الفصل الرابع: مدينة التقاليد
وفيما أنا منشغل بالتأمل في شوق قلبي إلى إله يجمع بين فكري وقلبي، انحدرتُ في طريق جانبي. لم أدرك أني خرجت عن الطريق المرسوم إلا بعد أن توغَّلتُ فيه.
كنت أعتقد أن الطريق جزء أصيل من المدينة. بل إن الكثيرين قالوا لي إن هذا الطريق هو الجزء الأصلي من المدينة!!
علمت أن الطريق اسمه "شارع التقاليد". ابتدأ في أول أمره ملاصقاً تقريباً تماماً للشارع الذي أرشدني إليه، ولكنه، دون أن أدري جعل ينحرف وينحرف حتى اتسَّعت المسافة بينهما. أحسستُ أني أدخل مدينة أخرى لا علاقة لها بمدينة إله العجائب. في هذا الشارع ظلَّ القوم يدعون نفس الإله. لم يتركوا الإله الواحد القدوس. صحيح أن كثيرين من سكان المدينة انزلقوا إلى القرية المجاورة وعبدوا آلهة أخرى. حدث هذا كثيراً. عبدوا آلهة مصر وآلهة فلسطين وآلهة اليونان. لقد كان في آلهة الأمم ما يتَّفق مع الطبيعة الجسدية المنحدرة. والانحدار سهل بخلاف التسلُّق فوق الجبال. حاول الكثيرون أن يقودوني إلى تلك الآلهة، ورفضت بشدة. لقد كنت أحملُ في جسدي جروح آلهة مصر. وقد ارتحتُ كثيراً إلى إله إسرائيل، الإله الواحد القدوس الطاهر. ارتحتُ وأنا أشاهد آياته وعجائبه – انه الذي هزم كل قوات العالم. على أني وأنا أغبّط نفسي أني ظللت متمسكاً بهذا الإله الواحد، اكتشفت انحداري البعيد عن الطريق الأصلي!!
من الغريب أن سكان هذا الشارع يدَّعون أنهم يؤمنون بما سبق أن تلقُّوه. "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد". هو رب واحد، ولكنه لا يخصُّ من البشر غيرنا نحن... انه إلهنا وليس إله غيرنا من الناس. عرفت ذلك بكل أسف من أشخاص كنتُ أُوليهم كل إكرام!!
رأيت في طريقي رجلأ وقوراً يركض في هلع نحو الغرب، وهو يتلفت حوله بين حين وآخر. اقتربت منه وأنا متردد وسألته ما به، فقال: "أنا نبي لله. أنا يونان، لله سيدي وإلهي. لقد عشت أميناً له كل أيام حياتي. ما كنت أظن أن أيامي تنتهي بكارثة كالتي أجوزها اليوم". وقال وهو يخرج كلماته بصعوبة: "لقد صدر إلي الأمر أن أذهب إلى نينوى المدينة الملعونة، التي لا صلة لها بإلهنا، المدينة الشريرة... صدر إلي الأمر أن أذهب إليها، أدوس أرضها النجسة. وأنذرها أنه قد صدر الأمر بهلاكها. ستحرق كما احترقت مدينة سدوم قديماً. طلب مني أن أنادي: "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى". قلت: "وما الذي يضيرك في هذا الأمر؟ أحرى بك أن تركض لتبلغها شامتاً "هذا الخبر السار" لماذا لا تركض، وبعد أن تنذرها بهذا الإنذار الخطير يمكنك أن تجد ركناً قصياً تجلس فيه لتشاهد انقلاب المدينة؟" – لكنه أشار بيده كأنه يطرد شراً مستطيراً وقال: "أذهب لنينوى؟ أدوس بقدمي أرضها النجسة؟؟ كلا، كلا، إني أعلم أنه سيصفح عن المدينة إذا ما تواضعت أمامه وتابت عن شرها. إنها كارثة كارثة أن تكون لي يد في نجاتها، كلا، كلا. أنا يونان النبي – نبي الله – الله، إله إسرائيل. هل أقدم لتلك المدينة الملعونة فرصة للتوبة؟! لا، ليت أمي لم تلدني إذا كان مصيري هذه النهاية المروعة!!".
وقد علمت في ما بعد أن الله تعقب النبي وألزمه أن يقوم بالمهمة التي أوكلها إليه، وأن المدينة تذللت أمام الله بالتوبة الصادقة، وأنه عفى عنها – ورأى النبي هذه النتيجة فانطرح على الأرض صارخاً، "ربي، خذ نفسي. موتي من حياتي".
