الفصل الخامس: مدينة النبي داود
وفي الطريق تقابلت مع داود. لقد سبق أن حدثوني عنه. ذكروا لي أوصافه فعرفته لما رأيته. تقدمت منه مندفعاً، قلت: "أسعفني يا داود. هلَّا كشفتَ لي بعض ما أُغلق عليّ في هذا الطريق. إن السير معك يملأ النفس بالاطمئنان. إن كلامك عن الله كلام شخص سار مع الله. في بعض ما كتبت – أظن أن الأجدر أن أقول – في الكثير مما كتبت أنحني ساجداً. قرأتُ المزمور الأول والثالث والرابع والكثير من المزامير الباقية... قرأت مزاميرك التي تتغنَّى فيها بالشركة مع الله. قرأتُ المزمور الثالث والعشرين: "الرب راعيَّ". مزمور "الرب نوري وخلاصي". مزمور "ارحمني يا رب". مزمور "السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه... ناموس البر كامل... أشهى من الذهب والإبريز الكثير، أحلى من العسل وقطر الشهد"... "أيها البر سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض. من أفواه الأطفال والرضَّع أسستَ حمداً"... "واحدة سألتُ من الرب وإياها ألتمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر جمال الرب وأتفرس في هيكله"... "بم يزكّي الشاب طريقه؟ يحفظه إياه حسب كلامك. خبأتُ كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك". وكثيراً من مثل هذا، مما قدم لي إلهاً عظيماً يستحق أن أركض لكي أصل إليه. بل انك في مزاميرك فتحت أمامي باب الأمل أن أنظره "لأن الرب عادل ويحب العدل. المستقيم يبصر وجهه". وأنت قد علمت أني خرجتُ من دياري أبحث عن الله. ترى أين أجده. قالوا لي انك خير من يدلُّني على الطريق. وقد سمعتُ الكثير من كلامك وابتهجت.
لكني ما أن توغلتُ فيه حتى عدتُ أدراجي خائبا ً. كيف تفسر لي ما ذكرته في بعض مزاميرك؟! مثلاً: "لذلك لا يقوم الأشرار في الديِّن، ولا الخطاة في جماعة الأبرار" – "لأنك ضربت كل أعدائي على الفك. هشمت أسنان الأشرار" – "قم يا رب بغضبك" – يمطر على الأشرار فخاً وكبريتاً، وريح السموم نصيب كأسهم" – "خاصم يا رب مخاصميَّ. قاتل مقاتليَّ". "ليكن طريقهم ظلاماً وزلقاً، وملاك الرب داحرهم". وماذا تقول في طلبتك: "اذكر يا رب لبني أدوم... يابيت بابل، طوبى لمن يجازيك جزاءك. طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة".
هل يمكن يا داود العظيم أن توضح لي كيف يكون طريقٌ إلى الله بهذه الصورة؟ لقد سرَّني أن أرى الله الراعي والنور والخلاص والقداسة والفرح، الله الذي يرعى ويهدي ويعطي وينقذ. ولكنك عدتَ وقدَّمتَ لي الله الذي له أعداء، والذي يبغض أعداءه ويسحقهم ويلاشيهم ويضرب أطفالهم بالصخرة. لا تنظر إليَّ شذراً يا داود. إني أبحث عن إله يختلف عن الإله الذي قدمته لي في بعض الأوقات. انك قدمت لي إلهاًَ متناقضاً. قدَّمت لي إلهاً لليهود يختلف كل الاختلاف عن إله الأجانب. ترى هل هما إلهان؟ إله لليهود واله لغير اليهود؟ لقد سمعتُ أنه إله واحد، ولذلك بحثتُ عن هذا الإله الواحد فلم أجده. أم هو إله واحد له وجهان؟ فكيف يكون مضيئاً في هذه الناحية، ومظلما ًفي الناحية الأخرى؟ اليوم فقط قرأتُ لك ما يقوله هذا الإله "الله قد تكلم بقُدسه. أقسِمُ شكيم وأقيس وادي سُكُّوت. لي جلعاد ولي منسى. وافرايم خوذة رأسي، يهوذا صولجاني. موآب مرحضتي، على أدوم أطرح نعلي". وقرأتُ لك يا داود عن أعدائك أنهم يدخلون في أسافل الأرض. يُدفعون إلى يدي السيف، يكونون نصيباً لبنات آوى "فيرميهم الله بسيفه بغتة" لقد اندهشت أن هذا الإله له أعداء، وهو يحاربهم ويضربهم بكل ما يملك من قوة، بل يتحداهم ويقف أمامهم منافساً، كأنه يضع نفسه معهم على نفس المستوى، وان كان يفوقهم قوة!!
