Skip to main content

الفصل الخامس: مع رئيس المجمع

لم أشأ أن أطيل جلستي مع رئيس الكهنة. علمتُ في ما بعد إن معاملته لي قُوبلت بالدهشة. انه لا يتكلم مع أحد إلا من كرسيه العالي. خرجتُ وقد بان الأسى على وجهي. لم يزعزع كلام رئيس الكهنة يقيني في الشيخ سمعان والنبية حنة. ولقد كان الاتّزان بارزاً كل البروز في الشيخ. والذين تحدثوا معه كانوا يُجلُّونه كل الإجلال.

وماذا أقول في كلام الراعي ميخائيل، وماذا أقول في الأغنية السماوية، وماذا أقول في قصة المذود، وماذا أقول في قصة الملوك الذين جاءوا من المشرق وسجدوا للوليد العظيم؟ لن أذكر قصة اللص دوماس. الحق أن كلام رئيس الكهنة كان يحمل على الأقل، بطلانه!!

سرتُ في الطريق أحدّث نفسي، وظللتُ أسير وأسير دون أية وجهة. لم أقف إلا عندما أحسست بأني لا أستطيع أن أسير. كنت في أشد التعب. وعندما وقفت رأيت إلى جانب الباب "مصطبة "مفروشة بالسجاد، عليها وسائد، فجلست عليها... الأصح أن أقول "سقطت "عليها من شدة التعب، ومال رأسي على صدري وذهبت في إغفاءة!

لا أعلم كم دقيقة أغفيت، ولكني استيقظت لأرى أمامي رجلاً وقوراً في لباس محتشم يكشف شيئاً عن مركزه الاجتماعي العالي، وقد تدلَّت لحيته على صدره وقد غلب بياضُها على السواد.

نظر الرجل اليّ بقليل من الفضول، وقد أجبتُ على السؤال الذي لم تنطق به شفتاه: "نعم أنا غريب، على أنها ليست المرة الأولى التي أدوس التراب الغالي لأرضكم المقدسة".

ابتسم الرجل ابتسامة الرضا وقال: "لعلك تصل إلى ما تريد في أرضنا".

قلت: "أخشى أني لن أصل إلى هدفي، أو لعل الأفضل أن أقول إني لن أصل إلا بعد اقتحام الصعاب، فقد صُدِمت بشدة في خطواتي الأولى "!

نظر اليّ الرجل باهتمام وقال: "ألعلي أتعدى حدودي إذ سألتك أن تشرح لي قصتك، فربما استطعتُ أن أمدَّ لك يد المعونة؟ ترى من أين وأين أصابتك اللطمة الأولى؟". ثم ابتسم وقال: "هلاَّ يكون من المناسب أن ندخل إلى صحن الدار لنتحدث في خلوة لا يقاطعنا فيها أحد". وأمسك بيدي ودخلنا بيته، وأجلسني وجلس مقابلي وقال: "تكلم". قلت: "تُرى هل يأذن لي سيدي أن أسأل عن الشخصية الكريمة التي توليني شرف الحديث معها؟". ثم استدركتُ قائلاً: "لقد خرجتُ من بيئة بدائية لا تحسن أسلوب الحديث مع الطبقات العالية، ولم نتعود على لياقة الدخول في بواطن الأمور". وابتسم الرجل مرة ثالثة وقال: "أرى أنك تختلف كل الاختلاف عما تقول، فان أسلوب كلامك ينبئ عن شخصية جالت في جوانب الأرض وتحدثت إلى كثير من البشر... لكن دعنا من هذا – ويسرني أن أجاوب سؤالك، فأنا نيقوديموس، وأُدعى في بلادنا الربي نيقوديموس، وأنا رئيس المجمع الشرقي الكبير في المدينة. وأعتقد أنك تعرف شيئاً عن المجامع اليهودية".

قلت: "نعم، فقد سبق أن جئتُ هذه الديار، وعرفت الكثير عن الديانة اليهودية والهيكل والمجمع، وكان لي شرف التحدث مع المعلم العظيم الشيخ سمعان بن هليل الصغير". قال: "أرأيت الشيخ سمعان؟ انك إذن لمغبوط... لكن لندع هذا ولنعُد إلى قصتك".

