Skip to main content

الفصل الثامن: مع المنتظرين

وأنا بين اليقظة والمنام سمعت صوتاً مألوفاً... لم أسمع الكلام من أوله. رنَّت في أذنيَّ الكلمات: "هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي معناه: الله معنا". نعم سينزل الله من سمائه ويصير إنسانا. سيُولد كما يولد سائر الناس، ولو أنه سُيولد من عذراء.

وقفت من غيبتي وأنا أقول كما لو كنت أسأل شخصاً أمامي، أو كما لو كنت أتكلم متعجباً: "سيأتي من عذراء بدون زرع بشر؟!!".

فتحتُ عينيَّ فإذا أنا جالس في المكان الذي جلستُ فيه مع اشعياء، وهوذا اشعياء يردد الكلمات "تحبل وتلد ابناً، ويدعونه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا".

كانت حيرتي شديدة. كيف يمكن أن يكون هذا؟ الله يصير إنساناً، بل يبدأ إنسانيته من أول السلم!!

أغمضتُ عينيَّ مرة أخرى، وإذا أنا أرى، بالطبع لم أكن أرى بعيني. كنت أرى بمجموع شخصي، كل جزء مني كان يرى ويسمع. هأنذا أجد نفسي في اليهودية، في المدينة المقدسة. ها هو الملك آحاز يسير مضطرباً. إن الممالك المحيطة تتألب عليه. حتى المملكة الشقيقة تتفق مع العدو ضده. لكن السماء عطفت عليه برغم عدم استحقاقه...... وإذ أنا أتأمل وجه ذلك الملك دارت الأيام أمامي كما لو كانت شريطاً متحركاً، وإذا أنا في مدينة بيت لحم. هوذا عذراء، نعم لم تعرف رجلاً. لكني أسمع الصوت يقول: "لماذا تضطرب يا آحاز؟ إن الله سيأتي لإنقاذك. سيأتي هو بنفسه. هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً هو "الله معنا". إن الله سيأتي بنفسه، وسيرأف بالبشرية. سيأتي من السماء ولكنه سيأتي عن طريق الأرض. سنراه، سنلمسه، سنسمعه يتكلم معنا!

وانحنى اشعياء طويلاً ثم رفع رأسه وقد أغمض عينيه وجعل يقول:

" لكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتاليم، يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور". وجعل اشعياء يتمتم بصوت مرتفع فسمعته يقول: "لأن كل سلاح المتسلح في الوغى، وكل رداء مدحرج في الدماء يكون للحريق مأكلاً للنار. لأنه يُولد لنا ولدٍ ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا".

رفع اشعياء وجهه كمن استفاق من حلم. وجعل ينظر إلينا بعينين زائغتين وهو يهمس لنفسه: "أين أنا؟". والتفت اليّ وقال: "معذرة يا صديقي. إني لم أرحب بك كما يليق بضيف عزيز".

قلت: "لا عليك، ولكني سمعتُ منك كلاماً غريباً. سمعتك تتكلم عن عذراء تلد ابناً هو "الله معنا". وبعد ذلك سمعتك تقول عن الابن المولود من نسل داود الذي يُدعى اسمه عجيباً، مشيراً إلهاً قديراً.... إلهاً؟ ترى هل تستطيع أن تخبرني عن هذا "الله معنا" عن هذا ال "إلهاً قديراً". تقول الله يولد طفلاً؟ الله إنسان؟ يولد من عذراء؟ إنها ألغاز سمعتُها منك يا صديقي. هل يمكن أن تلقي على كلماتك شيئاً من الضوء؟".

وتململ اشعياء في مكانه وقال: "كلا، لا. لا أستطيع. لقد نطقتُ بما نطقت من قوة خارجة عني. قلتُها وأنا لا أفهمها. سأحاول أن أفهمها في نور النبوات.

سأنقَّب في النبوات. تُرى هل "الله معنا" هو تعبيرنا عن الملاك؟ أنت تعلم أننا نؤمن أن الإنسان لا يرى الله ويعيش. لعل الله هو الملاك الذي كان مع موسى في البرية. على أني أحس أن ذلك "الله معنا" شيء أعظم جداً مما اعتدنا أن نسمع عن الملاك. كل ما أشير به أننا ننتظر حتى تتم النبوة. إن اليهودية يا صديقي ليست النهاية. ولكنها على كل حال الطريق الذي ينبغي أن نسير فيه. أقول "نسير "لا نقف. لا نقيم. إنها ظل لحقيقة وإنها رمز لحقائق أعظم". قلت: "ولكنكم – أقصد اليهود – لم تقدموا الله. أخشى أنكم حجبتموه خلف هياكلكم وأبوابكم الجميلة ومذابحكم وذبائحكم وقرابينكم وبخوركم وطقوسكم وفرائضكم. نعم أخشى أن الله "اختفى "! غفرانك ربي، تحت أكوام تقاليدكم".