لقد رأيتُ آلهة تحب الحبيب وتبغض العدو، فلم أقبلها. لم أستطع أن أرى فيها ما يرفعها إلى مقام الآلهة، فخرجتُ أبحث عن إله، لا يعرف البغض ولا القسوة ولا الانتقام!!؟ فلما رأيت إلهكم أيها اليهود أُعجبت به في أول الأمر، لوحدانيته، ونقاوته، وقداسته وقدرته، وسموه... ولكن واأسفاه، لقد خاب ظني في الإله الذي قدمتموه، فقد قدمتموه في صورة إله ضيق محدود قاس، سطحي لا يهتمُّ إلا بعبادة الشفتين.
ثم ما هذه التي تسموُّنها الخطية؟
وما هي نظرة هذا الإله بالنسبة لها... كيف عالجها؟ ما هي التعقيدات التي لم أستطع فهمها؟ ذبيحة خطية، ذبيحة محرقة، ذبيحة كفارة، مذبح نحاس، مذبح ذهب، تابوت عهد. ذبائح يومية، ذبائح أسبوعية، ذبائح سنوية. أما من آخرٍ لهذه الذبائح؟ أما من علاج للخطية؟ بل رأيتُ إلهاً منتقماً يحرق البلاد التي لا تقدم الذبائح، ويقلبها رأساً على عقب. لا يعالج الخطية لكن يقتل الخاطئ... كلا. كلا. ليس هذا هو الإله الذي أبحث عنه. لقد كنت أظن أني وجدتُه في اليهودية، لكن واأسفاه! واأسفاه! خاب أملي وضاع رجائي!!".
كان داود يستمع لي وقد تجلّت ابتسامته باهتةً على وجهه. كنتُ أتحدّث لاهثاً وقد امتلأ جسدي كله من العرق. فلما فرغتُ امتلأ وجهي بالدموع، وصرختُ: "حقاً إني يائس. لقد ظننت أني وجدت الله عندكم... أين أجدك يا من تركتُ كل شيء في سبيلك؟".
التفت اليّ داود مواسياً وقال: "لا بأس عليك يا صديقي، أخشى أنك أخذتَ الأمور من غير الناحية الصحيحة. إن الإله الذي حدَّثك اليهود عنه هو الإله الحقيقي، الإله القدوس. ولكننا كبشرٍ لم تستطع عيوننا الكليلة أن تراه كما هو. ولم تستطع أفهامنا المحدودة أن تعرفه. لقد تحدث إلينا كما يتحدث الأب الكبير إلى ابنه الصغير الطفل. وكان من رأفته أن تحدث باللغة التي يمكن أن نفهمها. وقد تلاحظ أحياناً أن بعضنا قد يرى أكثر من غيره، وأن الناظر منّا قد يرى اليوم أكثر مما رأى بالأمس. قد رأيتَ ذلك ولاشك في المزامير التي وضعها الله على فمي. فقد رأيتُ في أحد الأيام مقام الذبيحة ومكانها، وفي يوم سمعتني أقول: "بذبيحةٍ لا ترضى، وإلا فاني كنت أقدمها. ذبائح الله هي روح منكسرة". والمزامير صورة حقيقة للإنسان في ضعفه وفي قوته. تراه اليوم يرتفع إلى قوة السمو، وتراه في الغد ينخفض إلى وادي الاتضاع. تراه يوماً يضربه قلبه وهو يمزق جزءاً من جُبَّة شاول، وتراه يوماً آخر يسلب قريبه حياته "ويتزوج "من أرملته، وينام ضميره سنةً أو نحو سنة – والله يا صديقي أرأفُ بنا من أنفسنا ومن الناس. هذا هو الإله الذي تبحث عنه يا صديقي... انه ليس آلهة. انه إله، واختلاف الصورة سببه في الإنسان لا في الله. إن عيوننا لا ترى إلا شعاعة ضئيلة من نوره. وأفهامنا لا تستطيع أن تصل إلى أعماقه".
قلت: "ولكن شعبك لا يقول بذلك. انه يقدّم لي هذا الإله، لا على أنه أعظم من الصورة التي يرونها، ولا على أن عيونهم وأفهامهم تقصُرُ عن أن تصل إليه. إنهم يقدّمونه بصفته الإله الذي يحب ويبغض ويكافئ وينتقم. له أحباء وله أعداء. ولئن كنتُم وقد سرتك معه طويلاً وسمعتم صوته كما قال لي بعضكم، وبنيتُم لم مكاناً مقدساً وقدمتم له قرابين وذبائح، لئن كنتم أنتم تقولون: "إله إسرائيل: يهوذا صولجانه وموآب مرحضته وعلى أودم يطرح نعله". لئن كنتم أنتم تقولون ذلك، فكيف أستطيع أنا أن أراه غير ذلك؟ ما هو الفرق بينه وبين أوزيريس وست، أو بينه وبين زفس وهرمز؟ ما هو الفرق بين إلهكم وآلهة اليونان وآلهة فارس وعشتار. وآلهة الهند التي سمعت عنها كالي وزوجها؟
حقاً أنا تعيس!
