الفصل الخامس: "اقتسموا ثيابه"
(مز22: 18مت27: 28و 35 مر15: 24 لو23: 34 يو19: 23و 24)
إن ما نراه هنا هو روح الحكمة الأزلية. السر الكائن في قرارة الحياة أنه الكلمة الذي يتخلل كافة الأشياء بصورة دائمة. أنّى ما نظرنا نرى- وراء رداء الطبيعة وجلباب الفن، وراء الدين والعلم بل وراء الجمال والحب في ربوات أنواعه- نرى هذه القدرة الفائقة محتملة إلى النهاية، معصورة بالألم ومنهوكة إلى دركة الضعف والصغار لأجلنا غير مبقية على أمر قد تنال به أرواحنا الضالة نوراً أكثر. إن اللاهوت المطلق واللامدرك الذي في فكره نسكن هو المعرّى هنا عن ثيابه والمعرّض لنظرات عيون خلائقه غير المدركين من أحباب وأعداء وأشرار وأخيار على السواء.
جون كوردليير
في كتابه "طريق الحكمة الأبدية"
تعرية المسيح!
إن البشراء الأربعة يشيرون إلى هذا الاختبار المريع الذي ذاقه مخلصنا يسوع المسيح- فيشير إليه مرقس البشير الذي هرب نفسه من الشبان عرياناً في البستان. ويشير إليه متى الذي يلاحظ أن هذه الحادثة كانت إتماماً مباشراً لمزمور مسيا القائل: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة. ويوحنا الحبيب يشير أيضاً إلى هذا المزمور الذي يعطينا أقصى وأتم وصف عن آلام الصلب "ثقبوا يدي ورجلي" "ينظرون ويتفرسون فيّ" "احصي كل عظامي".
ولا شك أن هذا الاختبار كان من أفظع الاختبارات المؤلمة لحاسيات المسيح بالنسبة إلى طهارته وشرف رجولته إذ يقول متى "فعرّوه" وهكذا عرياناً خرج من بطن أمه وعرياناً تعلق على خشبة العار.
لقد اختبر آدم الأول بمعصيته العري الجسدي والأدبي واتخذ آدم الثاني على نفسه شبه جسدنا الخاطئ ولذا فإن عليه عار عرْينا أيضاً.
والكلمة صار جسداً ورأى الناس مجده- وتفرسوا في عاره- ومع ذلك فقد كان هذا أيضاً مجده. إن مسيح الله عُرّي وكان هذا أقصى ذُله، إنه عرّي حتى ببره نكتسي نحن بالثياب البيض وعندما يعرّينا الموت لا نوجد عراة.
إن جميع كتاب الرومان مجمعون، في وصف طريقة الصلب، على أن المقضي عليه بالصلب يُعرَّى. وسمعنا أن اليهود كان يسمحون بإعارة مجرميهم سترة يتزرون بها، وهكذا قضى عُرف الفن في تصوير هذا المنظر المريع. ومع ذلك فيلزمنا أن نضيف إلى هذه الصورة المحزنة أفظع إهانة احتملها المسيح ألا وهي عري رداء العفة والحياة التي خافها حتى القديسون في استشهادهم، والتي فزع منها بعضهم غماً وألماً.
هكذا تألم المسيح! ونحن الذين وضعنا هذه الألوان القاتمة في هذه الصورة، يلزمنا ألا نمر بها دون ما اكتراث.
على أن لهول الصليب الذي اختبره المسيح مظهرين: الألم الجسداني والألم النفساني. فألم الجسم من جراء الجلد الفظيع وتسمير اليدين والقدمين وعطش الحمى واختلاج الأعصاب يعذّبها حمل الجسد المكسور الراغب في الانطلاق. وألم الروح لكونه رُفض من خاصته وعرّي من ثيابه وأُحصي مع أثمة وصار تحت لعنة الخطية ومحتقَّر زميله في الألم. فلا عجب أن ظلمة من السماء قد كللت الأرض وسترت خاتمة هذا المنظر المريع.
وقد أثبتت صرخته المرّة لجميع الناس في جميع العصور أن آلام روح المسيح كانت روح آلامه.
