Skip to main content

الفصل العاشر: "قوة قيامته"

إن المسيح سابقنا العظيم يقهر الموت ويفتح الأبواب المغلقة التي تفصلنا عن الأبدية ويدع الروح تمر.

إن الحكمة الأزلية بذهابه عن طريق الصليب والقبر إلى جو الحقيقة قد أرانا هذا الممر- هذا السر وأعطانا كلمة قدرته التي هي مفتاح العالم الروحي. وما أقل ما فعله نور العالم لنا إذ عجز عن أن يضيء لنا ظلمة القبر وعن أن يقلل أمامنا فزع الموت.

"هلموا انظروا الموضع الذي كان المحبة الكاملة مضطجعاً فيه"

جون كوردليير

في كتابه: "الطريق إلى الحكمة الأبدية"

توجد صورة بديعة للمصور أوجين برناند اسمها "سبت اليأس" وهي تمثل التلاميذ الأحد عشر وهم مجتمعون معاً والأبواب مغلقة بسبب الخوف من اليهود ولكن لا تعلو وجوههم بسمة الرجاء ولا يضيء ملامحهم نور الأمل. فالمسيح في القبر ومعه دُفنت آمالهم؛ ولذلك فهم يقولون: "ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل". كنا نرجو، أما الآن فقد ذهب رجاؤنا هباء. لقد رأينا قوته ومجده بجانب البحيرة في الجليل، كما شاهدناه على الجلجثة، وسمعنا صرخته المرة وأبصرنا ألمه المميت. ثم أن يوسف الذي من الرامة أخذ الجسد ونحن وضعناه في القبر. فيسوع قد مات. ويُرى في هذه الصورة بطرس جالساً مسنداً رأسه على يديه ويوحنا الحبيب يحاول تعزيته ولكن لا يستطيع الكلام. وهكذا مع خيبة آمالهم في المستقبل وثبوط عزائمهم في حيرتهم وارتباكهم وانذهالهم كان كل وجه من وجوه هذه الجماعة تعبيراً شخصياً لاختبارهم المشترك- يسوع مات "ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل".

ولكن نشكر الله أن قصة الإنجيل لا تنتهي بموت المسيح ولا تختتم بصرخة الانتصار: "قد أكمل". فقد تبع موت المسيح قيامته من بين الأموات: إن يسوع كان "من نسل داود من جهة الجسد" ولكن "تعين ابن الله بقوة بالقيامة من الأموات"؛ لقد مات من أجل خطايانا ودفن ولكنه "قام في اليوم الثالث حسب الكتب". هذا هو الاستدلال المنطقي لبولس الرسول. إنه يبني إيمانه بقيامة المسيح أولاً على النبوات والمواعيد القائلة بأنه ينبغي أن يقوم، ثم على ظهور الفادي الحي. إنه يعطينا جدول ظهورات المسيح بالترتيب ثم يدلل برؤيته المسيح المقام- في طريقه إلى دمشق. ثم يختتم الحديث بقوله: "إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم. إذاً الذين رقدوا في المسيح أيضاً هلكوا. إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس".

يقول سدني دوبل- بعد تبصر عميق في حقيقة هذه الأدلة وخصوصاً في ظهور المسيح لبولس- "إن اهتمام بولس الرسول في وضع كل قيمة كرازته على حقيقة القيامة لهو دليل قاطع على القيامة بل يجعل من عقل بولس دليلاً. إنه ضامن لعدد وافر من الحقائق. كذلك أيضاً باقي الرسل: حقاً إن المقارنة بين عدم تصديق الرسل قبل القيامة وشدة إيمانهم بعدها واختيار القيامة أنها أمُّ الحقائق كلها لهو أيضاً برهان سامٍ لتلك الحقائق".

