الفصل التاسع: "أراهم يديه"
رب هبني من جراحك قوة كي أحتمل
عندما تدمى يدي أو أرى "النير" ثقل
مد لي كلتا يديكا ثم لي قل ذا المقال:
"قوتي في الضعف تكمل" قم وأسرع في القتال!
إن رأيت الضعف أوهى عزمتي وسط الجهاد
أو رأيت اليأس أوحى لي هروباً من جلاد
من لي رجلي شخصك كي أرى ثقب الحديد
ثم قل لي: قم تعال لا تكن غراً عنيد
آه ربي كيف أخجل أن ترى هذي اليدا
أو ترى إبطاء رجلي عن لحاق بالعدى
برنتون ثوبرن بادلي
يشير بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبي إلى مراحل نموه في الصداقة لشخص يسوع. فإن معرفته بالمسيح أتت عن مصادر مؤلمة من الأعداء والأحباب على السواء. ثم في طريقه إلى دمشق رأى المسيح واختبر "قوة قيامته" وفي ما بعد صارت له الحياة هي المسيح وأخيراً يتكلم عن "شركة آلامه" كالغرض الأخير لهذه الشركة لكي يتمثل به في حياة تضحيته ويشاركه في كأس آلامه ثم في موته لأجل الآخرين.
وهكذا حبيب المسيح يرى أن ظل الصليب هو أطول ظل في العالم، إنه يمتد إلى جميع العصور وسائر الأقطار بل ويقع حتى على صباح يوم قيامة المسيح.
"سلام لكم ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه" إن يسوع المسيح لن يخبئ آثار جراحه كي يربح تلاميذ. إنه يحمل في جسده الممجد آثار آلامه وهذه تثبت حقيقة شخصيته وتعلن غلبته، وهي شارة سلطانه كمخلص وملك. "ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم كما أرسلني الآب أرسلكم أنا".
وقد أفلح ثرْ ولدسن النحات الدانيماركي في إظهار هذا المنظر الجليل على الرخام حيث ترى واقفاً في وسط الكنيسة الكبرى في كوبنهاجن هذا التمثال المرمري للمسيح المقام، بيدين ممدودتين وقد ظهر فيهما آثار ثقب المسامير وهو يرسل تلاميذه برسالة السلام هذه. وعلى كل جانب من جانبي الكنيسة ترى ستة أشخاص يمثلون التلاميذ الإثني عشر. وقد أخذ بولس بينهم محل يهوذا الاسخريوطي. وإن رؤية هذه الجماعة كما هي ممثلة في هذه الكنيسة لتترك أثراً عميقاً في العقل والقلب إذ ترى مسيحاً- لا على الصليب بل على أهبة الجلوس على العرش بالرغم عما ترى فيه من آثار المسامير والحربة. وقد قبض ذلك النحات الماهر على ناصية تلك الرسالة المزدوجة التي خرجت من شفتي المسيح كما وردت في إنجيل يوحنا "سلام لكم" "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا". لأن الصليب ليس علامة الكفارة فقط، بل مثَل القدوة أيضاً، إنه يهمس بالسلام في الداخل، ولكنه يدعو إلى الجهاد في الخارج، إن فيه دافعَ العمل، كما أن فيه رسالة السلام. وإن الذين أتيح لهم مرة رؤية الصليب في آثار جراح المسيح لن يستطيعوا أن يبقوا كما كانوا قبلاً: وهو (المسيح) مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام". فنحن لنا سلام بدمه ورسولية بقدوته.
وعجيب أن تكون آثار جراح المسيح هي الشيء الوحيد الذي أراه لتلاميذه بعد قيامته. بآثار جراحه عرفه التلميذان عند كسره الخبز في عمواس بعدما عجزا أن يعرفا هيئته أو يتعرفا إلى وجهه وصوته. بآثار جراحه أثبت للتلاميذ العشرة حقيقة شخصيته وأقنعهم بحقيقة قيامته. بآثار جراحه نبذ توما عدم إيمانه بعد ذلك بثمانية أيام وصرخ "ربي وإلهي". وأخيراً فإن جراح يديه وجنبه لهي عربون وخاتم سلامنا مع الله ودعوتنا للخدمة والتضحية دعوة لا تقاوم.
إن هين الشاعر الألماني يصور لنا آلهة العالم القديم وهم جلوس على عروشهم يتسامرون ويتفاخرون على عالم مستعبد؛ وإذا بفلاح حقير يدخل بغتة إلى مأدبة الآلهة وهو يترنح تحت صليب ثقيل فيلقيه بغضب على المائدة ويخرج، وعندئذ تيأس جميع آلهة الشهوة والظلم وتموت. إن آلهة العالم القديم هي كملاذ العالم الحاضر. وعندما يلقي المسيح صليبه في حياة أي شخص تموت كل شهوة الملاذ الكاذبة القديمة، وعلى أنقاضها تقوم حياة عجيبة جديدة أساسها اللذات المقدسة الأبدية.