يا من تمرُّ من هنا هذا هو الإنسان
بل رجل الحزن الذي قد صالح الديّان
هذا هو الذي لنا قضى على الصليب
وحمل الله الذي قد رفع الذنوب
إذ قيّدت أوصاله للبصق بل للعارْ
وسمَّرت أطرافه جماعةُ الفجار
واقتسمت ثيابه الـ حرّاس والعسكر
وعرَّضت حياءَه للخزي والنظر
فصار عرياناً عريِ[1] بل صار متزرْ
إذ سال من جراحهدمٌ حرى وقرْ
وهنا عندما نتأمل في مظهر موت المسيح تستلفت أنظارنا ثلاثة أفكار: أن المسيح عرّي كلية على خشبة العار، وأن العالم ما يزال يعرّي يسوع المسيح ثم يقتسم ثيابه مقترعاً عليها، وأن المسيحي ينبغي له أن يعرى على صليبه. قال مرة مفكر نابه: "إنك لن تستطيع أن تحب يسوع بلا ثمن، ولن يمكنك أن تقابل الصليب دون دفع الثمن سواء قبلت أو أبيت فإن المقاتلة (المبارزة) تترك وراءها جرحاً على الأثر". وطبعاً كان هذا الفكر نتيجة التأمل في تعرية يسوع هذه.
إن أعمق معاني التجسد تظهر على الصليب. ولبولس الرسول كان الصليب نهاية اتضاع المسيح إذ يقول: "وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب". وهنا الجواب عن سؤال الأبرار في يوم الدينونة العظيم: "يا رب متى رأيناك عرياناً؟" فهو لم يخف شيئاً. قال أيوب في يأسه: "هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئاً". أما يسوع فيقول: "هم يقتلونني، أما أنا فأريهم كل ما في جنبي الدامي ويديَّ ورجلي. "احصي كل عظامي. وهم يتفرسون فيَّ".
إن الملك هنا ليس في مجده بل في عريه للجميع على السواء الشعب والعسكر، الكهنة والتلميذ الحبيب، أمه الحنون والنساء التابعات. إن "الله ظهر في الجسد" ولكن في هوان. وهل يستطيع أحد غير الذي عاين أن يكتب تلك الكلمات الواردة في الرسالة إلى العبرانيين "هم يصلبون ابن الله ويشهرونه" فلا عجب أن أنزل الستار في وسط هذه المأساة، "فكانت ظلمة على الأرض".
وإذ مات المسيح الخالق الـ أسمى عن الإنسان
فحسناً تحتجب الـ شمس عن العيان.
ولكن يسوع لم يقتصر في يأسه وألمه على احتمال الصليب وإنما احتمله مستهيناً بالخزي من أجل السرور الموضوع أمامه.
في هذه اللحظة- كما ورد في إنجيل لوقا- قال يسوع: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون".
وُضع فوق رأسه عنوان السخرية الذي كتبه بيلاطس استهزاء به- "هذا هو ملك اليهود"- ملك بلا أرجوان، عرشه الصليب، والعسكر يقسمون ثيابه بينهم وعلى لباسه يقترعون.
هل يستطيع أحد أن يستحي من يسوع أو يصلبه ثانية ويشهره بعد كل هذه؟
على أن هذا المنظر كان نبوياً أيضاً إذ مضى تسعة عشر قرناً ونيف والمسيح ما يزال يصلب ثانية ويشهر.
عند الصليب زمرة من عسكر الرومان
اشتجروا تحت يدي رب الفدى المنان.
وبعد ذا تصالحوا لضرب قرعة
على قميص من أتى للصلب والهوان
أواه من ظلم لكم أيها الجنود
إذ تنظرون الأرض قد مادت من الأركان
وتسمعون قوله اغفر لهم الآن
وتقسمون ثوبه وهو العلي الديان
وماذا كانت ثياب يسوع؟ "يا رب إلهي قد عظمت جداً. مجداً وجلالاً لبست. اللابس النور كثوب" العالم رداء جلاله، والسموات الشقة التي تحجب مجده، والسحاب مركبته. لأن يسوع إله حق من إله حق ويوحنا الحبيب لا يحجم عن أن يقول: كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.