إن من أعجب الأمور في قصة القيامة كما وردت في الأناجيل الأربعة هو أن جميع أقوال شهود العيان هؤلاء تشدد في ذكر شكوك أتباع السيد أولاً وكان عقلهم مجرد شكوك في شكوك وغير مستعدين أن يقبلوا أي دليل بمجرد الإشاعة- فالنساء "لم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنّ خائفات" (مر16: 18)؛ ولما أخبرت مريم المجدلية تلاميذ الرب عن رؤيتها المسيح الحي "لم يصدقوا" (16: 11) وفي الجليل لما رأوا الرب على الجبل "سجدوا له ولكن بعضهم شكوا (مت28: 17) وتوما ظل غير مؤمن بقيامة المسيح أسبوعاً كاملاً وبعد ذلك آمن.

إذاً إيمان الرسل بحقيقة وقوع قيامة المسيح لم يكن إيماناً أعمى بل إيمان بصير مبني على بينات متعددة وغير قابلة للنقض إذ "أراهم نفسه حياً ببراهين كثيرة بعدما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوماً". وكان عدد الذين رأوه هكذا حياً وعرفوه أكثر من خمس مئة أخ (اع1: 3و 1كو15: 6). وبعد صعود المسيح وحلول يوم الخمسين العظيم لم يبق ظل من الشك في قلب واحد من الرسل، فقد تغيروا جميعاً لأن المسيح كان حياً إلى الأبد وقيامته كانت رجاءهم الحي. إنها كانت المحرك العظيم لرسالتهم وليس لرسالتهم فقط بل لاختباراتهم اليومية. قال بطرس الرسول "هذا أقامه الله في اليوم الثالث وأعطى أن يصير ظاهراً ليس لجميع الشعب بل لشهودٍ سَبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات (اع10: 40- 42). وكتب بولس الرسول "لأنه وإن كان قد صُلب من ضعف لكنه حي بقوة الله..." (2كو13: 4). وقال يوحنا الحبيب "يسوع المسيح الشاهد الأمين البكر من الأموات". نعم هو حي إلى الأبد ولا يسود عليه الموت بعد لأنه أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل. هذه هي قوة الحياة الجديدة في المسيح. إنه في كل مؤمن رجاء المجد وسر النصرة على الخطية. إننا صلبنا ومتنا وقُبرنا مع المسيح ولكننا الآن نحيا فيه ولأجله.

إن صباح القيامة ليرسل نوراً جديداً- نور الأبدية- على جميع الأمور العالمية؛ وهكذا تغير كل شيء بل وكل إنسان من أجل هذا الرجاء الحي- إظهار قوة الله ونصرة الله على القبر الفارغ. إذا "كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً" في النور الجديد نور صباح القيامة.

وعندما يتحقق الناس وجودَ المسيح الحي حاضراً معهم تُقَّدَّر ملاذ الحياة بمقياس جديد. قال داود لفنجستون: "من الآن لا أضع أية قيمة لأي شيء أمتلكه إلا بالنسبة لعلاقته بملكوت المسيح". نقرأ في إنجيل يوحنا: وكان في الموضع حيث صلب (المسيح) بستان وفي البستان قبر: ذلك البستان ما يزال في انتظارنا، إنه مخضل بدم التضحية حيث يثمر فيه جميع ثمر الروح. فإن قوة قيامة المسيح تمكن الناس من أن يواجهوا أعمق أحزان الحياة وحاجاتها بثقة في المسيح الذي يعرف ويريد بل ويستطيع أن يسد كل هاته الحاجات.

إن القلب البشري يجوع لشيئين أحدهما الفداء من الخطية وثانيهما الحياة الأبدية. وأعجب حقيقة في فلسفة تاريخ الديانات هو اعتقاد البشرية عامة بوجود نوع من الحياة المستقبلة بعد الموت وبالمحاولة العامة لإرضاء الآلهة أو الله بجميع أنواع التقدمات والذبائح. والمسيح يتمم هاتين الحاجتين. ومع أن تصورات الشعوب القديمة عن الحياة المستقبلة كانت ضئيلة فقد كانت حقيقية وسائدة على أفكارهم. وإن نفس عبارة "عبادة الأرواح" لتدل على أفضلية الروح على العالم المادي. وليست الديانات القديمة فقط بل وجميع الديانات الكبرى تقول بالخلود وتميل إلى الأمور الأبدية.

