الفصل الثاني: خلوة مع سمعان
كانت الكلمات التي سمعتها في مسائي هذا تكراراً لأحاديثي مع موسى وداود واشعياء وملاخي، ولكنها كانت تختلف بالنسبة لوقتها، فقد سمعتها بالأمس نبوّات ستتم، أما اليوم فإنها "واقع" تم. وهذا بلبل أفكاري أكثر مما بلبلها بالأمس. لقد جاء الآتي. ولكنه جاء طفلاً. سألت نفسي: "هل هو الآتي فعلاً؟ من هو؟ إنهم يقولون "مخلص هو المسيح الرب". إن سمعان يحمله على ذراعيه ويقول: "الآن تطلق عبدك يا سيد". من هو... هل هو... أوه. لا أعلم ماذا أقول؟ كيف يكون الطفل الذي رآه الرعاة إلهاً؟ كيف يكون الصبي الذي حمله سمعان على يديه إلهاً؟ كيف يكون الإنسان المولود... نعم ولادته تختلف من بعض الوجوه عن ولادة غيره من الناس، ولكنه وُلد كما يولد أي طفل آخر. بدأ الحياة الإنسانية من أولى درجاتها. كيف يكون الإنسان إلهاً. لقد خرجتُ عن إله... وها هم يقولون إن هذا الصبي هو الإله الذي تبحث عنه. هل يمكن أن يكون هذا الكلام معقولاً؟.
انبطحت على وجهي وبكيت......
كان سمعان قد تركني لأنام قليلاً. على أنه عاد إليَّ فلم يجدني على الفراش، بل رآني منكفئاً على الأرض. ولما شعرت بصوت أقدامه اعتدلت ورفعت وجهي نحوه، فقال: أنا أعلم... نعم أعلم سر اضطرابك. "انه لغز يا صديقي، انه لغز، لا يستطيع العقل البشري أن يفهمه. انه فوق أذهان البشر. هل يمكنك أن تدرك الكيان الإلهي؟ كيف تفهم حضور الله في كل مكان؟ هل تفهم معنى أزلية الله؟ هل تدرك معنى أن الله أبدي؟ هل تفهم كيف أن الله كليّ القدرة وأننا نحن بشر محدودون؟ إننا لا نستطيع أن نفهم. أنا ما كنت أستطيع أن أفهم. انه الله يا ابني. انه الله الذي بروحه يفتح قلوبنا فنؤمن، ومع ذلك دعني أتحدث إليك....
خلق الله الإنسان باراً نقياً طاهراً، ولكن الإنسان عصى الله وفسد. والله قدوس وبار وعادل. لقد شاهدتَ أنت كيف حاول الإنسان أن يتبرر أمام الله. لقد رأيت الذبائح والكفارة. لقد سمعت الرسائل عن الرجوع إلى الله بالندامة والتوبة. واكتشفت أن الأمر كان يتطلب علاجاً أعمق من العلاج السطحي الذي عُولجت به الخطية. كانت الخطية تُعالج بغسلها من الخارج، بينما كانت متغلغلة في الدم. كان الأمر يتطلَّب إعادة خلق. كان ينبغي أن يموت الإنسان، بعد أن فقد كل ما يجعله محبوباً، وصار ملوَّثاً، لا يقدر أن يتطهر من لوثاته. الذبائح علاج لأن الخطية في داخل الإنسان، والمعصية كامنة فيه. ينبغي أن يموت. لكن محبة الله أنقذته من الموت. إن عدالة الله تتطلب أن يموت، فكيف تستطيع المحبة أن تنقذه؟ ها الحق والرحمة. الحق يطلب أن يموت. والرحمة تطلب أن يعيش. كيف يمكن أن يجتمع هذان النقيضان؟
كيف يمكن أن نقتل الخطية دون أن نقتل الخاطئ؟ ينبغي أن يوجد بديل عن آدم. وفتش الله عن البديل. فلم يجد إلا نفسه، ولذلك قدم نفسه. قدم ابنه، وصار الإله إنساناً. كان قد رتب هذا الأمر منذ الأزل. وما رأيته في سياحاتك كلها كان محاولات من الناس لقتل الخطية، إلى أن جِئت إلى اليهودية فرأيتَ الترتيب الإلهي. الإله يصير إنساناً. ويبدأ الإله من الدرجة الأولى للإنسانية.