وقاطعني اشعياء وقال في شبه همس: "قد تكون مُحقاً يا صديقي. لستَ أنت وحدك الذي اشتكى هذه الشكوى. فقد أعلن الله ذلك على فمي، إذ قال: "يقترب اليّ هذا الشعب بفمه ويكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيداً، وهم يعلِّمون تعاليم هي وصايا الناس". ولكن هذا لا يمنع أن مدينة اليهودية هي الطريق الوحيد. فقد وصل آخرون، هم فعلاً قلائل. وصلوا عن طريق آخر بعيد عن طريق مدينتنا. لكن مدينتنا هي الطريق الأكيد. لم أسمع إلا عن أفراد قلائل وصلوا إلى الله عن طريق أخرى: ملكي صادق، يثرون، أيوب، أليفاز... وآخرون. لكن هؤلاء قِلة. بالطبع أنا لا أتكلم عن الآباء الأولين، وهو لهم مكانهم الذي لا نبحث فيه. إني أتكلم عنك وعن أمثالك. بل إن الآباء ليسوا غرباء عن مدينة اليهودية. إنهم مرتبطون بها. لذلك اطلب منك ألاَّ ترفض هذا الطريق. أنا لا أقول لك: امكث في هذه المدينة. لا. لا. إن هذه المدينة مجرد طريق تخترقه في سبيلك إلى مدينة الله.

انك في مدينة الله ستراه. لكنك لن تراه في الوضوح الذي تتخيَّله. لكنك ستراه".

كان اشعياء يتكلم بمجموع قوته. كان كأنه يتسلق جبلاً عالياً وهو يلهث من صعوبة الارتفاع. وما أن فرغ من حديثه حتى انطرح على الوسادة القريبة تنهد من شدة التعب... وبعد أن التقط أنفاسه تكلم بالكلمات الغريبة الآتية:

" ويخرج قضيبٌ من جذع يسى، وينبتُ غصنٌ من أصوله، ويحلُّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب. فلا يقضى بحسب نظر عينيه، ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض. ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويُميت بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه. فيسكن الذئب مع الخروف، ويربص النمر مع الجدي والعجل المسمن معاً، وصبي صغير يسوقها، والبقرة والدبة ترعيان. تربص أولادهما معاً. والأسد كالبقر يأكل تبناً. ويلعب الرضيع على سرب الصلّ، ويمدُّ الفطيم يده على حجر الأفعوان، لا يسوؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي، لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر"!!

نعم يا صديقي أنت في الطريق. لا أعلم أي جزء أنت فيه. لا أعلم كم بقي عليك. على أني متيقن أنك في الطريق".

ورفع اشعياء وجهه وحدّق ببصره إلى الأمام وتطلع إلى فوقه، وقال: "ماذا تقول يا صديقي ميخا؟ ويكون في آخر الأيام أن جبل الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت يعقوب، فيعلمنا من طرقه، ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد".

العبد المتألم

وسألت: تقول "في آخر الأيام". متى يا ترى تكون آخر الأيام هذه؟ متى... وكيف نعرف؟

وانتفض اشعياء. أحسست أن كل عضلةٍ في جسده تهتزّ، وقال بصوت متحشرج، وهو مغمض العينين: "ها أنا أراه... نعم أراه. هو. هو. لكن لا يمكن أن يكون هو. لا يمكن أن يكون هو. انه شخص يختلف عمّا أنتظر وعما ينتظر الشعب:

" من صدَّق خبرنا، ولمن استُعلنت ذراع الرب؟ كان منظره كذا مُفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم. صورته صورة رجل أبرص! لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمُستَّر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتدَّ به... لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل آثامنا مسحوق لأجل معاصينا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره شُفينا. كلنا كغنم ضللنا. مِلنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظُلم أما هو فتذلَّل ولم يفتح فاه. كشاةٍ تُساق إلى الذبح وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازّيها فلم يفتح فاه. من الضُّغطة ومن الدينونة أُخذ، وفي جيله من كان يظنُّ أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش!

أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن. أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطولُ أيامه، ومسَّرةُ الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء، ومع العظماء يقسم غنيمة. من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأُحصي مع أثمة – وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين".

نطق اشعياء بهذه الكلمات الغريبة وسقط على الأرض إعياءً، بل في الحق سقط في شبه غيبة. تركته حتى استفاق، وتقدمتُ أسأله أن يلقي شيئاً من النور على كلماته الغريبة. وقبل أن أكمل كلامي قال: "كلا يا صديقي أنا لا أعرف. سيأتي إلهاً، لكنه في نفس الوقت عبد. سيأتي أبرع جمالاً من بني البشر، ولكنه سيكون في منظر الأبرص، لا صورة له ولا جمال. من أجله يسدُّ ملوك أفواههم، ولكنه سيأتي محتقراً ومخذولاً من الناس. سيأتي ليزيل أحزاننا، لكنه سيحملها هو. سيأتي القاضي العادل الذي يقضي بالعدل للمساكين، ولكنه سيُظلم ويتذلل. سيأتي رب الحياة، ولكن حياته تُنتزع من الأرض. سيأتي ابن الله حبيباً لله، ولكن الرب يُسر أن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم. سيأتي عظيماً رب الحياة، يقسِمُ الله بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، ولكنه يسكب للموت نفسه".

