الفصل السادس: مدينة النبي اشعياء
استراح قلبي عندما سمعتُ أن اليهودية ليست نهاية المطاف. إنها محطَّة في الطريق. وبالرغم من أنها محطة رئيسية لكنها مجرد محطة. إننا نرى الله فيها، لكننا نراه من خلال الظلال والرموز. استراح قلبي وأشرق وجهي وسرت في طريقي وأنا ابتهل إلى الله أن أراه. كنت أصلي أن أعيش حتى أراه، أراه هو!!
استرحتُ نوعاً وقمتُ على قدميَّ الكليلتين. سرتُ متوكئاً على عصا الإيمان. مررت بمدائن كثيرة. رأيت أسواقاً عامرة بالبضائع، ولكني ظللتُ أسير وأسير ليلاً ونهاراً. لم تكن المدن التي أمرُّ بها تكشف حقيقة ما بداخلها، لأن الظلام كان يخيّم عليها، ولأن الضوء القليل الذي يتخلل طرقاتها كان أشبه بنور الشفق. كنت أخشى أن أضلّ، لولا أني وضعتُ نصب عيني ذلك النور العظيم خلف الجبال البعيدة، النور الذي أشار إليه الملاك.
ونمت في إحدى الأمسيات مُجهداً. فلما استيقظتُ أبصرتُ أمامي مدينة كبيرة، كان النور يبدو فيها أكثر لمعاناً، ولو لم يكن نور الشمس. ولما سألت عن اسم المدينة قالوا إن لها عدة أسماء. البعض يطلق عليها "خلاص الله "وآخرون "الحمل المذبوح". وقد فكرت أن أُقيم فيها ريثما أستريح!
مررت في الشارع الكبير... على اليمين "شارع ابن يسى". ثم "شارع من صدَّ خبرنا "ثم "شارع الحمل الصامت "و "شارع الجلدات الشافية "- وبينما أنا أجتاز طرقات هذه المدينة العجيبة قابلني شيخ وقور، رأيت دماءً تسيل من جنبيه، علمت أنها آثار مناشير حادة مرّت بقسوة على جنبيه. وقد دعاني إلى بيته لأغسل رجليّ وأتناول شيئاً من الطعام! ودخلتُ بيت الرجل الكريم الذي علمتُ أن المدينة دُعيت على اسمه "خلاص يهوه "أو "خلاص الله".
كان الرجل متزوجاً من امرأة فاضلة، وقد رأيتُ من بنيه اثنين. ولعل من اللائق أن أسجل بشيء من التدقيق أحداث هذه الليلة العجيبة.
دخلت البيت متردداً. وهو نفسه بدا عليه الارتباك. ترى هل يستقبلني أنا المصري في بيته؟ وهل يجلس معي على مائدة واحدة؟ هل يأكل من الطبق الواحد؟ على أن ارتباكه لم يطُل. يبدو أنه تلقَّى أوامر عليا ألاَّ يخاف. علمتُ ذلك ونحن جلوس على المائدة.
تقدم بعض العبيد ليغسلوا قدميّ... ولكن زوجته "النبية "أشارت أن يتركوها هي تقوم بهذه الخدمة. حاولت أن أردها لكنها أصرّت. ولما جلسنا إلى المائدة قال النبي اشعياء أنهم تلقوا أوامر من الجهات العليا أن يستقبلوني كملاك من السماء. كان خجلي بالغاً ولكني خضعت.
قُدِّمت في أول الأمر أطباق أطعمة خفيفة سهلة الهضم، هضمناها بسهولة. منها طبق الخَلق، وطبق عظمة الله وسمّوه وفضله على العالم كله. "السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه".
وبعد ذلك قُدِّمت أطباق من أصناف شديدة الدسم تتطلَّب قوةً خاصة لهضمها. فهذا طبق قداسة الله، وهذا طبق خطية الإنسان، وهذا طبق الناموس والذبائح، وهذا طبق طريق الغفران.
ومن أدسم الأطباق طبق "تجسُّد الخطية "و "العبد المتألم "و "الذبيحة المقبولة".
ومع أن صورة تلك الليلة ظلت محفورةً في قلبي، إلا أنه من الصعب أن أرسمها لأحتفظ بها. على أني سأحاول أن أصورها بقدر جهدي.
جلست مغمض العينين مفتوح القلب، وإذا بي أرى "خلاص يهوه "أو لنطلق عليه اسم اليهودي "اشعياء "يجلس على رأس المائدة، وعلى المقعد المقابل جلست زوجته "النبية "والى اليمين جلس ابنه الكبير "شآريشوب "والى جانبه "حاش بز "أخوه. وفي الصف المقابل جلس اثنان من تلاميذ النبي، وجلست أنا في الطرف المقابل لرأس المائدة.
