Skip to main content

الفصل الثاني: "نحن لم نتبع خرافات مصنعة"

إن الديانة المسيحية هي مسألة عملية للحياة لا مجرد معرفة عقلية، و "البار بالإيمان يحيا"، ومع ذلك فإنه لمن الأهمية بمكان البرهنة على حقيقة ظروفها. وهنا ينبغي للمرء أن يذكر أن المسيحية لم تنشأ على كذبة. إننا نستطيع أن نبرهن ذلك كما نؤمن به فإن الأسباب التي تعرضها لأمر منشأها قابلة للفحص طبق مبادئ التاريخ المسلم بها، كما قد تبرهنت حقيقة معظم هذه الأسباب بواسطة التقدم في مضمار الاكتشافات الأثرية. وعدا ذلك فلا يزال مجال العمل واسعاً والبراهين ما تزال متوفرة إذا ما ثابرنا على الفحص وبحثنا عن هذه القرائن"

السير وليم رمزي

في كتابه "الاكتشافات الحديثة وصحة وقائع العهد الجديد"

إن الذين يؤمنون بما أوحى به الله في البشائر الأربعة عن ابنه لا يشكون في صحة الحقائق الواردة فيها لأن الروح القدس يشهد لهم بحقيقة وقوعها؛ وهم يعرفون مع بطرس الرسول إن كل الحوادث الواردة عن آلام السيد وموته وقيامته المجيدة ليست "خرافات مصنعة" بل حقائق واقعة. فبطرس الرسول كان شاهد عيان لآلام المسيح، ومرقس البشير كان تلميذاً له (لبطرس)، ويوحنا الحبيب يقول بما سمع بأذنيه ورأى بعينيه ولمس بيديه (1يوحنا1: 1)، ومتَّى كان أحد الرسل الإثني عشر، ولوقا يقرر كيف بحث بتدقيق "ممن كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة" ليكتب في هذه "الأمور المتيقنة عندنا" "لنعرف صحة الكلام".

ولكن في عصر الارتياب هذا والانتقاد التاريخي ينبغي لنا أن نواجه أولئك الذين ينكرون وقائع الإنجيل وصحتها. فبعضهم يخبرنا أن يسوع المسيح إنما هو شخص خرافي (كذا)، وترجمة حياته إنما هي "خرافات مصنعة" ترجع أصولها إلى ما ينافسها من خرافات الرومان واليونان والمصريين الأولى. وقد أنكر الغنسطيون الأولون قديماً وقوع موت المسيح لأسباب مذهبية. ويعتقد البعض منهم أن يهوذا الأسخريوطي هو الذي احتمل العقاب وأن الله أنقذ المسيح من هذا الموت الفظيع بأن شبه له.

أما نظرية ستروس الملحد وغيره من جماعة العقليين بأن جسد المسيح قد أنزل من على الصليب قبل حدوث الموت ثم أنعشته الأطياب في القبر، فقد قبلها بعض الناس العصريين.

ما شــهدناك عيــاناً

 

ربــنا فوق الصليبْ

وســط أعـداء غلاظ

 

سـمروك يا حبيـب

أو سمـعنـاك تنــادي

 

بصـراخك المذيـب

لا تجـازهـم إلـهـي

 

أُعـفُ عنهم يا مجيب

غـير أنـنا نقـــول

 

بالصـليب للأنــام

إذ له شـقت صـخور

 

والدّنا صـارت ظلام

ولكن لماذا نؤمن بهذا؟ ينبغي للإيمان أن يكون مدعوماً بالدليل والبرهان، وهنا البراهين عديدة. إنه لما يقوي إيماننا أن ندرس هذه الحقيقة. أن موت المسيح على الصليب لم يكن شيئاً غير منتظر بل قد سبق وأنبئ بوقوعه بوضوح في النبوات. لا حاجة لذكر آلام فتى يهوه الواردة في اشعياء؛ لا حاجة إلى ذكر مزمور المسيا العظيم الذي يصف موت المسيح أو إلى ذكر تفاصيل تسليمه وموته الواردة في النبوات الأخرى- فكل هذه معلومة لدارسي الكتاب المقدس إذ قد رمت هذه الحادثة الجليلة ظلال وقوعها قبل ذلك بقرون. ويوحنا المعمدان بقوله "هوذا حمل الله" إنما لخص كل معنى تعاليم العهد القديم إنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" وأنّ حمل الله يجب أن يذبح لأجل خطية العالم. وإننا لنفقد مفتاح العهد القديم عندما ننكر أن "المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب" بل نفقد المفتاح لسر الذبائح الدموية كفارةً عن الخطية بين كل شعب وفي كل عصر. نقرأ في نبوءة اشعياء "وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا وبحبره شفينا".