إن الناس يؤمنون بالخلود من أجل هذه الحقائق المحسوسة وهي عدم كمال الحياة الحاضرة، ولأنهم يلاحظون أن الأخلاق تنمو غالباً حتى بعد أن تأخذ القوى العقلية في الهبوط، بل من صراخ القلوب ونزوعها إلى العطف والحب (لأن المحبة أعظم من الموت). نرى أن شيئاً في داخلنا يردد صدى صوت العالم الأسمى وهكذا تجذب النفوس دون مقاومة في هذا الطريق الوحيد لمقامها الأبدي. إن كل الأشياء تتجه إلى قلب الله لأنه أصلها وهو أيضاً نهايتها. قال باستير العالم الشهير: إن الذي يعلن وجود الكائن غير المحدود- ومن يستطيع أن ينكره- إنما يجمع في ذلك الإعلان الواحد مما هو فائق الطبيعة أكثر من جميع المعجزات الواردة في جميع الديانات، لأن تصور غير المحدود يوجد صفة مزدوجة فيستولي علينا عنوة ومع ذلك يظل غير مدرك. وعندما يملأ هذا التصور إفهامنا لا نستطيع سوى السجود لذاته العلية والإقرار بها. وإني أرى في كل مكان في العالم دلائل غير المحدود وبه أرى أن الفائق الطبيعة هو في قرارة كل قلب". والعلم يتكلم عن الفضاء غير المحدود والزمن غير المحدود والأعداد غير المحدودة والحياة والحركة غير المحدودتين لأن الله "جعل الأبدية في قلبهم" (جا3: 11).

ليس الموت أكثر عمومية من اشتياق النفس البشرية للحياة الكاملة مثل التي أنارها المسيح بقيامته المجيدة وصعوده العجيب.

مهما لاقى المرء حزناً أو آلاماً في الحياة

لا يروم الموت حي أو يقول بالممات

كلنا نبغي حياةً ليس موتاً في القبور

بل حياةً لا رقاداً بل بقاء للنشور

ثم مجداً في السماء وخلوداً للدهور

وهذه الحقيقة معلنة في معتقدات قدماء اليونانيين وفي كتاب الأموات (الذي كان في الحقيقة كتاب الحياة) لدى قدماء المصريين وفي كتب قدماء الفلاسفة عن تناسخ الأرواح.

إن مشتهى جميع الشعوب في الحياة الخالدة قد تم في المسيح وفيه وحده. ولقد أعطانا نحن أتباعه رسالة فذة رسالة مناسبة لخطايا البشرية وأحزانها إذ أنار لنا الحياة والخلود بموته وقيامته.

ولما كان روّاد الحق الغيورون في كل عصر ومصر يرون عالماً غير منظور ويسمعون أصواتاً غير مسموعة ويحاولون لمس الحقائق غير المحسوسة- فلن تجذبهم أية رسالة ما لم تكن من عالم غير هذا العالم. وقد بشر المسيح على قبر أليعازر بإنجيل القيامة إذ قال "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد".

وهذا لب رسالة بولس الرسول. إنه كان يكرز بالمسيح والقيامة، ولم يعرف إنجيلاً آخر غير هذا: "وأعرفكم أيها الأخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به وقبلتموه وتقدمون فيه وبه أيضاً تخلصون إن كنتم تذكرون أيُّ كلام بشرتكم به إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثاً، فإني سلّمتُ إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضاً إيمانكم. ونوجد نحن أيضاً شهودَ زورٍ لله لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه إن كان الموتى لا يقومون (1كو15: 1- 3و 14و 15). المسيح قام من القبر لأنه أنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل. فإن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح تكون رسالتنا بل ونحن أنفسنا أشقى جميع الناس. ولكننا الآن سفراء قهَّار الموت ملك المجد الأبدي. وإنجيلنا ليس لهذه الحياة فقط بل يتعلق بالأبدية ولذلك فقيمته غير محدودة. الغرض من جميع قوانيننا وأنظمتنا وعددنا بل وسائلنا وأساليبنا ما هي إلا صقالة لكي نبني البيت الأبدي غير المصنوع بالأيادي الذي في السموات.

