الفصل الثالث: الله
"إلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي"؟ (أيوب 11: 7)
من هو الله؟ كيف نستطيع أن نتأكد وجوده؟ وهل له بداءة؟ وكيف السبيل إلى معرفته؟
تراود هذه الأسئلة ذهن كل إنسان. وهو إما أن يهمس بها لنفسه أو أن يصرح بها جهراً، لأننا جميعاً نستوي من حيث موقف الدهشة والإعجاب الذي نقفه من خَلْق العالم. وفي كل يوم تتكرر معجزة تكوّن حياة جديدة، وتتكرر أمامنا قصة الموت الغامضة. وفي كل يوم أيضاً نشهد جمال الأزهار وهي تتفتح ونرى أمام ناظرينا السماء المرصعة بملايين النجوم المتلألئة، وتمتد أمام أعيننا الجبال الشاهقة والسهول الفسيحة والبحار الواسعة...
فمن صنع تلك الروائع كلها؟ ومن سنَّ قانون الجاذبية الذي ينتظم بفضله كل شيء في مكانه المحدد؟ ومن الذي أمر فكان الليل والنهار وكان تعاقب الفصول واحداً فواحداً بلا تزاحم ولا تجاوز؟!
ثمة جواب واحد ممكن وهو أن هذه الأشياء وجميع الأشياء هي عمل المبدع الأسمى والأوحد. كما أن للساعة مصمماً هكذا ينبغي أن يكون لعاملنا الدقيق مصمم عظيم ونحن ندعوه الله. اسم معروف لدينا تعودنا أن نردده على شفاهنا منذ نعومة أظفارنا. والكتاب المقدس يعلن أن الله- الذي نتحدث عنه، ونسبّحه، وتنسكب من يده كل البركات- هو الإله الذي أبدع هذا الكون ووضعنا فيه.
وكأني بك تلجّ سائلاً: " من هو الله؟ أين هو الله"؟ جميعنا نعرف اسمه ونستغيث به عند حلول الشدائد والصعاب الجسام. البعض منا يحاولون إدمان ذكر الله واللهج به باستمرار، والبعض الآخر يعلنون جهراً أنهم لا يؤمنون به. وإلى جانب هؤلاء وأولئك فريق يقول: أَقِم لنا البرهان على وجود الله فنؤمن به.
إذا كنت ممن يسمعون عن الله ويتحدثون عنه ولكنهم بانتظار من يثبت لهم وجوده قبل أن يؤمنوا به فدعنا نرى معاً ما أورده الكتاب المقدس في كلامه عن الله.
في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ العالم ينبغي لكل إنسان أن يبحث عن هذا السؤال الخطير: " من هو الله"، ويتوصل إلى جواب صحيح عن ذلك. ومن واجب كل إنسان أيضاً أن يعرف، بما لا يدع مجالاً للشك، من هو الله وما يستطيع الله إنجازه. جهلنا بالله وعدم رغبتنا في إطاعة شرائعه هما مصدر ما نقاسيه من مشاكل، وما تنوء به نفوسنا من أثقال، وما يعانيه عالمنا من فوضى واضطراب. فلنحاول إذاً أن نتزود بكل ما يمكن أن نعرفه عن الله.
أين نجد هذه المعرفة؟ ومن الذي يستطيع من بني الإنسان أن يزودنا بالحقيقة؟ ألسنا جميعنا مخلوقات محدودة؟ وهل عيّن الله على أرضنا شخصاً ما يستطيع أن يخبرنا عن الله بصورة موثوقة لا ترقى إليها الريب؟ كلا! فإن الإنسان الوحيد الذي باستطاعته ذلك قد عاش على أرضنا منذ ألفي سنة، وقد صلبناه! فكيف نجد الآن المعرفة التي نبحث عنها؟
سل كبار العلماء فيجيبوك أن الله ليس إلا تعبيراً عن كل شيء نصادفه في الحياة وفي الطبيعة، وإن الكائنات الحية تشكل مع الله وحدة منسجمة، وإن الحياة نفسها تعبير عن كيان الله الإلهي. ثم يَخْلُصون إلى القول: إننا نستطيع أن نرى الله في ذرة الماء المتناهية في الصغر وفي قبة السماء المتناهية الأرجاء.
