Skip to main content

ما هو الغرض من سكنى الروح القدس في المؤمن؟

أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن" (1كو6: 19و 20) "إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده" (أف1: 13و 14).

هناك جانبان لحقيقة سكنى الروح، نراهما في هذه الأقوال الكتابية وهما: امتلاكه لنا، وامتلاكنا نحن له، فإن الله يطالب بملكية كل من فيه روحه القدوس.

ونحن إنما خُتمنا بالروح لأننا صرنا ملكاً لله، غدونا كنـزه. وفي ذات الوقت، الروح القدس هو عربون مالنا في علاقتنا بالمسيح، فقد صار هو كنـزنا وكل ما له صار ملكاً لنا.

إن أي خطاب لا يعتبر منتهياً، ما لم يُوقّع عليه أي يُختم قبل إرساله إلى جهة الوصول، وقياساً على ذلك يعلن الله أننا بقوته محروسون لأجل ما أعده لنا. فإن كان العالم بما عليه لا يروق في نظر المسيح. فينبغي أن يكون الحال هكذا بالنسبة لمن هم له، إذ أنهم مدعوون لإحراز مجده، ومختارون لمشاركته في مسراته الخاصة في مكان وجوده الخاص. كم هو عجيب غاية العجب أن يبغى الله الاحتفاظ بنا لسروره! ما كنا نتوقع عندما أقبلنا إليه في بؤسنا وفاقتنا أن نحظى حتى بمجرد التفاته إلينا أو اهتمامه بنا، في حين أن الله كان على مدى الزمن راغباً فينا، وما أن امتلكنا حتى أرسل روحه إلى قلوبنا ليحتفظ بنا له إلى يوم اقتناء غنى مقاصده نحونا.

وجدير بنا أن نلاحظ أن الختم لا يُصيرنا له ملكاً، فإنه إنما يختمنا بعد أن يمتلكنا ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب (غل4: 6).

وقفت الخادمة أمام حجرة أحد النـزلاء، وقد رفعت بين أصابعها منديلاً وهي تسأله "هل هذا لك يا سيدي؟ لقد وصل تواً من الكواء؟" ودون أن يفحص المنديل سألها "هل اسمي عليه؟" فأجابت "لا يا سيدي، ولهذا جئت به إليك لتراه" فأجاب النـزيل "لا حاجة بي لأن أراه، إذ أستطيع أن أقرر على الفور أنه ليس لي".

والآن ترى ما الذي جعله واثقاً أن المنديل لا يخصه؟ لو أتيح لك أن تسأله لأجابك "إن زوجتي شديدة الحرص على كل ما يخصني، ولذلك فإنها قبل رحيلي خاطت اسمي على كل ما في حوزتي من مناديل، ولذلك فإني أقول إن كل ما ليس موسوماً باسمي لا يخصني".

وحيث أني ملك لله فإنه على الفور أعطاني روحه ليتخذ مني مسكناً له مميزاً إياي بختمه.

إلا أن أمراً يجب أن يسبق سكناه، لأنه ما من إنسان يصلح لسكنى الروح القدس بعيداً عن دم يسوع المسيح. إن هرون (رمز المسيح) أمكن مسحه بدهن المسحة المقدس بدون الدم، أي أن المسيح مُسح بالروح القدس بسبب كمالاته الذاتية (لاويين8: 12، لو3: 22) ولكن عندما يؤتى أمامنا بهرون وبنيه (رمز العائلة السماوية) لا بد أن الدم يسبق المسحة (لاويين8: 23و 24و 30) وقبل أن يقبل كرنيليوس موهبة الروح القدس كان لا بد أن ينال مغفرة الخطايا (أع10: 43و 44). فيالها من ملاءمة جميلة توجد في جميع معاملات الله سواء فيما يتعلق بالعهد القديم، عهد الظلال، أو في حقائق العهد الجديد التي كانت تلك ظلاً لها.

قبل أن ينـزل الله ليسكن مع أناس على الأرض، كان ذلك الشعب في حمى الدم المرشوش، وقد أُنقذوا من نير المُسَخّر.

وعندما يطلب المالك من راعي أغنامه أن يسم خرافه الحديثة الاقتناء، فإنما يفعل ذلك بعد أن يكون قد اشتراها ودفع ثمنها، ولا يطلب إليه أن يسِمْها وهي بعد في حظائر السوق ليمتلكها قبل أن يسدد أثمانها. أما وقد دفع الثمن فللراعي أن يسِمْ الأغنام بالعلامة المميزة لسيده، إذ قد تيقن أنها له وملكه بحق الشراء.

وهكذا حال المؤمن، فإن الروح القدس يسكنه بمجرد أن صار مرتبطاً بالمسيح- ليس بآدم الساقط، ولكن بالمسيح الممجد، ومن ثم نقرأ في (رو8: 9) "إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له" أي لم يصر للمسيح لأنه لم "يختم بعد بروحه".

إن هذه الكلمات الصريحة تؤكد ذلك الحق المسيحي بأن روح الله يُعطى كختم للإيمان بإنجيل الخلاص، وأن الإنجيل ما هو إلا شهادة الله عن رضاه وقبوله التام لذبيحة ابنه يسوع المسيح عن الخطايا، والذي أقامه من الأموات (رو1: 1و 3و 4).