ولنا في الإنجيل رسالة رباعية الهيئة من فم المسيح نفسه. فمتَّى ينبئنا بالسبب: لماذا يجب علينا أن نتلمذ جميع الأمم "دفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا"؛ ومرقس ينبئنا بالمكان: أين ينبغي أن نكرز "اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها"؛ ولوقا الطبيب يبين لنا ترتيب الكرازة: "بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم"؛ أما يوحنا فإنه يضرب على نغمة أعمق ويعلن لنا تلك الروح التي ينبغي أن تسود وتسيطر علينا "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" "ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مرسله". فنحن ينبغي لنا أن نشاركه في مهمته تحت نفس السلطة بنفس الرسالة محتملين أيضاً الآلام. كما يقول يوحنا الحبيب ببساطة مدهشة "إن ذاك وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الأخوة".
إن الصليب هو المحرك العظيم للخدمة؛ فليس على يسوع أن يُرى غير آثار جراحه ليربح لنفسه شهداء لدينه. "عندما ينظرون إليّ (أنا- أي المسيح) الذي طعنوه" "فيقول له ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول هي التي جرحت بها في بيت أحبائي" (زك12: 10و 13: 6).
ولما ظهر يسوع المسيح لشاول في طريقه على دمشق لا شك أن هذا قد رأى أيضاً آثار المسامير والحربة وسط النور الذي أبرق حوله بغتة من السماء قائلاً "لماذا تضطهدني؟"- أنا يسوع الذي أنت تضطهده"... "لأني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي". فلا عجب أن بولس الرسول يستعمل في اليونانية- عند كلامه عن خدمة الرسولية وآلام المسيح- كلمة غريبة لم ترد غير مرة أخرى في أسفار العهد الجديد وذلك في إنجيل لوقا عن الأرملة المسكينة التي ألقت في الخزانة من "أعوازها ألقت كل المعيشة التي لها" إذ يقول "الآن افرح في آلامي لأجلكم وأكمل نقائص (أعواز) شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة".
إن الألم كان لليهودي معضلة يجب حلها. أما للمسيحي فصار امتيازاً يجب الاشتراك فيه. فشاول اليهودي واجه مشكلة الألم في روح أيوب وأصحابه الثلاثة فكانت معضلة لا تحل. أما بولس المسيحي فقط رأى آثار جروح المسيح وتحقق أن خادم الله قد جرح لأجل معاصينا وسحق لأجل آثامنا ولذلك فإنه يكتب في رسالته: "لذلك أسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح".
إن مجد المسيح المقام لأجلنا هو أن نعرف آثار جراحه وأن نضع أصابعنا مع توما في أثر المسامير ثم نقول "الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام. لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" "ربي وإلهي". ألا يكون هذا أعظم فرح وأعمق اختبار لدى القديسين في المجد أن يركعوا ويروا آثار الجراح؟ فإن مريم لم تر في قدمي السيد عندما مسحتهما بالطيب آثار المسامير حتى تقبلها. بل إن هذه الآثار هي الأشياء التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها ولكنهم يخبئون وجوههم عندما ينظرون إلى جلال هذه المحبة وسر الفداء.
توجوا رب المحبة وانظروا الجرح بحربة
قد زهى في جبنِه
انظروا كلتا اليدين للفدا مثقوبتين
للورى من حبهِ
فالملاك في السماء إذ يرى ربّ الفداء
قد علا في عرشهِ
العين منه تُحسر والفزع منه يظهر
لدى جراح ربهِ
"أراهم يديه" هل أراكهما؟ لقد صرف فرنسيس الأسيسي ساعات طويلة للتأمل في آثار جراح المسيح حتى حمل في جسده "سمات الرب يسوع".
"عندما أراد القديس برنارد الأسيسي أن يتبع القديس فرنسيس قرّ رأيهما على وجوب الذهاب إلى بيت الأسقف وسماع القداس. فقال القديس فرنسيس بعد ذلك- نظل في الصلاة حتى الفجر طالبين من الله لدى فتح كتابه ثلاث مرات أن يرشدنا إلى الطريق التي يسره أن نتبعها".
فظهر في المرة الأولى تلك الكلمات التي قالها السيد المسيح لذلك الشاب الذي سأله عن الطريق إلى الكمال: "إذا أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء... وتعال اتبعني" (مت19: 21).
وفي المرة الثانية ظهرت تلك الكلمات التي قالها المسيح للرسل عندما أرسلهم ليكرزوا: "لا تحملوا شيئاً للطريق لا عصاً ولا مزوداً ولا خبزاً ولا فضة" (لو9: 3) وفي المرة الثالثة ظهرت تلك الكلمات الواردة في إنجيل مرقس البشير (ص8: 34) "من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني".
فقال القديس فرنسيس لبرنارد: "هوذا النصيحة التي يسديكها يسوع. فاذهب إذاً واعمل بما قرأت ومبارك هو ربنا يسوع المسيح الذي قد تفضل وأرانا الطريق لنعيش حسب إنجيله الشريف".
