إلى متى يظل سكنى الروح القدس في المؤمن عندما يتخذه له مسكناً؟
"لا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء" (أف 4: 30)
لكي نفهم جيداً هذا الجانب من موضوعنا، أرى لزاماً على أن أعود قليلاً إلى ما سبق أن تأملناه، وهو أنه نظراً لقيمة الدم الثمين، دم المسيح المقام من الأموات يتخذ الروح القدس سكناه في المؤمن. ولعل رمزاً من العهد القديم يكون مفيداً في توضيح هذا الحق. ففي شريعة الأبرص يوم طُهره كان يُجرى له أمران يمتان بصلة لما نحن نتأمله. كانت شحمة أذنه اليمنى وإبهام يده اليمنى، وإبهام رجله اليمنى تُمس بدم ذبيحة الإثم، وبعدئذ يوضع الزيت على شحمة أذنه اليمنى وإبهام يده اليمنى وإبهام رجله اليمنى.
لاحظ دقة الكتاب المقدس. فالزيت لم يوضع مباشرة على لحم الأبرص، ولكن وُضع الزيت على الدم، معلناً الوحي بذلك في نداء اللغة الرمزية الجلّى الجهير أن الأساس الوحيد لسكنى الروح القدس في المؤمن، إنما هو فاعلية دم المسيح. فقد استعمل الدم بسبب ما كان عليه الأبرص من نجاسة لأن دم المسيح يطهر من كل خطية. واستعمل الزيت بسبب ما للدم من قيمة وفاعلية.
فما أعمق أهمية هذا! لو كنت على أساس حفظي الشريعة وحسن سلوكي قد أصبحت مسكناً للروح، فعند مخالفتي الشريعة وانحراف مسلكي يهجرني، ولكن من الواضح أن هذا ليس هو الأساس.
ابحث حيثما شئت في الرموز أو في التاريخ أو في تعاليم العهد الجديد، إن كنت تجد ما يدل على أنه يمكن أن يسكن الروح القدس في قلب إنسان على أي أساس آخر غير دم المسيح، فإنه لو حدث ذلك، إذن لأمكن للخاطئ أن يوجد لائقاً لمحضر الله بدون موت المسيح، ويكون سكنى الروح القدس في الخاطئ البيّنة على ذلك، كما يقول هذا شاهداً على أن دم المسيح قد سُفك دون حاجة تدعو لذلك، وأن المسيح قد مات بلا سبب.
إن كانت السيرة الحسنة والجدارة الذاتية أساساً لسكنى الروح القدس، عندئذ لوجبت قراءة ما ورد في (أفسس4: 30 ) هكذا: لا تُحزنوا روح الله القدوس لئلا يهجركم فتهلكوا في خطاياكم. لكن لاحظ كيف نقرأ "لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء" وحيث أنه لن يترككم فلا تُحزنوه، فإنه إذ يختمكم، إنما يفعل ذلك بسبب ما صار لكم من قيمة عند الله في دم ابنه يسوع المسيح، وإنه لن يترككم إلا إذا فقد الدم فاعليته، وهل نحن بحاجة لأن نسأل هل يمكن أن يحدث هذا؟!
يا حملاً قد مات عن جنس البشر
هذا الدم الثمين دائم الأثر
ولكن ها أحد القراء يقول "إن يوم الفداء قد انقضى بالنسبة للمسيحي، وحيث أن الأمر هكذا، فكيف يقال ختمتم ليوم الفداء، كأنه يتعلق بالمستقبل؟" ذلك لأنه لم يزل هناك "يوم فداء" آخر سيتم مستقبلاً عندما في اقتدار سلطانه يفتدي أجسادنا، كما سبق أن افتدى أرواحنا بدمه الكريم. فنحن إذ نتطلع إلى الوراء نرى إتمام الأول، وإلى الأمام نتوقع إتمام الثاني.
وليس هكذا فقط بل نحن الذي لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا" (رو8: 23) الذي فيه لنا الفداء بدمه" (أف1: 7) أي فداء أرواحنا الذي نلناه الآن، ولكننا ننتظر فداء أجسادنا.
لنفرض أن أماً أرملة، ظلت تشتغل بإبرتها حتى منتصف الليل. إنها سيدة مسيحية تجد لذتها في قراءة كلمة الله، ولكنها في تلك الليلة لم تستطع لفرط ما نالها من إجهاد ومشقة أن تستفيد من قراءتها، فلم يسعها إلا أن تصيح "إني أستودع نفسي والصغار بين يدي الله للحفظ أثناء الليل وألجأ إلى فراشي" وبجوار فراشها تجثو على ركبتيها وتظل هكذا قرابة ساعة من الزمن، ولكنها للأسف، ها هي في جثوتها قد استغرقت في نوم عميق. كيف حدث هذا؟ لم هذه الرغبة الملحة في قراءة الكلمة والصلاة في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ ذلك لأن روحها قد افتُديت. ولماذا إذن، بالرغم من حالتها الروحية السامية هذه، نراها قد غُلبت على أمرها وراحت في سبات عميق؟ إن ذلك مرجعه، دون ريب، أن جسدها لم يُفتد بعد.