اختفى هذا المنظر و إذا بي أرى الهيكل العظيم هيكل سليمان. نحن في غرفة، لا أعلم كيف أصفها. لا أقول إنها كانت مضيئة لأنها كانت شعلة من الضوء. لم أر شمساً ولا قمراً ولا مصباحاً، ولكنها كانت شمساً... بل كانت ألف شمس في كتلة واحدة. أغمضتُ عيني بشدة، ولكني ظللتُ أبصر. كنت أبصر بكل جارحةٍ فيّ. هذا كرسي هو قطعة من النور، جلس عليه كائن نوراني بهيج، تُعتبر الشمس ظلاماً بالنسبة له. كيف كنتُ أرى؟ لا أعرف، ولكني رأيت. علمت أنه السيد نفسه، وقد جلس على الكرسي العالي وأذياله تملأ الهيكل.
أين كنتُ أنا؟
لا أعلم!
ولكني أبصرتُ النبي يدخل
كان يضع برقعاً على وجهه. لكني أحسست أنه يرى. هناك ملائكة تملأ المكان. لكل ملاك ستة أجنحة، أربعة لتغطي وجهه وقدميه، واثنان للخدمة. والملائكة ترنم، وتتجاوب. في الناحية الواحدة ملائكة تقول: "قدوس قدوس قدوس"، وفي الناحية الأخرى ملائكة تجيب "رب الجنود، مجده ملء كل الأرض".
ظللتُ أسمع الترنيم والجواب... كنت أراها رهيبة مروِّعة حلوة... ماذا أقول؟ أحببتها!؟ اضطربت منها!؟ جذبتني... ودفعتني؟؟.
امتلأ المكان بالمجد والسحاب الكثيف. ومع أني لم أكن في داخل المكان لكني أحسست بالخوف يحتويني. أبصرتُ اشعياء يسقط على الأرض وهو يصرخ بصوت مبحوح: "ويل لي، إني هلكت. إني إنسان نجس الشفتين، وساكن بين شعب نجس الشفتين". ورأيت واحداً من الملائكة يأخذ جمرة من نار المذبح ويلمس بها شفتي النبي وهو يقول: "إن هذه قد مست شفتيك فانتُزِع إثمك، وكُفِّر عن خطيتك".
وسمعت كما سمع اشعياء صوتاً يقول: "من أرسل، ومن يذهب من أجلنا؟".
وإذا باشعياء يهتف وهو بعد ساقط على الأرض: "هأنذا أرسلني".
وأحسستُ أن الأرض تهتز تحت قدميّ والغرفة تدور، وأفتح عينيَّ فلا أرى شيئاً من المنظر الرهيب. ها نحن جالسون على المائدة واشعياء يتحرك ببطء وقد تجلت الرهبة في وجهه، ويتمتم بصوت خافت: "ما أرهب هذا المكان! حقاً إن الله في هذا المكان".... ثم قال بصوت مسموع: "رأيت الله". نعم رأيت الله المهوب المخوف، الله الذي ظهر ونقَّاني وأرسلني. الله الذي لم أره بعيني، لكني رأيته بروحي والذي لا أعرف صورته. الله الذي هو نور من نور. الله القدوس، الذي مجده ملء كل الأرض!
وتحدث اشعياء عن هذه الرؤيا بما رأيتُه أنا. وهنا سألت نفسي: "هل كنت أرى؟ هل كنت ُ أحلم؟ هل هو الله الذي رأيته؟". لا أعلم!
جلسنا فترة طويلة نتحادث...
أحسستُ مرة أخرى أن الدنيا تدور بي. أغمضتُ عينيَّ وذهبتُ في غيبة. على أني أثناء ذلك رأيتُ طريقاً دائرياً.
ينبغي أن أعترف أني ارتكبت أخطاء كثيرة في سياحتي. كنت أميل غير عامد بالطبع عن الطريق، وأقابل أشخاصاً لهم مكانهم وأتحدث معهم، لكني واأسفاه كنت أنسى كل شيء. وعندما عدتُ إلى مذكراتي اكتشفتُ أني قابلت موسى وداود واشعياء أكثر من مرة، وكتبتُ عن لقائي مع هؤلاء أكثر من مرة، وكنت أكرر نفس الكلمات. ومن عجب أن هؤلاء العظماء لم يردُّوني، ولم يقولوا لي إنهم سمعوا مني كلامي الفارغ أكثر من مرة. لقد احتملوني، والله احتملني لأنه يعلم إخلاص قلبي.
لقد علمتُ أنه سمع من غيري وعفا، لأنه الله. علمتُ أن داود قال له مرة: "لماذا تنساني كل النسيان؟". وقال له مرة: "استيقظ! لماذا تتغافى؟". لذلك أثق أنه سيصفح عني في ما تجرأت فيه ونطقت. سأقول له إني أرفض وأندم في التراب، واني نطقت بما لم أفهم. ها أنا حقير، فماذا أقول؟ وضعتُ يدي على فمي... وأنا واثق أنه سيسامحني. هو يعلم أني أبحث عنه. وأن ما تكلمت به عن الله لم يكن بالتأكيد عنه هو. انه أعظم مما قدمه موسى أو داود أو حتى اشعياء. وأنا قد تكلمت عن الإله الذي قدموه....
وها أنا أضع مذكراتي التي عثُرتُ عليها قبل مذكراتي عن لقاء اشعياء.
- عدد الزيارات: 2654