أما الفيلسوف فيعتبر أن الله هو القوة الأصلية الثابتة والحافظة العوالم في حركة دائمة، وهو القوة التي لا بدء لها ولا نهاية.
ثم يمضي إلى القول إن كل ذرة حياة وجمال أن هي إلا مظهر لتلك القوة التي تتدفق في تيار مستمر مستديم من المولد الكهربائي ثم تعود إليه.
ويقول لنا آخرون: إن الله هو الكائن المطلق وهو الكل في الكل. لا يستطيع أحد أن يعرف عنه أكثر من ذلك. هناك تعاريف كثيرة لله، فقد بذلت المحاولات لتفسير الكائن الأسمى المهيمن على هذا العالم- من قبل البلدان والأجناس والأفراد- وحاول كل امرئ أن يكتشف خالقه العظيم الذي لا يراه.
ونقف نحن موقف الحيرة ونتساءل ما هي الفكرة الصائبة؟ وأية نظرية نقبل؟ بمن نثق من أصحاب التفاسير؟
أما أنا فأقول: لا بد لنا من أن نقبل ما يأتي به الله نفسه. ولا شك أننا إذا آمنا بأن الله يعلن نفسه في الكتاب المقدس فسوف ترتاح نفوسنا وترتوي عقولنا، ويصبح بوسعنا أن نتأكد أننا قد حصلنا على الجواب الصحيح وأننا في طريقنا إلى فهم ومعرفة طبيعة الله.
ونستطيع أن نجد هذا الإعلان في الكتاب المقدس مراراً عديدة قد تبلغ المئات. فإذا واظبنا على درس الكتاب المقدس بعناية وانتظام فسوف نتمكن من معرفة الله بصورة وثيقة ومرضية.
وكما أن لحجر الماس جوانب عديدة هكذا فإن مظاهر إعلان الله عن نفسه عديدة جداً؛ وأقتصر منها على ذكر أربعة أعتقد أنها أقوى دلالة، وكم يجدر بنا أن نحملها دائماً في قلوبنا.
أولاً: يعلن الكتاب المقدس أن الله روح.
وذلك ما بينه يسوع بكل جلاء في حديثه مع المرأة السامرية عند بئر سوخار " الله روح[1]".
ولكن ماذا نفهم بكلمة روح؟ وما هي الصورة الذهنية التي ترتسم أمامنا؟ هل نظن أنه سحابة من بخار تسوقها الريح في الجو؟ أم أنه أمر مخيف مثل "البعبع" بالنسبة للأولاد؟ أهذا ما عناه يسوع حين قال " الله روح"؟
لكي نعرف ما هو الروح بالحقيقة أو ماذا عنى يسوع حين استعمل هذه الكلمة المحددة، يجدر بنا أن نرجع إلى الكتاب المقدس مرة أخرى لنسمع يسوع يقول لتلاميذه: " جُسُّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي"[2]. من هذا نرى أن الروح لا جسد له ومع ذلك فإن له كياناً وقوة. وكم يبدو عسيراً علينا أن نفهم ذلك بعقولنا البشرية المحددة!
بسبب أننا بشر، محرومون من النظرة غير المحدودة التي صمم الله بالأصل أن نتحلى بها، فمن العسير عليها أن ندرك مجد الروح وروعته- لا سيما وأن الروح بالأصل بعيد عنا خارج عن نطاق ذواتنا.