لم تكن حادثة موت المسيح على الصليب مأساة غير منتظرة من المسيح نفسه ولا خيبة لآماله أو مانعاً لأمانيه بل على النقيض من ذلك كان هو ذاته يعلم بتلك الساعة ويترقبها وطالما أكد حقيقة وقوع هذه الحادثة المريعة. كان من بدء خدمته يرى ظلها القريب؛ حتى جعل قانون التلمذة له حملَ الصليب. وفي عماده حسب الذي لم يعرف خطية نفسه مع الأثمة وبعد إعلان مسحته و "من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي له أن يذهب إلى أورشليم ويقتل" و "ابن الإنسان سوف يسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم". بل إن الشهور الأخيرة من حياة المسيح على الأرض لتمتاز- حسب نص الأناجيل- بتعمده ومحاولته ثلاث مرات أن يعلم تلاميذه البطيئي الفهم عن يقينية موته الأليم العتيد وأهميته.

إن تفاصيل حادثة الصلب التي يذكرها أولئك الذين- في بعض الأحايين كانوا شهود عيان- لا تترك مجالاً للشك في حقيقة وقوع الموت. إنهم ليشهدون بصحة وقوعها بأشد عبارة كأنهم كانوا ينتظرون وقوع الشك في حقيقتها في المستقبل. فمرقس البشير يقول: فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح قال حقاً كان هذا الإنسان ابن الله" (مر15: 37و 39). ويوحنا الحبيب يصف كيف أن "واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء" ثم يقول "والذي عاين شهد وشهادته حق وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم به". وليست هذه كلمات رجل ساذج أو مخدوع فإن قائد المئة قد أبلغ بيلاطس رسمياً مقرراً موت المسيح (مر15: 14)؛ ويوسف الرامي أخذ المسيح الميت وكفنه بالكتان ووضعه في القبر؛ وكانت مريم المجدلية ومريم أم يسوع تنظرانه. ليس بين كتَّاب العهد الجديد فرد ألا ويقرر وقوع موت المسيح، كما أنه ليس في ثنايا سفر أعمال الرسل صوت قد ارتفع بالشك في صلب المسيح. أجل لم يُسمع مثل هذا الصوت إلاَّ بعد مضي عدة عصور فجرؤ البعض على أن يشكوا في هذه الحقيقة التاريخية ويعلّموا الناس "خرافات مصنعة". ولكن العلاَّمة الحاخام كلوزنر وهو عالم يهودي عصري قرر في كتابه الأخير عن يسوع الناصري- بعد انتقاد مر لوثائق هذه المأساة- أن الأناجيل هي سجلات معتمدة، وأن يسوع الناصري قد عاش ومات وفاقاً لنصها.