عندما وصلتُ إلى حدود بلادكم ظننتُ إني وصلت إلى نهاية رحلتي. قلت أقيم هنا وأتزوج هنا وأبني بيتي هنا وأعمل... إلى أن تنتهي الأيام وأذهب إلى --- بل يبدو أني نسيت شيئاً
ما هي النهاية؟
لقد تحدثتم معي عن اليهود وحياة اليهود وبركات اليهود، أولاد اليهود... أحفاد اليهود، غلال اليهود، كروم اليهود، لكنكم لم تتحدثوا اليّ عن آخرة اليهود... ماذا بعد الموت؟
ولئن لم تكن لكم أيها اليهود آخرة، فلماذا يكون لموآب وماذا يكون لأدوم؟"
حاول داود أن يقاطعني لكني كنت مندفعاً كالسيل. على أنه استطاع أن يتكلم أخيراً. انتهز فرصة صمتي لحظة لألتقط أنفاسي فقال: "اسمعني يا صديقي. إن رحلتك لم تنته بعد. هذا صحيح من ناحية، ولكنها من ناحية أخرى قد انتهت. أقصد أنك قد وصلتَ إلى الطريق، فقد وصلتَ إلى حدود مملكة الإله الواحد الحقيقي القدوس الطاهر. ولو فتحت عينيك، أو على الأصّح لو أنك تترك عينيك فلا تضع يدك عليهما، لرأيت الإله الحقيقي. وأنت تراه في اليهودية بصورة أكثر وضوحاً مما تراه في أي مكان آخر رأيته فيه".
قاطعتهُ قائلاً: "هل تعني أن الإله الحقيقي سبق لي أن وصلت إليه؟"
وأجاب: "نعم. نعم. انه الكائن الأزلي. لقد كان. وهو كائن. فقد تجلى في السموات والأرض. السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. الطبيعة تعلنه، ولكن عيون البشر كانت عاجزة فلم تره هو. ظنت أنه هو الطبيعة. ظنت أنه الشمس، فعبدت الشمس، أو أنه القمر فعبدت القمر. عبدت الزهر والشجر، والنهر والبحر والجبل، والحيوان والنبات، مع أن هذه كلها من خَلق ذلك الإله غير المنظور، وهي تتحدث عنه. واليهود رأوا من الله أكثر مما رآه غيرهم، على أنهم فعلاً لم يروه، لأن الإنسان يراه ولا يراه. يراه لا بعينه لكن بكل ما فيه من حياة. وكان خطأهم أنهم ظنوا أنهم وصلوا. عبدوا الخيمة والهيكل والمذبح والناموس والتقاليد. وإذ ذاك قدموا للعالم صورة زائفة لله، فلم تره على حقيقته. قالوا إن كل آلهة الأمم باطلة. إلههم هو الإله الحقيقي الوحيد. وكان كلامهم صحيحاً، ولكنهم أساءوا تقديمه. قدَّموا للعالم إلهاً محدودا ً جداً ليس له إلا حفنة من الناس الموالين له، إلهاً قاسياً جداً يبغض غير اليهود بغضاً قاتلاً، ويطلب أن يقتل غير اليهود ويُسحقوا ويُلاشوا. لم يستطيعوا أن يدركوا أن اختيار الله لهم كان ترتيباً سامياً لقصد أزلي هو بُسطُ الله على كل العالم. ظنوا أن الله لهم وحدهم، يحبهم هم ويكره غيرهم – وأنت قد رأيت ذلك يا صديقي حتى في أنبيائهم. ألم تروِ لي أن أحد أنبيائهم غضب غضباً عظيماً عندما أشفق "إلههم "على شعب آخر... بل طلب لنفسه الموت؟".
هنا قلت لداود: "انك تنسب الخطأ إلى النبي ولكن النتيجة واحدة. بل أكثر من ذلك فان نبياً آخر ذكر ذلك الشعب بكل سوء وأنبأه بسوء المصير. لاياسيدي. ليس هذا هو الإله الذي أبحث عنه. إنني أبحث عن إله آخر، أستطيع أن أقول له أنا الأممي، أنا الغريب، أنا الجاهل، أنا الخاطئ، نعم أنا من أنا، أستطيع أن أقول له: "يا الهي". ويستطيع أخي أن يقول له: "يا الهي".