ونحن حين نسمع كلمة "روح" نحاول مباشرة أن نرسم في أذهاننا صورةً أو معنىً يخضع للمقياس الذي تعتمده عقولنا القاصرة المحدودة. وما أشبه محاولتنا هذه بمحاولة إفهام معنى المحيط لإنسان لم يشاهد طوال حياته سوى بركة صغيرة من الماء الملوث بالأوحال. كيف يتسنى لمثل هذا الإنسان أن يدرك حقيقة المحيط بأطرافه التي لا نهاية لها، بأعماقه البعيدة الغور؟ أم كيف يستطيع أن يتمثل في ذهنه جبروت المحيط بأمواجه المزمجرة المزبدة أو جماله الرائع العجيب في لحظات سكونه وهدوئه؟ وبأية كلمات نستطيع أن نرسم تلك الصور المتعددة التي تحاكي حقيقته الغنية الرائعة؟ أم كيف نستطيع أن نقوده إلى الإيمان بأن مثل هذا الشيء العجيب يمكن أن يوجد في الواقع؟
ولكَم يبدو الأمر أشد صعوبة لنا ونحن نحاول أن ندرك ونفهم ما عناه يسوع حين قال" الله روح"! أما يسوع نفسه فقد عرف ذلك جيداً لأن ذهنه لم يكن محدوداً كأذهاننا ولأن عينيه لم تكونا مركزتين على بركة الحياة الموحلة. فقد كان يعرف جيداً غنى الروح الذي لا حدود له. لذلك جاء لكي يؤهلنا لنفهم، ولو بصورة جزئية، هذا الغنى وما يتضمنه من سلام وتعزية وأشياء جميلة رائعة.
إننا نعرف أن الروح لا تحصره قيود الجسد المحدود؛ وهو ليس عرضة للقلق والهم أو التغير والتبدل. وعندما يعرّف الكتاب المقدس الله بأنه روح فهو يعني أن له تلك الصفقات؛ فهو غير محدد بجسد معين ولا بهيئة خاصة، ولا بحدود أو قيود البتة. وهو منزه بصورة مطلقة عن القياس ولا يمكن أن تراه الأعين التي تقتصر قوة أبصارها على الأشياء الجسدية.
لهذا كله فإن الله- كما يبين ذلك الكتاب المقدس- يستطيع في آن واحد أن يكون في كل مكان، ويستطيع في آن واحد أيضاً أن يسمع كل شيء ويرى كل شيء ويعرف كل شيء.
أما نحن فلا نستطيع! ولذلك نحاول أن نصغّر الله- إذا صح التعبير- حتى يصبح ضمن حدودنا البشرية ونحاول أن ننكر على الله قوته وقدرته على فعل أشياء يستحيل علينا أن نفعلها. وما أشبهنا في ذلك برجل طالما سمع عن المحيط، وذات يوم جعل طريقه إلى الشاطئ وحين بلغ الماء غرف منه ملء يده ثم أغلقها على بضع قطرات ثم صاح قائلاً: آه! وأخيراً امتلكت المحيط. وها أنا أمسكه بيدي. لقد أصبح كله لي!
صحيح أنه يمسك بجزء من المحيط ولكن في نفس اللحظة يمكن لعشرات الألوف من الأشخاص الآخرين أن يقفوا على شواطئ أخرى لنفس المحيط ويمسك كل منهم بيده بضع قطرات ويقول مثلما قال صاحبنا. وبوسع كل إنسان أن يأتي إلى شاطئ من شطآن المحيط ويمسك ملء يده ماء، بل قدر ما يريد، لكن المحيط يبقى بالرغم من ذلك كما كان بلا تغير ولا تبدل. وتبقى قدرته ومظاهر الحياة في أعماقه دون أي تبدل رغم أنه قد استطاع أن يلبي حاجة كل واحد من أولئك الواقفين على شطآنه.
كذلك الأمر بالنسبة لله، فهو يستطيع في آن واحد أن يكون في كل مكان، ويسمع صلوات جميع الذين يصرخون إليه باسم المسيح، كما يستطيع أن يستمر في إنجاز معجزاته العظيمة: فتظل الكواكب في مواضعها وتظل الأسماك تسبح في مواطنها في النهر والبحر، وتظل النباتات تنبثق من قلب التربة لتنمو وتزدهر وتثمر. فلا حدود لله سبحانه وتعالى، فحكمته وقدرته ومحبته ورحمته وجميع كمالاته لا تعرف حدوداً.
وإذا كنت تحاول أن تحد الله فكفّ عن ذلك ولا تحاول أن تقيد شخصه أو أعماله بمكان أو جو معينين، لأنك لن تستطيع أن تحدّ المحيط! ولن تجد في نفسك من الجرأة ما يكفي لأن تغير الفلك الذي يدور فيه القمر أو ما يكفي لتوقف الأرض عن دورانها، فأي حماقة مفرطة ترتكب إذا ما حاولت أن تحدّ الله الذي أبدع تلك العوالم بما فيها وهو ما يزال يهيمن عليها ويحفظها!