كذلك جمع صموئيل ستوكس منذ بضع سنين الوثائق اليهودية والوثنية الدالّة على صحة التآليف المسيحية[1]. وربما يوجد أناس يصدقون أقوال بليني وتاسيتوس ولوسيان ويوسيفوس وحتى كلسوس لأنهم- وإن كانوا غرباء جميعاً عن المسيحية- يؤيدون الإنجيل الذي فيه يشكون. فتاسيتوس[2]يقول في كلامه عن حريق رومة في سنة 64م وعن الوسائل التي استعملها نيرون ليزيل عن نفسه شبهة إحراق المدينة أنه لكي ينجح في (كتم) هذه الإشاعة حبس في قصره أولئك الناس المكروهين لدى العامة لجرائمهم السرية كمجرمين وعاقبهم بجميع ضروب العذابات الوحشية فقال: "أما أولئك الناس فكانوا يلقبون أنفسهم بالمسيحيين نسبةً إلى شخص اسمه المسيح كان قد حكم عليه الوالي بيلاطس البنطي بالقتل في عهد طيباريوس قيصر. فتوقف سريان خرافات المسيحيين الوبائية في جسم الإمبراطورية مدة من الزمن ثم عادت فانتشرت ليس في اليهودية فقط حيث نبع هذا الشر بل في روما نفسها حيث تلتقي جميع أنواع العار وضروب القتل والجرائم وتصير عادية. ففي الأول كان يلقي القبض على البعض ويكرهون على الاعتراف، وبإقرار هؤلاء كان يلقي القبض على أناس كثيرين ويحكم عليهم لأجل عدائهم للجنس البشري أكثر من كونهم قد تعمدوا إحراق المدينة ليس بالإعدام فقط بل بالقتل مع صنوف العار والهوان. وكانوا يلبسون جلود الوحوش ويتركون لافتراس الكلاب المجوّعة أو يعلقون على صلبان أشعلت فيها النيران ومتى زال نور النهار يحرقون كمشاعل تنير دجى الظلام" (كذا) ويقول لوسيان الذي ولد في ساموسطا في سنة 100م[3]في إحدى كتاباته المسماة "موت بيريجرنيوت" ما يأتي: "أن المسيحيين لا يزالون يعبدون ذلك الرجل العظيم الذي صلب في فلسطين لأنه أدخل إلى العالم هذه الديانة الجديدة... وأن هؤلاء المفتونين قد أقنعوا نفوسهم بأنهم لن يموتوا بل يخلدون إلى الأبد. ولهذا السبب تراهم يستخفون بالموت وكثيرون منهم يسلمون أنفسهم طواعية واختياراً، كذلك فإن مشرعهم الأول قد علمهم أنهم جميعاً أخوة الواحد للآخر حالما ينبذون آلهة اليونان ويعبدون ذلك الصوفي المصلوب ويعيشون حسب شريعته".

إن تاريخ يوسيفوس في أحوال كثيرة يدعم ترتيب الإنجيل التاريخي. فإن "هيرودس الكبير وأرخيلاوس ابنه وهيرودس انتيباس وهيروديا وابنتها سالومي ويوحنا المعمدان وحنان وقيافا وبيلاطس البنطي وفيلكس الوالي وزوجته اليهودية دروسلاَّ وفستوس وهيرودس اغريباس وبرنيكا والفريسيين والصدوقيين جميع هؤلاء يظهرون في تاريخ يوسيفوس في نفس العلاقات الواحد للآخر التي نقرأ عنها في كتابات العهد الجديد.

أما كلسوس الأبيقوري فكان من ألد أعداء المسيحية حوالي سنة 170م. ولذا فهو يشير باستهزاء في كتابه المسمى (البحث الحقيقي)- كما ورد في دفاع أوريجانوس- إلى آلام المسيح بقوله: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" ويتكلم عن الذين صلبوه بقوله: "أولئك الذين صلبوا إلهكم" ويهاجم الاعتقاد المسيحي القائل أن المسيح "احتمل هذه الآلام لأجل خير البشرية" ويشير إلى الملائكة الذين ظهروا عند قبر يسوع ويتكلم عن الملاك الذي دحرج الحجر عن باب القبر، ويحاول أن يظهر جهالة اعتقاد المسيحيين بقيامة الجسد ويضحك على قول المسيحيين: "صلب العالم لي وأنا للعالم". فهذه الشهادة لموت وقيامة الرب من أحد أعداء الإنجيل لها أهميتها الخطيرة.

وهنا لا نستطيع أن نختم هذا الفصل إلا بالقول أنه إذا كان ثمة من دليل على حادثة في التاريخ البشري فإن هذا الدليل هو على حادثة صلب يسوع المسيح. وفوق ذلك فإن لنا برهاناً قوياً آخر في ممارسة خدمة العشاء الرباني وحفظ يوم الرب، فإن كسر الخبز وشرب الكأس يرجعان بنا إلى الليلة التي أسلم فيها السيد؛ وأن ممارستها العامة في جميع الكنائس المسيحية، على الرغم من الاختلافات في أنظمة الطقوس وشروحات الخدمة، لبرهان ضمني على موت المسيح. وممارسة هذه الفريضة بكيفية دائمة هي نوع من البرهان التاريخي الذي لا يمكن نقضه.

لقد قال السيد المسيح أنه "رب السبت أيضاً" وأثبت هذه الحقيقة بواسطة كنيسته إذ بدأت تحفظ- بعد موته وقيامته حالاً- اليوم الأول من الأسبوع بدلاً من اليوم اليهودي السابع. وهكذا فإن يوم الرب نفسه هو برهان على موت المسيح وقيامته.