كل جمال الطبيعة الرائعة صنعة يديه- قميصه المنسوج بالمجد والجلال دون خياطة- توحيد الكائنات يشهد لتوحيد الباري. وأن العلم والفن لا يستطيعان إلا أن ينظرا ويتأملا في الجمال والنظام اللذين كانا في الطبيعة من البدء، لأن يسوع هو مبدع كليهما، بل أن غروب الشمس الأحمر ليذكرنا بدم الصليب القاني. إن الفنون الجميلة- النحت منها والتصوير والهندسة المعمارية والموسيقى- تدرّجت في مراقي الحسن والكمال بتأثير حياة المسيح وموته. ومع ذلك فكم من مرة نرى المصور والموسيقى يعريان يسوع من ثيابه لمجرد تصوراتهم الشخصية ثم يتركانه معلّقاً بالعري والهوان. وهاك دارون في كتابه "أصل الأنواع" يحاول أن يشرح أصل الإنسان ومقامه في الطبيعة، ولكنه يتجاهل في بحثه "ابن الإنسان". فما هو أصل يسوع؟ أنه يوجد عالم آخر- وراء هذا العالم الواقع تحت نظرنا وإدراكنا- لا يدخله العلم وليس له من طريق أو مفتاح؛ فإذا نحن عرينا الخليقة من الخالق بشرح نواميسها كافة من دونه تعالى هل يجعلنا هذا أكثر غنى أم يتركها أشد فقراً؟ قد يقولون في أورشليم هوذا الإنسان الذي يلبس قميص الناصري الذي بدون خياطة؛ ولكن هل وجد هذا الإنسان الطريق إلى قلب يسوع؟
حقاً أن العلم المجرد ليس له مكان للاعتبارات الأدبية وكما يقول جيمس آدمز: "إذا كنا نعتنق كلية وبإخلاص مبادئ العلم المقبولة فإنا نهدم في الحقيقة جميع الاعتبارات في الحياة البشرية. وها الفنون الجميلة قد بدأت تظهر هذا التأثير المتلف- ففي الرواية مثلاً ما فائدة الكتابة عن الأخلاق إذا لم يكن هناك شيء يدعى بهذا الاسم، أي إذا كانت الشخصية خرافة وحرية العمل حلماً، إذا كان كل ما نحن عليه هو مجرد حالات عقلية متتابعة دون ما أهمية كوهيج ضوء الفوسفور على الخشب البالي".
والفلسفة أيضاً قد عرّت يسوع فإن الفلاسفة يبحثون- بحكمة أو بلا حكمة- نفس المعضلات التي أتى لحلها وقد حلها نفسه، ثم يتركونه خارج نطاق أبحاثهم. فهناك كتاب فلسفي اسمه "المعضلات والفلسفة الحديثة" يقع في 575 صفحة ومع ذلك فقد خلا من أية إشارة إلى يسوع المسيح مع أن المسيح جاء ليجيب عن الأسئلة الأصلية للفلسفة مثل: من أين جئنا؟ لماذا نحن ههنا؟ ما هي طبيعتنا الحقيقية؟ ما هي نهاية غرضنا؟ ما هي الحياة؟ ما هو الموت؟ ما هو سر الألم؟ وما هو رجاء البشرية؟ ألا نرى أن سبينوزا وهجل وشوبنهور وكنت وهكسلي وسبنسر وبرجسون وباقي الفلاسفة إنما يقترعون على قميص المسيح؟
والأدب العصري أيضاً يغتصب من يسوع موعظته على الجبل ولكنه يرفض أن يصعد إلى الصليب. وأن أولئك الذين ما دخلوا قط معه بستان ولا رأوا صليبه يتشدقون كثيراً عن أخ أكبر وعن أبوة عامة ولكنهم لا يعرفون قيمة ذلك. واللاهوت العصري والهندوسية الحديثة واليهودية العصرية تحسد بل تطلب أدب يسوع الاجتماعي ولكنها تنكر لاهوته بتاتاً. وفوق ذلك فإن كل ما هو جليل، كل ما هو حق، كل ما هو شريف في هذه الديانات العصرية والفلسفات المستحدثة إنْ هو إلا ثوب مستعار أخذته عن المسيحية وادّعته لنفسها مثلما "أن العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام لكل عسكري قسماً".