إني أشعر بامتنان كبير نحو والدتي لأجل البركات الكثيرة التي أدخلتها في حياتي. ومن أروع ما علمتني قولها لي وأنا في العاشرة من العمر "إن الله روح غير محدود أبدي لا يتغير". ورسخت كلماتها في ذهني طوال حياتي، وكم ردعتني عن الميل إلى جعل الله ضمن حدود. إن هذه المعرفة من شأنها أن تعينك على التغلب على كل شك في مقدرة الله على إنجاز ما تعجز أنت عن إنجازه.
والذين يشكون في كون الكتاب المقدس هو كلمة الله فإنما يفعلون ذلك لأنهم لا يريدون أن ينسبوا لله شيئاً يعجزون هم أنفسهم عنه. فإذا كان يخامرك أي شك في وحي الكتاب المقدس فخذ الكتاب واقرأه من جديد وتذكر أن موقفك يحاكي موقف ذلك الإنسان الذي اعتاد النظر إلى البركة الصغيرة الموحلة ثم وقف أمام المحيط! قد يستبعد أن تكون نظرتك الآن هي أول لمحة عن قدرة الله وعظمته غير المحدودة، كما لا يستبعد أن تكون الآن قد بدأت تفهم ماهية الله. لأنه إذا كان الله هو الروح الذي أعلنه يسوع المسيح فإن جميع المشاكل ستحل: مشكلة العناية الإلهية، ومشكلة السلطان الإلهي في التاريخ، ومشكلة الوحي الذي أوحى به الله إلى الرجال الذين كتبوا الكتاب المقدس.
ثانياً: يعلن الكتاب المقدس أن الله شخص.
ونقرأ في صفحاته مثل هذه العبارات: "يفعل اللهوهو في يقول اللهوهو في يحب الله". ننسب إليه كل ما ننسبه إلى الشخص من صفات. فالشخص يشعر ويفكر ويرغب ويريد ويمتلك جميع الصفات المعبرة عن شخصيته.
والشخصية كما نراها نحن لا بد أن تكون مقترنة بالجسد؛ لأن عقولنا المحدودة لا تستطيع أن ترى الشخصية إذا لم تظهر هذه الشخصية في جسد من لحم ودم وعظام. نعلم أن شخصيتنا لن تندثر إلى الأبد بالأجساد التي تندثر بها الآن، ونعلم أنها عند الموت سوف تنطلق إلى مصيرها الذي ينتظرها- ومع ذلك فإنه يعسر علينا أن نقبل تلك الحقيقة.
هلاّ نتأمل النصوص الكتابية فنفهم أن الشخصية ليست كائناً" جسدياً". فإن الله مع كونه مجرداً عن الجسد فهو شخص. وهو يشعر ويفكر ويحب ويغفر، وهو يشاركنا ما نواجهه من مشاكل وما نقاسيه من أحزان.
ثالثاً: يعلن الكتاب المقدس أن الله ليس روحاً وشخصاً فحسب بل هو قدوس وبار.
يظهر الله نفسه كإله قدوس في جميع أسفار الكتاب المقدس من سفر التكوين حتى سفر الرؤيا. فهو يمثل أسمى درجات الكمال المطلق بكل معنى الكلمة. وهو أقدس من أن يمس الإنسان الخاطئ، كما أنه أقدس من أن يحتمل الخطأة في حضرته؛ فهو إله كامل قدوس.
وكم تتبدل حياتنا، أفراداً وشعوباً، لو استطعنا أن ندرك الصورة الحقيقية التي تمثل بره الجليل! وكم سيتغير العالم بسرعة مدهشة لو استطعنا أن ندرك الهوة الواسعة الهائلة التي تفصل بين الإنسان الفاجر الخاطئ وبين الله البار الكامل. وتعلن الأسفار المقدسة أن الله نور ليس فيه ظلمة البتة. فهو الكائن الأسمى الذي لا يتطرق إليه لوم أو نقص.