إن لكلٍ من الأديان الكبرى شاراتها الخاصة بها كالنجم لليهود وزهر البشنين للبوذيين، أما المسيحية فشارتها الخاصة هي الصليب.

ولكن كيف صار هذا الصليب رمز الشرف والشهامة بل الرحمة والرجاء بعد أن كان علامة للانحطاط والاستهزاء بل للعار والجريمة وألم اليأس؟ لا جواب عن ذلك إلا بقبولنا هذه الحقيقة أن المسيح قد تعلق ومات على خشبة الصليب وافتدانا من لعنته.

وأخيراً إذا كان يوجد بعد كل ما تقدم من لا يزال في شك بتاريخية هذه الحقيقة الجوهرية لتعاليم العهد الجديد فلنا شاهد قوي في سراديب المسيحيين الأولين وقبورهم إذ نرى هنالك الأحجار الصماء تصرخ قائلة: أن المسيح قد مات.

بل أعجب من كل ذلك ما أخبرنا به أمرسون الفيلسوف الأمريكاني المشهور عن كارليل الكاتب الإنكليزي القدير أنه قال وهو يشير بسبابته إلى كنيسة بلدته في اسكوتلاندا لدى أول مقابلة لهما: "لقد مات المسيح على الصليب- فبنيت هذه الكنيسة- فالتقينا معاً. فالصليب هو محور الأزمة؛ وهذه تقاس قيمتها بالنسبة إلى بعدها عن ذلك المحور أو قربها منه".

وبعد فهل نحتاج إلى براهين أخرى لإيماننا. إن غرور الإلحاد لم يستطع أن يسير إلى أبعد من تلك النظريات التي قدمها لإنكار تاريخية التعليم المسيحي على حياة ربنا يسوع المسيح وموته وقيامته. ولكن المسيح مات وقام حسب الكتب؛ وقد أنبأ الأنبياء بموته وسجَّل الرسول مأساة صلبه، بل إن الكتاب المقدس بجملته يتجه نحو الفداء، وكل أسفاره تشهد لمخلص أُميِتَ ورب أقيم. إنّ لبّ بشارة الكتاب المقدس هو الجواب عن السؤال الذي سبق أيوب فسأله مرتين- كيف يتبرر الإنسان عند الله؟ والجواب- بواسطة موت المسيح الكفاري فقط. ليس من طريق آخر ولا من إنجيل آخر. فإذا كان إيماننا هذا خطأ كانت مسيحيتنا بجملتها باطلة لأن البشارة الوحيدة التي لنا هي أن المسيح قد مات من أجل خطايانا وقام لأجل تبريرنا. نعم، وإن كنا

ما وقفنا عند قبرك     أو سألنا من ملاك

أين أنت يا يسوع     هل نقلت من عداك

ما جلسنا في رواق    أو شهدنا رفقاك

يرفعون الطرف لما    جئت ترقى للسماك

غير أننا نقول          بالصليب للأنام

إذ لنا الأملاك قالت   "هللويا الرب قام"


[1] -انظر كتاب شهادة قدماء الوثنيين لصحة كتاب لله الثمين.

[2] -"مؤرخ مشهور ومن أفصح خطباء الرومان، ولد نحو سنة 55م.

[3] -هو أحد أعاظم مؤلفي اليونان وأشدهم حذقاً وأصالة رأي. ولا عجل فهو سامي الجنس لا التربية، روماني التبعة لا الوطنية، يوناني اللغة لا المولد وقد أحاطت به ظروف مكنته إلى حد كبير من أن يتحرر من كل قيد وعلاقة بل من أي حائل جنسي كما ساعدته أسفاره العديدة على غزارة مادته ومطالعاته الكثيرة على الاستشهاد بكتب القدماء لإيضاح عباراته أو إثباتها. وكان يرمي في كتاباته على ما يظهر- وهي عبارة عن محاورات كتبها بلغة يونانية فصحى تناول فيها مختلف المواضيع وأساطير القدماء والفلسفة والتاريخ- إلى رد الناس عن معاصيهم وخرافاتهم وتقليل إعجابهم بمهازل المتحذلقين وسفسطة المتفلسفين بلهجة انتقادية هجائية مضحكة. على أن بعضها كان ضد الدين والآداب على خط مستقيم.

  • عدد الزيارات: 4938