قلت: "إني ألخصها لك في كلمات... كنت أعيش مع قومي حياة البهائم، لا نعرف شيئاً إلا العيشة الحيوانية، نأكل ونشرب ونزرع ونتزوج ونلد البنين والبنات ونموت... وهكذا بدون إله وبدون عبادة.... وظللتُ كذلك إلى أن حمل إليَّ الفينيقي الذي رافق التاجر الكنعاني – الذي كان الصلة الوحيدة بيننا وبين العالم الخارجي – أن هناك إلهاً. فخرجت أبحث عنه – لست أرى داعياً لأن أقصَّ لك قصة سياحتي... ولكن انتهيت منذ أكثر من ثلاثين سنة إلى هذه المدينة، حيث قابلت الشيخ سمعان وحنة النبية والراعي ميخائيل. وحدثني هؤلاء عن مجيء "الآتي "الذي قال البعض انه نبي، وقال آخرون انه المسيح، وقال غيرهم انه المسيا... وقال الملاك انه الرب جاء في الجسد... وعلمتُ أن ذلك الآتي وُلد في بيت لحم، وأن ميخائيل سمع عن مولده ورآه، وأن سمعان حمله على ذراعيه... وأن ملوكاً جاءوا من المشرق وسجدوا له وقدَّموا له هدايا... وذهبتُ إلى بيت لحم لأراه، فعلمتُ أن العائلة هربت إلى مصر لأن هيرودس قصد أن يقتل الصبي. وذهبت إلى مصر ومكثت أزيد من ثلاثين سنة أجول في نواحيها أبحث عنه بدون جدوى، لأنه كان قد عاد منذ زمن طويل. ولكني لم ألعم بذلك إلا أخيراً. وجئتُ إلى اليهودية وسألت عن المولود الملك. ولكني وجدت ممن سألتهم صدوداً. هزأ بي البعض، وهرب مني البعض، وقبض أحدهم عليّ وسلمني إلى رجل ظهر أن له كثيراً من السلطان، وهذا ذهب بي إلى شخص آخر. وأخيراً حملوني إلى رجل يبدو أن أعلى الكل... وهذا بعد أن سمع قصتي لان وجهه العبوس، وابتسم في وجهي وقال انه يرى أني بريء وساذج، وقال لعل ذلك الوليد المزعوم هو ذلك النجار المخبول، بل المضل يسوع الناصري. وقال إن سمعان الشيخ قد أُصيب بالخبل في أخريات أيامه، وان قصة الرعاة والملائكة والمذود وما رواه سمعان كله خيال مريض وان الناصري إما أن يكون مجنوناً أو حليفاً للشيطان، وقال إن مسيا لم يأت بعد. ومع ذلك فانه إذا أتى فسيكون مسيا اليهود لا مسيا غيرهم. ونصحني أن أعود إلى قريتي وأتزوج من الفتاة التي خطبوها لي وأترك موضوع الله هنا نهائياً.

لقد خرجت من بيتي من سنين طويلة ولاقيت من متاعب ومشقات. لم أذكر لأحدٍ ما قاسيت من جوع وعطش وحر وبرد وأسفار وأهوال. وأخيراً يقول لي زعيم ديني كبير إن بحثي عن الله عبث... ويقول لي إن سمعان مخبول وان حنة مخّرفة وان ميخائيل خصيب الخيال، وان النجار الناصري مختل ومضلل وسامري وبه الشيطان بل انه متحالف مع بعلزبول رئيس الشياطين؟".

وظهر التأثر على وجه المعلم الكبير وقال إن رئيس الكهنة ورؤساء المجامع وقادة الهيكل وجماعة القادة السياسيين معذورون في وقوفهم ضد المعلم الناصري. لقد استطاع الناصري أن يجتذب الجماهير إليه بتعاليمه البسيطة العميقة، وقد جرّأ عامة الشعب على الرؤساء بحيث أصبحوا يعلنون علناً أنه هو الملك الآتي – كما أن الرومان الذين يسيطرون على البلاد سيزيحون الرؤساء من كراسيهم إذا حدثت بلبلة عن ملك... لا أعلم لماذا أتحدث معك بهذا الوضوح.

  • عدد الزيارات: 2590