فإن كنت بالحقيقة تؤمن بالمسيح بقلبك، فإنك وطيد الصلة بآدم الأخير، الذي رفعه الله، وليس بآدم الأول الذي طرده، لذلك يحسن بك أن لا يشغلن "الختم" بالك وكأن عمل الروح ينحصر في اتخاذ أمر الختم هدفاً ينشغل به المؤمن دون الانشغال بالمسيح.

قيل أن ابناً شريراً آبقاً لما اشتدت حاجته، امتلأ حقداً على أبيه، فعاد ذات ليلة واقتحم البيت عنوة بحثاً عن نقود. وفي مكتب لأبيه عثر على أوراق متنوعة، وأخيراً وقعت بين يديه نسخة من وصية أبيه، وعلى ضوء شمعة قرأها حتى آخرها. فوجد فيها ما أذله وحطم قساوته، فقد وجد أن والده بدلاً من أن يحرمه كما كان يستحق، قد أوصى له بنصيب وافر من ثروته. ماذا تظن كان الأمر الذي استولى على مشاعر الابن في تلك اللحظة؟ بطبيعة الحال لم يكن منحصراً في ضوء الشمعة الذي مكّنه من قراءة الوصية، بل انحصرت أفكاره بجملتها في محبة أبيه، وفي ضوء تلك المحبة شعر بحقارته وضعفه ومقت نفسه. لقد أمكنه بواسطة الشمعة أن يقرأ الوصية، وعن طريق الوصية توصل إلى أعماق قلب الآب. ليس هذا إلا تشبيهاً باهتاً، إنما أريد عن طريقه أن أبين أن مهمة الروح القدس هي أن يشغل القلب الذي يحتله، ليس بما يقوم به هو (أي الروح). إنه إذ يدخل قلبي ليسكنه كالمعزي، فإن دخوله ما كان ليشغلني، رغم ما في قبول هذا المعزي السماوي من روعة تدعو إلى العجب، ولكنه يحملني على أن أهتف في سلام وتعزية قائلاً "يا له من آب! ما أعمق حبه! وما أثمن ما أعده الفادي في نعمته! ما أبدع أن أكون معه إلى الأبد! مع أنني مقدّر كل التقدير تفاهتي وحقارة شأني في ذاتي، وأما الآن فإني مدرك أني مرتبط بذاك الذي وجد الله فيه شبعاً ورضى أبدياً، فأستطيع القول: إن نهر مسرات الله صار نبع مسرتي".

إني بطبيعة الحال لا أود أن أحمل أحداً على الظن بأن هذه ستكون بحذافيرها هي لغة كل مؤمن سكنه الروح القدس، إنما أعتقد أن المسيح سيكون هو غايته (وليس روحانيته هو) وأنه بالنعمة سيتمتع بمعرفة الله كأبيه، فالروح يهبنا التمتع بمالنا من نسبة مع الآب ومع المسيح. فنحن لم نأخذ روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذنا روح التبني "الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله" (رو8: 15و 16).

في ذلك اليوم (يوم الروح القدس) تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم" (يو 14: 20). إن الروح القدس هو الذي يسكب في قلوبنا محبة الله- محبة الله وليست محبتنا نحن (رو5: 5)، إن الروح القدس الذي قال عنه الرب "يخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يو16: 13- 15) وأنه إذ يخبرنا بما للمسيح، فإنما يخبرنا أيضاً بما صار لنا في نعمته الغنية.

ولكن ربّ سائل يسأل: كيف يجعل الروح المعزي حضوره ملموساً في حياة المسيحي؟ حسناً. لنأخذ مثلاً واحداً:

بعد انقضاء يوم في عناء وهموم الحياة، أو ربما في مضايقات أعمال مربكة معقدة، يتوجه المؤمن إلى اجتماعه المسائي وقد هدّه ما مر به في يومه من صراع وكفاح، فإذا بالروح القدس يستحضر أمامه المسيح بكل كمالاته فيهيمن على كل مشاعره ويحصرها، ودون أن يدري المؤمن إذ كل هم وكربٍ قد اختفيا تماماً، وها هو ينهض ليذبح لله حمداً، فيخيل لك وأنت تسمعه، كأنه لم ير قط في حياته إزعاجاً ولا ضيقاً، كما يمحو تيار الماء المتدفق كل الآثار المتخلفة على الرمال، هكذا يفعل الروح القدس في موجة من بركات السماء تتغلغل إلى أعماق المؤمن، فيتيح له أن يتنسم نسيماً سماوياً عطراً؟ حيث سكون المسيح كل شيء له، وحيث يمحي من الرؤية والذهن كل ما هو بشري دنيوي. فما أسمى أن نُمتلك بمُعزٍ كهذا!

إننا قد خُتمنا لأننا خاصته، كما أنه بسكناه فينا يعطينا أن نتذوق شيئاً من أفراح السماء كما تذوق كالب ويشوع عنب أشكول، مذاق كنعان قبل أن يستقروا فيها فعلاً، ومع كل فإن الروح هو عربون، ووجوده ساكناً فينا ضمان امتلاكنا لميراثنا، وضمان قيامة أجسادنا مستقبلاً.

الله سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم" (رو8: 11) فأي دليل أفضل يمكن أن يُقدّم على أهليتي للوجود في محضر الله في المجد من سكنى الروح القدس في جسدي حتى وأنا هنا؟

  • عدد الزيارات: 5839