وهكذا كرّس هو وأخوته نفوسهم لخدمة الرب يسوع ذاهبين إلى مساكن المرضى وزائرين أماكن المعوزين مبشرين بالإنجيل. وكانت دائرة تبشيرهم تتسع تدريجياً حتى شملت الهراطقة وفوق ذلك فإن خلو باله من مشاغل العالم وفرحه في الخدمة وتواضعه في المعيشة وبساطته بل محبته للخليقة وشغفه العميق بخلاص بني آدم- هذه جميعها كانت سمات الرب يسوع.
ألمس اليوم الحقيرْ لمسةً من يدكا
واملأِ العيش المرير نعمة من عندكا
أعط للنفس سرور وامنح القلب العزاءْ
واقبلني يا قدير عندما أغشى السماء
"ثقبوا يديه ورجليه" وفي جسده الممجد تبقى هذه الآثار لأنها دعوة للتتلمذ وامتحان أمانة كل من يدعو نفسه مسيحياً.
حقيقة ما أصعب اتباع المسيح لأن مطاليبه صلبة وثابتة ولن يستطيع أحد أن يتتلمذ للمسيح إلا إذا ترك كل ما له؛ ومن لا يحتمل الصليب لا يلبس الإكليل.
إن يسوع المسيح لم يقل أنه شجرة البلوط أو شجرة الزيتون ولا حتى شجرة الرز بل قال أنه "الكرمة الحقيقية" وهي الشجرة الوحيدة التي تربط بالوتد وتدمى لتبارك. وكل غصن منها يحتاج إلى سكين المقلم وحيث يعمَّق جرح الغصن هناك فقط أمل بازدهار العناقيد.
إننا مدعوون إلى شركة المسيح ولكنها شركة آلام. والأرض هي الميدان المختار منذ الدهور للموقعة الحربية، الأخيرة بين قوات النور وقوات الظلمة.
ولما صاغ ربي في يديه شموساً ثم أقمار الفضاء
كذا الأرض التي نحن عليها حياها بين أجرام الفضاء
لكي تبقى مكاناً للذبيح وحيد الله خلاق السماء
إن شركة آلام المسيح هي الخلافة الرسولية الحقة. إن دم الشهداء هو بذار الكنيسة في كل عصر ومصر. وقد قال بولس الرسول "في ما بعد لا يجلب أحد عليّ أتعاباً لأني حامل في جسدي سمات (آثار جراح) الرب يسوع".
المسيح ابن المبارك قد أرسلني كي أبشر
في أقاصي الأرض أمشي واسمه القوم أخبر
مسحتي في أن أنادي قسمتي أدعو الجموعا
أقبلوا نحو المخلص واقبلوا الرب يسوعا
إن ترجمة حياة داود لفنجستون وهنري مارتن وماري سليسر وجيمس جلمور وكيث فلكونر لتحمل جميعها آثار المسامير. فعندما تحبط خططنا أو تخيب آمالنا، عندما تزول أحلامنا أو نهرق الدم في تنفيذ قراراتنا، عندما تنقلب مسراتنا أحزاناً ونحن نعاني شيئاً من آلام جشيماني أو الجلجثة، ما هذه جميعها سوى حملنا للصليب واتباعنا للمسيح. إن تمهل الله عن استجابة الصلوات وتضحية النفس الداخلية بل الانفراد باحتمال أثقال القيادة هذه جميعها جزء من علامات البنين المتألمين، والنغول ليس لهم شركة فيها.
"حاملين في الجسد كل حين اماتة الرب يسوع" "في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام للمسيح في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات في سجون في اضطرابات في اتعاب في اسهار في أصوام".
إذا المرء لم يشرب من الحزن كأسه
وتدمِ المآقي من دموع الفواجع
ويقضي الليالي ساهراً من تفجعٍ
ويهزأ بأنفس الروح وسط المعامع
ولم يذكِ حرباً هازماً قوة العدى
ولم يود خوف الروح بالمواقع
فما ذاق طعماً للسرور المقدس
ولا نال ظفراً خيفةً من مفازع
وخير "له الأخرى" فما كانت الدنا
مقام ثبوت بل مقام تنازع
وما كانت الدنيا مكاناً لهالعٍ
يهاب المنايا أو سعير المدافع
إن السماء لها اثنا عشر باباً وأسماء الاثني عشر الذين تظهر أسماؤهم على أساسات المدينة المقدسة جميعهم يحملون سمات الرب يسوع "وكل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة" واللؤلؤ بين الجواهر رمز الألم والتضحية.
كتب أحد خدام الإنجيل في كشمير الدعاء التالي عن تسليم الجسد وكل ما له ليسوع المسيح:
"هنا نقدم لخدمتك أيها السيد اللحم والعظم والعصب. لقد وهبتنا الهيكل البشري فعلمنا أن نستعمله لأجلك كآلة صحيحة تسلمناها منك كأمانة لنحفظها ونحافظ عليها لأجل أغراضك أنت. علمنا أن نستعملها بشدة وقساوة ولكن دون أن نسيء استعمالها أبداً. وعندما تبلى ببطء أو بسرعة هبنا سرور اليقين بأنها إنما تبلى لأجلك ومنك آمين".
فهل نستطيع أن نجعل هذه الطلبة صلاتنا يومياً
- عدد الزيارات: 3535