هنا بدء الكفارة. هل تستطيع أن تدرك عظم محبة الله؟ انظر إلى الإله الذي صار إنساناً وبدأ إنسانيته من أولى درجاتها، وأصغ إلى كلمات الأنبياء عن الذبيحة... أنا إلى الآن لا أفهم تماماً كيف ستتم، لكني رأيت في ذلك الصبي الذي حملته على يديَّ "الله ظهر في الجسد". ولذلك خشعتُ أمامه، وطلبتُ منه أن يطلقني، فقد رأيت خلاصه. الحقيقة أني رأيت بدء ذلك الخلاص. نعم سجدت للإله الذي جاء طفلاً، كنت أقرأ النبوات وأراجع التاريخ، فوقعت في بلبلة. ما معنى كلمات اشعياء عن ذاك الذي وصفه بالكلمات: "لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها... وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا. كلُّنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا.... وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين". ألا يعني ذلك أن الحاجة هي إلى المخلص ينقذ البشرية من الفساد الروحي، والسقوط. مخلص يعيد الخليقة إلى البر الذي فقدناه بالعصيان؟ كنت أجلس متأملاً وقد رأيت العالم منذ سقط أبوانا. رأيت الحروب والدموع والدماء والجروح والقروح، رأيت الجوع والعري والأوبئة والأمراض، رأيت النيران والسيول والطوفانات، وقلت: من يخلصنا من هذه؟ لكني أحسست أن الحاجة إلى خلاص أعمق، فقد رأيتُ خلف كل ما رأيت التنين المخيف الذي ينفث سمومه فيلوّث العالم كلّه. نعم رأيت الخطية، وعلمت أننا في حاجة إلى مخلص ينقذنا لا من الخطايا بل من الخطية، لا من الشرور بل من الشرير.
ثم سألت نفسي وأين نجد هذا المخلص؟ هل يمكن أن يكون المخلص واحداً. من البشر. كلا. لا يمكن، لأنهم جميعاً تلوَّثوا بالإثم، كلهم. نعم كلهم. موسى، داود، سليمان، حزقيا، نحميا، ملاخي...... الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله.
انحنت رأسي إلى الأرض. لا يمكن أن نجد بين الناس هذا المخلص.
إذن أين نجده؟
هل يتطلب الأمر أن يأتي ملاك من السماء؟
نعم إن الملاك بار، ولكنه لا يمكن أن يقوم بالمهمة. انه لا يحس بما يحس به الإنسان. نعم، فان المخلص ينبغي أن يشارك الإنسان في متاعبه وفي آلامه. ينبغي أن يكون إنساناً، يتعب كما يتعب الإنسان ويتألم كما يتألم الإنسان. يجوع كما يجوع الإنسان ويحتاج إلى الراحة كما يحتاج الإنسان، ويقاسي من المعاناة ما يقاسيه الإنسان – على أن يكون باراً وقدوساً وطاهراً ونقياً.
فأين نجد هذا الإنسان؟".
رأيتني مستنداً على ساق شجرة في البرية أثناء سيري في الطريق إلى أول دروب مدينة الإيمان التي أرشدوني إليها.
أين ميخائيل وزكريا وسمعان؟ أين حنة؟ ترى هل هي أحلام أم رؤى؟.... بل أن الله كشف لي أن "المخلص الآتي "قد جاء. جاء إنساناً، بل جاء إلهاً... كلا – جاء إلهاً، بل لا. لقد جاء إنساناً.
ربي افتح عيني وذهني وقلبي. لي اشتياق أن أراك يا رب!
- عدد الزيارات: 2477