ولكن هل ستظل ومعها كل مختاري الله على هذه الحال من الضعف الجسدي؟ كلا بكل يقين، إذ عند مجيء الرب يُعطى المؤمن جسداً لا سبيل للضعف إليه- جسداً يليق ببركات السماء، جسداً مشابهاً لصورة جسد الرب المقام، ومن كافة الوجوه سيكون المؤمن على صورة ابن الله، له جسد مثل جسده، حيث قد ختم بالروح القدس ليوم الفداء.
وها آخر يعترض قائلاً "كنت أظن دائماً أن الروح القدس يستطيع ترك المؤمن. إني في الواقع كثيراً ما يُخيل لي أنه قد تركني، لأن ما اختبرته من بهجة وعزاء فقدتهما، فتحول قلبي إلى يبوسة القيظ وصارت ممارساتي الروحية شكلية جامدة، وشهادتي للآخرين عديمة القوة، هذا إن وجدت في نفسي قدرة على الكلام على الإطلاق". ما من شك أن هذه حالة تستوجب الأسى وجديرة بالرثاء، ولا غرابة في انزعاجك لهذه الأعراض. وحاشا لي أن أستهين بحالة كهذه، إلا أنها لا تنهض دليلاً على هجر الروح القدس لك. من سواك وسوى الله يستطيع أن يقرر أنك كنت يوماً ما مسكناً للروح؟ ولكن إن كان حقاً قد سكن فيك، فإنه سيظل أميناً تجاه وديعته المقدسة. وإليك تشبيهاً بسيطاً: لنفرض أن لك عائلة فيها أطفال صغار، ولهم مربية موثوق بها تشرف عليهم، قد خُول لها حق الرقابة المطلقة عليهم في حالة غياب الأم، وإن أساء أحدهم التصرف فإنه يجب على المربية أن تصر على أن يذهب المذنب إلى أمه معترفاً بما فعل. وإلى أن يقوم بهذا الاعتراف فإنه يُحرم من أي نوع من التسلية والترفيه. ها أنت ذات صباح تدخل إلى حجرة الأطفال فتجد أن أحدهم تبدو عليه الكآبة والبؤس، ورداً على سؤالك عما به يشكو من انتـزاع المربية لكل ما من شأنه أن يدخل البهجة إلى نفسه، فلا ألعاب ولا كتب مصورة ولا سماح له بالفرجة من خلف نافذة الحجرة، وحتى إخوته حُرم عليهم التحدث معه كما اعتادوا، وكل هذا مرجعه إلى أن المذنب الصغير رغم وجوده تحت القصاص أبى الاعتراف بذنبه، مفضلاً التمادي على الاعتراف. وهذا أمر لا يمكن للمربية الأمينة أن تجيزه أو تقبله.
فتقول "كنت أظن أن المربية هنا لتعزيتك وإدخال السرور إلى نفسك" فيجيب الصغير "هذا ما كنت أتوقعه منها، ولكنها لم تعد كما كانت قبلاً".
-"ألعلها قد تركتك إذن؟"
-"لا، إنها لو تركتني لتيسر لي الحصول على قدر من السلوى والمرح، لكن لأنها تأبى أن تتركني فلا أستطيع أن أحصل على تسلياتي".
حذار أيها القارئ أن تكون هذه صورة لحالتك. لا فرح لك في داخلك ولا قوة لك للشهادة تؤديها للمسيح. لكن بقي لك شيء واحد في قدرتك... فهل أنت فاعله؟ وما هو؟ القدرة على الاعتراف للآب عن سوء حالتك وانحراف طرقك. لك القدرة على أن تكشف في نور محضره المقدس ذلك الأمر الشرير الدفين الذي تحاول جاهداً إخفاءه.
دعني أتضرع إليك بأن تتوجه وتفرغ ما في جعبتك أمامه. لا تخفِ عنه شيئاً. أُحكم على مسلكك في ضوء محبته، وأمام مشهد آلام الصليب، تلك الآلام التي تقصر دونها أبلغ لغة وأبرع تعبير. وما أن تعترف بخطيتك وقصورك لله وتحكم على نفسك حتى يتيح روحه لك الامتلاء ثانية بمشاعر محبة الله ونعمته، لعله قد فاتك أن تلاحظ التشبيه السابق عن المربية. إن الروح القدس كالمربية الأمينة، ليس فقط المعزي عندما نسلك في استقامة، ولكنه أيضاً المُحزن إن لم نسلك هكذا. ويوجد فارق شاسع بين سكنى المعزي السماوي وبين وجودك في الحالة التي تتيح لك التمتع بتعزياته السماوية. فالتلاميذ لم يتمتعوا بتعزية الروح القدس إلا عندما ساروا "في خوف الرب" (أع 9: 31).
فهل تطمع في عون وأنت سائر في إرادتك الذاتية، أو تلتمس تعزية وأنت جالب العار على اسم الرب الذي من أجل تمجيده أُعطى لك الروح القدس؟ فإذا لم تكن من "العذارى الجاهلات" اللواتي لم يكن لهن زيت، فالأرجح أن سر افتقادك إلى التعزية إنما مرجعه إلى تقاعسك عن الاعتراف القلبي الأمين، وليس إلى ترك الروح المعزي لك كما ظننت.
- عدد الزيارات: 4509