والاشتراكية تبشر بإنجيل اشتراكي ولكنها تنسى أن ذلك الإنجيل الاشتراكي ولد في بيت لحم وأن حقوق البشرية ختمت بالدم على الجلجثة. والصليب الذي كان سابقاً رمز العار والجريمة أصبح بفضل من تعلق عليه رمز المساواة والسلام والمحبة وعنوان الشجاعة والولاء والاستشهاد. كيف نستطيع أن نتكلم عن الخدمة الاجتماعية ونترك وراءنا يسوع؟ إن الإنسان عندما يزور مستشفيات الصليب الأحمر والملاجئ المسيحية ودور البائسين ومراكز رعاية الأطفال ليصرخ أحياناً من أعماق روحه قائلاً مع مريم: "إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه؟" أجل إن الرمز موجود ولكن المسيح قد تُرك خارجاً وليس له مكان فيها. وقد اعتدنا كمسيحيين أن نرسل تهانينا بعيد الميلاد ولكن كثيراً ما لا توجد على بطاقات هذه التهاني أدنى إشارة إلى رسالة الميلاد التي تخبر بتجسده بوضوح وجلاء. نعم، فالثياب موضوعة ولكن يسوع ليس موجوداً والناس يقترعون على قميصه بينما هو معلق على الصليب وحيداً عرياناً منبوذاً "وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء" (مت27: 31).
فلا عجب إذا وجدنا في طقوس الكنيسة اليونانية عن الآلام- أن الكهنة بعدما يعددون آلام مخلصنا واحداً فواحداً ويطلبون الرحمة بعد كل واحد يختتمون الخدمة بهذه الطلبة "بأحزانك غير المعلومة لدينا وآلامك التي شعرت بها على الصليب ولكن لا ندركها نحن بجلاء ارحمنا وخلصنا".
ونحن نحتاج إلى هذه الطلبة، فإن المسيحي أيضاً يُعرّى على صليبه كما عُري المسيح على الصليب وليس التلميذ أفضل من معلمه. عندما نعلو صليبنا يرانا الناس كما نحن حقيقة؛ فإن الضيق ينشئ صبراً والصبر تزكية وعلى قنطرة الموت المريعة لا يمر شيء عدا الشخصية عارية. وهنا يصف كارليل الكاتب المشهور جميع البشرية كواحد وشبه واحد غريب عندما نعرى عن ثيابنا وحلينا- أي من شارة المجد والمنصب وعظمة المكان التي تجعل ذلك التمييز. وليس في الحياة شيء يعلن قرارة الأخلاق أكثر من الألم. فإن النار تفصل؛ أما الصلب فيكشف ويعلن. صُلب يسوع البريء وجستاس وديزماس المجرمَين. ولكن واحداً مات في الخطية، والآخر مات للخطية، والأخير مات عن الخطية. فالأول مجدف والثاني مؤمن والثالث مخلّص. واحد مات ففقد حياته، وواحد مات فوجد حياته، وواحد مات فأعطى حياته. على الصليب يرانا الله والناس كما نحن لأن الموت يعرّينا من كل شيء عدا الروح الداخلية، فيذهب كل رداء تستتر وراءه النفس. وعندما نقف أمام كرسي القضاء نقف عراة كما قال أيوب "عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى هناك"، "كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا" عندما نعبر قنطرة الموت.
ولذلك فإننا عندما نتفرس في المخلص على الصليب "نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء. وإن كنا لابسين لا نوجد عراة"، و"طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عرياناً فيروا عورته" (رؤ16: 15). ومن بين التطويبات السبع الواردة في سفر الرؤيا نرى أن هذه أكثرها إهمالاً.
وليس للفعل "مَلَكَ" مكان في السماء لأن الفعل "صار" قد لاشاه منها؛ فنحن لا نملك هنالك بل (نصير) ملكاً أبدياً "هؤلاء المتسربلون بالثياب البيض من هم؟" هم لابسون ثوب بر ليس لهم. وفي وسط ربوات أولئك الجماعات قد وقف ذاك الذي عُري على الصليب، ولكننا نراه الآن "متسربلاً بثوب إلى الرجلين ومتمنطقاً عند ثدييه بمنطقة من ذهب".
سأل مرة المصور ووتس صديقه فردريك شيلدس أن يصف الألوان الحقيقية لثياب الإيمان فقال: أن الإيمان هو توكيد الأمور السماوية للبشر المسجونين بالأمور الجسدانية ولذلك فإن جناحيه ودثاره بلون السماء أما ثوبه فأبيض نقي، وذلك لأن الذين يطلبون البر بأعمالهم يخيبون مما لا يستطيعون أن ينالوه إلا بالإيمان فقط. وهكذا عندما نلبس ملابس الملك البيضاء نفهم أخيراً المعنى الروحي والرمزي لهذه الكلمات.
"اقتسموا ثيابه بينهم".
[1] -معرّى
- عدد الزيارات: 3689