وهنا أيضاً يجد الإنسان نفسه عاجزاً عن إدراك هذا المفهوم العسير. حيثما سرنا نرى أنفسنا غارقين في الخطأ والقصور. ولذلك يصعب علينا أن ندرك قداسة الله الشاملة الفائقة. ولكن لا بد لنا - إذا أردنا أن نفهم الكتاب المقدس ونحصل على الفائدة المرجوة منه- لا بد لنا من أن نقر بتلك القداسة.
وتؤكد جميع الأسفار المقدسة وجود ذلك الغور الهائل الذي يقف الإنسان العاجز عن الكمال في طرفه الأول بينما يقف الله الكلي القداسة والكمال في طرفه الآخر. فنراه (أي الغور) متمثلاً في تقسيم خيمة الاجتماع، وفي تقسيم الهيكل إلى قدس وقدس أقداس، وفي التقدمات التي كان لا بد منها لكل خاطئ يريد الاقتراب من الله، وفي تأسيس كهنوت خاص ليقوم بالتوسط بين الله والشعب. كذلك أكدته الشرائع التي أوردها سفر اللاويين وتدور كلها حول موضوع الخطيئة والإثم. فقداسة الله واضحة بجلاء في جميع ما سنه من فرائض وسنن.
ويبين الكتاب المقدس أن عرش الله مرتكز على أسس من القداسة. ويرجع سبب وجود البون الشاسع بين الله القدوس والإنسان غير التائب إلى أن الله قدوس لكن الإنسان بعيد كل البعد عن القداسة. كما يخبرنا الكتاب المقدس بأن الكتاب المقدس بأن آثامنا قد فصلتنا عن الله وسترت وجهه عنا حتى لم يعد بإمكانه أن يستمع إلينا.
إن طهارة الله ونقاءه لا يسمحان له بأن ينظر إلى الشر والخطيئة. وقد كانت بين الله والإنسان شركة وألفة قبل أن تدخل الخطيئة إلى الجنس البشري، غير أن هذه الشركة قد انفصمت عراها ولن يستطيع الإنسان أن يعيد تأسيس تلك الشركة وإقامتها إلا بوسيلة واحدة وهي: شخص يسوع المسيح.
والإنسان الخاطئ هو بذاته عاجز عن تغيير موقفه وعن إيصال الكلمات الآثمة- التي ينطق بها لسانه الآثم- إلى أذني الله الطاهرتين. ولولا أن الله برحمته اللامتناهية قد أرسل ابنه يسوع ليكون، فوق ذلك الغور الهائل، جسراً يصل بين الإنسان والله، لولا ذلك لبقي الإنسان هالكاً إلى الأبد.
لن نستطيع أن ندرك السبب الحقيقي لموت المسيح إلا حينما ننظر إلى قداسة الله. فتلك القداسة تتطلب أن تلقى الخطيئة جزاءها المناسب. ولكن محبة الله هي التي هيأت ودبرت أن يقوم يسوع المسيح بدفع ذلك الجزاء العظيم، ومنح الإنسان الخلاص.
لقد أرسل الله ابنه الوحيد ليمكننا من القدوم إليه، يدفعه إلى ذلك ما يتصف به من طهارة وقداسة وعدالة وبر. لكننا إذا تجاهلنا محبته ومعونته التي قدمها لنا، وأبَينا الخضوع لشرائعه، فلن نستطيع أن نسأله الرحمة يوم يحل علينا العقاب الذي نستحقه.
رابعاً: الله محبة.
الذين لا " يقرأون" الكتاب المقدس يتعذر عليهم فهم هذه العبارة: "الله محبة" وأمثالها. ونحن أنفسنا كثيراً ما نجهل ما نعنيه تماماً بكلمة "محبة". ولذلك أصبحت هذه الكلمة من أكثر الكلمات تعرضاً للخطأ والتشويه وإساءة الاستعمال. نلفظ كلمة محبة حين نتحدث عن شؤوننا وعلاقاتنا، سامية أو منحطة فنقول: " نحب" أن نسافر و"نحب" أن نأكل كعكة. و" نحب" سيارتنا الجديدة، و"نحب" لون الستائر التي شاهدناها في منزل أحد الأصدقاء. و" نحب" جيراننا مع أننا لا نحبهم. فلا عجب- والحالة هذه- أن تكون فكرتنا غير واضحة حين نقرأ أن الله محبة.