إن الإنجيل ليس مخدراً يضغط في حلوق الفقراء والبائسين بواسطة الأغنياء والمتغطرسين. بل الإنجيل هو الإعلان أن الأشياء التي ترى وقتية وأن الأشياء التي لا ترى أبدية، وأننا نشترك الآن في هذا العالم المملوء بالظلم في آلام المسيح لكننا سنبلُغُ بالإيمان به إلى قيامة الأموات، فالمسيح هو الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء (فيلبي3: 21).

إن النعم الأبدية المذخرة لجميع المؤمنين في موت المسيح وقيامته كانت فرح الكنيسة الأولى ورسلها وقديسيها وشهدائها والمحرك العظيم لهم: لقد ربحوا العالم للمسيح لأنهم كانوا يحتقرون الدنيا، لقد أسسوا مملكة روحية في كل قطر لأن سيرتهم والوطن المحبوب كانت في السموات. ووضعوا أساسات الكنيسة في كل مدينة لأنهم كانوا "غرباء ونزلاء" وكانوا ينتظرون "المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله".

لا يوجد مظهر في الحق المسيحي أحوَج من هذا إلى زيادة التأكيد. وفي الحقيقة أننا نكون متقدمين في علم اللاهوت إذا حملنا رسالة المسيح المقام والحياة الأبدية هذه على العالم غير المسيحي. إن رسالة إنجيل المسيح عن العالم قد أحرزت تقدماً عظيماً في السنين الأخيرة. ويجب علينا في هذه الأيام أن نضع أعظم ما يمكن من التأكيد على ما في الإنجيل من التعاليم عن الأمور التي تختص بالأبديات. وينبغي للكنيسة أن تنادي بهذه الحقيقة أن ملكوت الله قريب وأن الله سيأتي بسلطانه المطلق للدينونة وللفداء، وأنه يلزمنا أن نجهز نفوسنا في الداخل لمجيء المسيح. وهذه حقيقة رسالتنا بل الإنجيل الأبدي عن يسوع المسيح الذي جاء إلى العالم ومات على الصليب وقام من الأموات وسيأتي ثانية.

فمن بيت لحم ومن الصليب ومن القبر الفارغ ومن السحب التي حجبته عن النظر يشع نور الأبدية. إن الدائرة العظيمة التي تشمل مجمل إيماننا ورسالتنا للعالم يمكن امتدادها إلى أبعد مدى ممكن ولكن يكون لها دائماً كما كان لها في الماضي نقطتان مهمتان- موت يسوع المسيح وقيامته وعلاقتهما بخطية الإنسان وبنصيبه الأبدي. هذا هو إنجيل القيامة.

هل كل ذا أتيتهُ يا رب من أجلي

فكيف لا أحبكا يا رب بالفعل

هل كل ذا تفعله بقوة وبأس

ونحن نبقى ضعفاءْ أو يعترينا اليأس

هيَّا جميعاً نشكر الـفادي ونحمد

أحمالنا نلقي له من ثم نسجد

نعطي له قلوبناوالشكر نرفع

في الحزن أم في الفرح أم في الضيق نخضع

وهكذا في عيشنا من ثم بعد الموت

نشدو له تسبيحنا دوماً بأعلى صوت

في العيش أم في الموت في الحزن أو في الاثم

مسيحنا يكفي لنا إذ قال هذا قد تم

مسيحنا آخرنا وإذ كان في الأول

في البدء كان الكلمة وفي السما الأكمل.

  • عدد الزيارات: 4194