 22، 23
[5]- 1 يوحنا 3 :4
[6]- يعقوب 1: 14-15
[7]- مرقس 7: 21 - 23
[8]- 19 - مرقس 8: 36
[9]- 1 يوحنا 5: 10
[10]- رومية 6: 23
[11]- حزقيال 18: 4
[12]- مزمور 49: 7
[13]- صفنيا 1: 18
- عدد الزيارات: 3066