"الله محبة" لا تعني أن الأمور ستسير بسهولة وعذوبة وهناء وإن عقاب الخطيئة سيُزال. وهل ننسى أن قداسة الله تتطلب معاقبة الخطيئة؟ ولكن محبة الله هي التي دبرت خطة فداء الإنسان الخاطئ وهي التي أرسلت يسوع المسيح إلى الصليب.
إن الله يحبك. ولولا تلك المحبة لما كان لأحد منا أقل رجاء في الحياة الأبدية. ولكن نحمد الله لأنه محبة ولأن محبته لنا دائمة وأبدية.
لقد فصلتنا خطايانا عنه ولكن كما أنه بسبب قداسته لا يستطيع أن ينظر إلى الخطيئة، كذلك فإنه بسبب محبته قد دبر لنا طريقاً للرجوع إليه بواسطة يسوع. "ولكن الله بيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا[3]".
صحيح أن يسوع قد هيأ لك طريقاً للرجوع إلى الله ولكنه يرغمك على اتباعه. لأن الله لا يفرض نفسه على أي إنسان؛ وذلك ما يؤكده قول الكتاب "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية[4]".
لقد قدم الله لنا محبته اللانهائية ورحمته. لكن يتوقف على كل منا أن نؤمن ونقبل تلك المحبة فننال الخلاص بها. ولا أحد غير الله يستطيع أن يفعل ذلك من أجلنا.
كما أننا لا نستطيع أن نصف المحيط أو نفهم جماله العظيم ما لم نره فعلاً، كذلك لا نستطيع أن نفهم محبة الله ما لم نقبلها ونختبرها بصورة فعلية ونحصل على سلام مع الله.
إن العقل البشري غير كفء لإدراك محبة الله غير المتناهية. قد يعجب عقلك كيف تستطيع البقرة السوداء أن تتغذى بعشب أخضر ثم تعطينا لبناً أبيض اللون- ومع ذلك فأنت تشرب اللبن وتتغذى به. كذلك لا يستطيع ذهنك أن يتتبع المراحل الدقيقة التي تمر بها بذرة البطيخ المسطحة منذ غرسها حتى نموّها وتحوّلها إلى نبتة مزدانة بالثمار الخضراء ذات اللب الأحمر اللذيذ الطعم، ومع ذلك فأنت تأكلها وتستلذ مذاقها. ولا يستطيع ذهنك أن يفسر الكهرباء التي تبعث الضوء في مصابيحنا، ولكنك تعرف أن الكهرباء موجودة.
يجب أن تقبل الله بالإيمان- الإيمان بابنه يسوع المسيح، فتتلاشى من ذهنك كل الشكوك. فلا ضرورة عندئذ أن تتساءل أو تسأل عما إذا كان الله في قلبك أم لا لأنك تعرف ذلك معرفة اليقين وعن اختبار شخصي.
كلما سُئلت عن سر اليقين الذي يعمر به قلبي أتذكر قصة الصبي الذي كان ذات يوم يلهو ويطيّر " طيارته". كان اليوم غائماً وكانت الريح سريعة وهي تسوق أمامها السحب المتموجة في الفضاء الفسيح. وحلقت الطيارة وارتفعت في طيرانها حتى حجبتها الغيوم عن الأنظار. ومر رجل بالصبي فسأله
: "ماذا تفعل هنا يا بني؟" أجابه الغلام:
" إني أطيّر طيارة". فصاح الرجل متعجباً:
"تطيّر طيارة ولكن ما الذي يجعلك تتأكد مما تفعل؟ فأنت لا تستطيع أن ترى طيارتك".
فرد عليه الصبي:
صحيح! ولكني بين فترة وأخرى أشعر أنها تجذبني بقوة فأتأكد أنها ما زالت هناك.
وهكذا أيضاً لا نحتاج أن نتساءل أو نسأل عما إذا كان الله موجوداً أم لا، إذ أننا نعرف ذلك معرفة اليقين، بالإيمان، وعن اختبار شخصي وعلاقة شخصية بيننا وبين الله.
[1]- يوحنا 4: 24
[2]- لوقا 24: 39
[3]- رومية 5: 8
[4]- يوحنا 3: 16
- عدد الزيارات: 2067