ويستطيع كل مخلوق أن يقول له: "يا الهي". فهل عندك هذا الإله؟ ها قد مرت عليّ سنوات هذا عددها وأنا أبحث عنه. أريد أن أستقر يا سيدي. أريد أن أستريح. أريد أن أتزوج وألد بنين أقدِّم لهم الإله الذي أبحث عنه".
وانحنيت إلى الأرض. وبكيت ما شاء لي البكاء. غرقت في دموعي. غرقت ثيابي وابتل التراب الذي انكفأتُ بوجهي عليه، وارتفعت شهقاتي وصرختُ من أعماق قلبي: "أيها الإله، إن قلبي يحدثني أنك موجود. لا بد أن تكون موجوداً. لا يمكن إلا أن يكون لك وجود. أنت موجود في مكان ما. نعم أنت موجود، لكن أين؟ لقد تعبتُ وأنا أبحث. كلّت قدماي. كاد شبابي يولّي. أين أنت؟ لقد أخبروني أنك قلت: "الذين يبكرِّون إليَّ يجدونني"... أنا ألتمس منك – إن كان لك وجود – أن تدلني أين أنت؟".
وفيما أنا جاثٍ سمعتُ صوتاً هامساً يقول: "سِر في طريقك فانك ستصل إليه. انك تراه اليوم في الرموز. تراه كما في مرآة. ولكنك ستصل يوماً إلى رؤيته. ولو أني أشك أنك ستصل إلى رؤيته الكاملة. لقد أخطأت يا صديقي إذ ظننتَ أن مدينة اليهودية هي المدينة النهائية. إنها هي إحدى المدن التي تمر بها في الطريق. لستَ وحدك الذي أخطأت. أنا أخطأت والشعب أخطأ. إن المدينة التي تقصدها لا تزال أمامك. بينك وبينها مسافة. صحيح أن الطريق يمرُّ باليهودية، ولكنه لا ينتهي بها.
لقد سلك البعض عن غير طريقها، لكن كان ذلك قبل أن يرسم الله هذا الطريق. وضع الله اليهودية ظلا للحقيقة ورمزاً لمرموز... وفيها نبصر الله الذي أحب الإنسان الخاطئ ورسم له طريق الفداء. على أن اليهود لم يستطيعوا أن يفهموا أم مدينتهم ليست المدينة النهائية. إنها ظل للأمور العتيدة ورمزٌ لأمورٍ آتية. لذلك سر يا بنيَّ إلى الأمام. سر فستصل إلى هدفك المنشود.
لقد مررتَ ولا شك بمدينة الوعد الأول، وبمدينة ذبيحة هابيل، وحمل اسحق والنظام الموسوي. كل هذه منازل في الطريق إلى مدينة الملكوت... إذ انتهت أيامك قبل أن تصل فلا تأسَ لأنك ستراه من بعيد. ولكني أصلي أن يبقيك الله حتى تصل إلى المدينة التي ترى فيها السيد في كمال مجده. لقد رأيته أنا عن بُعد. نعم عن بُعد، وكان ابتهاجي بذلك لا حدَّ له!!
كلا، انك لم تصل بعد. لا تخطئ كما أخطأنا نحن، فتظن أن مدينة اليهودية هي نهاية المطاف".
تركت المكان وسرت... ينبغي أن أعترف لنفسي هنا أولاً، ولمن يقرأون مذكراتي – إذا وجُد من يقرأها – ينبغي أن أعترف أن الأمور اختلطت أمامي. في الطريق لقيت داود واشعياء وملاخي وغيرهم، فهل لقيتم مرة واحدة؟ وهل تكلمتُ معهم مرة واحدة؟ وهل صدرت شكواي مرة واحدة، أم حدث ذلك عدة مرات؟ إن رأسي تدور كعجلة، وأنا أرى داود وأتكلم معه، ثم يتركني وأتكلم مع اشعياء... ثم أجدني لأتكلم مع داود وأسأل نفسي: "هل هذا تكرار حقيقي، أم دوران في رأسي؟". وقد جلست بكل إخلاص أراجع نفسي ولم أصل إلى نتيجة. لمتُ نفسي في أول الأمر ثم عدتُ فسامحتها، فأنا أسير مسافات طويلة، وأبصر أشياء كثيرة، وأشخاصاً مختلفين... وعليه فسأترك مذكراتي كما وجدتُها مختلطة. أنا لا أفهمها تماماً... ولعل قارئيها يكون حظهم أفضل من حظي.
- عدد الزيارات: 3075