Skip to main content

الفصل السادس: مع المعمدان

بعد متاعب كثيرة وصلت إلى قلعة ماركيوس. وقد سمحوا لي بزيارة المعمدان بعد أن فتشوا حقيبتي وثيابي خوفاً من وجود الممنوعات. كنت قد حملت بعض الفاكهة لأني علمت أن السجين الكبير يرفض أن يتناول لحوماً مطبوخة أو مشوية. كان يتناول عسل النحل والفاكهة فقط في السجن. كان قبل ذلك يتناول لحم الجراد المشوي.

وقد رحَّب المعمدان بزيارتي بوجه بشوش، على عكس ما كنت أتوقع. فقد أخبروني أنه متجهم الوجه، خشن الكلام، صارم التعبير. وقد استمع لي بصدر متسع. سمع قصة حياتي من أولها إلى آخرها... وقد أصغى بصفة خاصة إلى حديث الكاهن الرئيس والرئيس نيقوديموس. تنهَّد بارتياح وهو يسمع حديث المعلم نيقوديموس وقال: "شكراً لله".

ثم نظر اليّ وقال: "إن الله طيِّب يا بني. لقد وصلت. فقد قال: الذين يبكرون إليَّ يجدونني. الله لم يره أحد قط. الابن الحبيب الذي هو في حضن الآب هو خبّر.

إن الله الساكن في نور لا يُدنى منه، دبَّر أن يعيد للإنسان بره. قلبه الذي تلوث ينبغي أن يخلق جديداً. كانت الذبائح ترمز إلى الذبيحة العظمى، وقد جاء هو في ابنه ليقدم نفسه ذبيحة الكفارة. نعم جاء حمل الله الذي يرفع خطية العالم... جاء ليقد نفسه ويُعيد خَلق الإنسان. "أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها". أَمَا هكذا قال النبي اشعياء وداود، والأنبياء؟ أما أنا فلم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني قال لي انه هو الذي ترى الروحَ نازلاً عليه. وفيما أنا أعمّده انفتحت السماء ونزل روح الله شبه حمامة وحلّ عليه، وجاء صوتُ من السماء: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". نعم أنا رأيت وآمنت....

على أن الشك راود بعض تلاميذي إذ أنهم رأوا فيه ما لا يتفق مع الصورة التي تخيلوها للآتي. كانوا ينتظرون ابن الله ملكاً في موكب رائع وجند وأسلحة وعظمة أرضية. كانوا ينتظرونه يكتسح في طريقه جحافل روما، ويزيح الكهنة العابثين بالمقدسات، ويشيع العدالة والقداسة على الأرض، ولكنهم رأوا إنساناً فقيراً وديعاً متواضعاً... لا جند ولا أسلحة ولا مواكب ولا مُلك، فخامرهم الشك... ولماذا لا تقول إن الشك، قليلاً من الشك راودني إذ قد تركني في السجن. أو لعلي لم أشكّ بل عاتبت. على كل حال أرسلتُ إليه اثنين من تلاميذي أسأله: "هل أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟".

من الغريب أنه لم يغضب. لم يوبخ شكي. لم يذكِّرني بما قصتَّهُ عليّ أمي، ولم يذكرني بما رأيته بعيني يوم أن عمّدته بالماء. ولم يذكرني بشهادتي عنه بعد عودته من البرية، إذ أشرتُ إليه "هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم". بل طلب من التلميذين أن يخبراني بما ينظران ويسمعان. وقد رأيا وسمعا تحقيق النبوة القديمة في اشعياء إذ قال: "روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلوب، لأنادي للمسبيين بالعِتق وللمأسورين بالإطلاق، لأنادي بسنةٍ مقبولة للرب". وهذه نفس الكلمات التي وصلتني "اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران: العمى يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يُطهَّرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون". وختم رسالته بالكلمات "وطوبى لمن لا يعثر فيّ"!!

والتفت يوحنا اليّ وقال: "لم أر السيد بعد ذلك، ولكن آمنت به. آمن يا ابني، آمن به... وبما أنك غير مسجون فاني أشير عليك أن تذهب إليه وتشكره وتعترف بإيمانك به. لقد وصلتَ يابني. لقد وصلت. لقد وجدتَ الله القدوس الطاهر الصالح الحنون، الذي سيقدّم نفسه ذبيحةً عنك وعن العالم... نعم الله الذي كله قلب!".

  • عدد الزيارات: 2480