قلت: "لقد بلبلتَ ذهني يا اشعياء. فهل يستطيع ربُّك هذا أن يقف بين أرباب العالم؟ هل يستطيع أن يقف أمام أوزيريس وايزيس وست وبعل وزيوس وهرمز وبوسيدون؟ هل يستطيع أن يقف حتى مع أنصاف الآلهة أمثال هرقل وزملاء هرقل؟ لقد اختلطت عليّ الأمور. لا أستطيع أن أسايرك يا سيدي".

ورفعت عينيَّ إلى السماء وقلت:

" بعد طول السفر، بعد كل المشقات أصل إلى طريق مسدود. هل أرجع؟... هل أعيش كما كنت أعيش بلا إله، وبلا رجاء وبلا غفران، وبلا أبدية؟ أعيش كالحيوان وأموت كالحيوان؟".

كان اشعياء منحنياً، وقد بان تأثُّر عميق على وجهه. كان كأنه يرفع صلاته للمجهول وظلَّ يستمع اليّ في نفس الوقت. فلما فرغتُ من الكلام التفت نحوي وتكلم بصوت عميق، قال:

" ألم تخرج لتبحث عن إله قوي، على أن يكون في نفس الوقت... هل أقول بلغة الناس إلهاً ضعيفاً، مع أن الأمر ليس كذلك؟ ألم تطلب إلهاً مُحباً يُشبع قلبك؟ ألم تهرب من آلهة مصر الجبارة العنيفة التي تبغض البشر وتعمل على تحطيمهم؟ ألم تهرب من بعل ومولك وملكوم وكالي وعشتار؟. لم تملأ الأصنام قلبك لأنك رأيت فيها كائنات سفلية. أحسستَ أنك أنت أسمى منها. ألم تهرب من آلهة اليونان والرومان الكائنات النجسة القذرة التي رأيتها تتمرغ في أوحال الدنس؟

ألم تحتقر زفس وهيرا وأرطاميس وعشتروث؟ ألم تطلب إلهاً قوياً محباً طاهراً نقياً مثالاً للفضيلة؟ ألم تطلب إلهاً يجمع بين القوة والنقاوة والحب؟

لقد كنت أظن أن هذا الإله الذي تطلبه لا وجود له، إلهاً يجمع بين السيادة والعبودية، بين الجبروت والحب، بين الذراع القوية والذراع الحاضنة... كنتُ أظن أنه لا يمكن أن يوجد إله يجمع بين هذه الكمالات. ولكني وأنا أتأمل في النبوَّة في الآتي رأيتهُ يجمع كل هذه الكمالات، فهو السيد، وهو في نفس الوقت العبد. هو أبرع جمالاً من بني البشر، وهو في نفس الوقت لا صورة له ولا جمال. هو القدوس الطاهر، وهو في نفس الوقت الخطية بكل ما فيها من بشاعة. هو الديّان القاضي، وهو في نفس الوقت المحتقر والمخذول الذي وقف خاضعاً أمام مضطهديه. هو الساكن في الأعالي، ولكنه في نفس الوقت الذي نزل إلى الأرض. هو رب المجد، وفي نفس الوقت المُهان. هو رب الحياة، ولكنه في نفس الوقت الذي سيذوق مرارة الموت!!

ألستَ ترى أن هذا هو الإله الذي تطلبه؟".

فصرختُ في وجهه "ما هذه الألغاز التي تنطق بها؟ كيف يجمع كائن بين هذه المتناقضات التي تزعم إنها كمالات؟ قل كيف. وأين هو هذا الكائن العجيب؟ أين هو؟".

وقال اشعياء: "أما كيف فأنا لا أعرف. لكن ليس معنى هذا أنه لا وجود له. ألم تقل أنت: أين هو هذا الكائن العجيب؟ ألم تقل النبوة "يدعى اسمه عجيباً لأنه وهو القدوس سيصير خطية من أجلنا. عجيباً لأنه والملائكة تحيط به يعاشر الخطاة... عجيباً بل العجب نفسه!!

" أما أين هو... فقد آن وقت مجيئه. هل سأراه أنا؟ لقد رأيته في الظلال. ولكني سأراه.

" وأنت أيها الباحث سر في طريقك. سر فقد اقترب وقتُ مجيئه. ستراه. ستتمتع بكل ما يقدمه للعالم من بر. نعم ستراه".

رفعت عيني إلى السماء وقلت:

" أيها الآتي... أيها الآتي، لقد طال شوقي للُقياك. سأستمر في طريقي. سأستمر حتى ألقاك. كل ما أطلبه أن تحفظني وتحفظ إيماني حتى أراك!!

سأنتظر مع المنتظرين "!!

  • عدد الزيارات: 2711