قلت المدينة لأحد أنبياء: "لا يمكن أن يكون إلهكم هذا هو الله الذي ظهر لموسى، الإله الذي خلق آدم والذي جبل الناس أسرة واحدة". قال: "بل هو الله الذي أخبرنا به موسى، ولكنه ليس إله كل الناس. إنه إلهنا نحن فقط. إننا نحن شعبه، وبقية العالم أمم، كلاب، خنازير، أعداء، سندوس نحن على رقابهم. هكذا علمنا آباؤنا".
ربي.... هل أتجاسر وأقول "ربي". إن هذا الإله الذي يحدثونني عنه ليس هو الإله الذي أحببته. إني أكاد أقول: "إني أبغضه. سامحني إن كنت أنت هو. لكن لا يمكن أن تكون أنت هو. لا يمكن أن يكون إله هذه المدينة هو الإله الحقيقي. الإله الحقيقي لا يمكن أن يكون إلهاً محدوداً ضيقاً، له خاصة وله أعداء، يحب أقلية ويلعن باقي العالم!!".
و على مبعدة من المكان أبصرت مشهداً كبيراً. مظاهرة ممن يدعون أنفسهم شعب الله يقولون: "اقتلوه. مزقوه. خذ هذا من الأرض. لا يجوز أن يعيش. إنه يريد أن يجمع بيننا وبين الكلاب. يريد أن يقول أن إلهنا هو إلههم أيضاً".
وقد أدعى أولئك الآباء أنهم يقولون ما يقولون مستندين على أقوال الله وما جاء في عقد الشروح والتقاليد!! بل قد وصل بهم الأمر أنهم طرحوا كتاب الله جانباً ونادوا بالتقاليد.
لا زلت أسير في شارع التقاليد. إنه شارع كبير جدً. إنه أكبر من مدينة. رأيت أناساً يقفون رافعين أيديهم نحو السماء يصلّون. لم يكونوا بالحقيقة يصلّون. كانوا يدّعون أنهم يصلّون. رأيت أيديهم مرفوعة في صورة تعبّد عميق. ولما تأملت الأيدي وجدتها ملوثة بالدم. القتل والسرقة والظلم. يقولون إن الله يطلب أن يصوموا ويحاسبهم إذا أفطروا. ويطلب منهم أن يصلّوا عدداً من الصلوات ويحاسبهم إذا قصرّوا. يلزم أن يقدموا عدداً من الذبائح، وينتقم منهم إذا لم يفعلوا. إن إلههم يطلب منهم أن يقوموا بالفرائض. لا يهمه إلا أن يقوموا بها. يقدمون صورة مشوهة لله.
تعبت من السير في شارع التقاليد!
رأيت "حارة العشور"
" وحارة حفظ السبت"
ما أكثر الحواري التي رأيت فيها أشياء ملأت قلبي ألمأ وحزناً. كرهت الدين والصلاة. كرهت المدنيين والمتعبديين لله. بل كرهت إلهم.
قلت لهم: "إذا كان هذا إلهكم حقاً فإني لن أتعبد له. إن إلهكم محدود، ضيق، قاس، سطحي. ما هو الفرق بينكم وبين غيركم من الشعوب؟ ما الفرق بين إلهكم وآلهتهم؟ إن إلهكم فاق في بغضه للناس. فهو لا يحبكم ولا يهتم بكم إلا إذا رشوتموه بالعطايا و التقدمات والذبائح. أما أولئك فمعذورون لأنهم كانوا يعيشون في الظلام وكانوا عمياناً، أما أنتم فتقولون أنكم تبصرون، وان إلهكم هو الإله الحقيقي وان لكم ناموساً، وان لكم هيكلاً ولكم عبادات ولكم و لكم.... ومع ذلك. فما هو الفرق بين إلهكم وآلهة الأمم؟ كلا إني لا يمكن أن أقبل ذلك الإله!".
وعاش اليهود كل حياتهم في مدينة التقاليد!
لقد أكرمهم الله وجعل الطريق السوي يمرّ بهم، ولكنهم ظنوا أنه انتهى بهم. ظنوا أن اليهودية هي نهاية الإعلان، وأن لا سبيل إلى الله إلا عن طريقهم!
لم أسترح إلى اليهودية لأنها لم تقدم لي الله الذي يشبع قلبي. قدمت لي إلهاً ضيقاً محدوداً، قاسياً يبغض كل الناس. حتى الذين اختارهم عندما كانوا ينزلقون بعيداً عنه. قال مرة: "كل شرهم في الجلجال. إني هناك أبغضهم".
لم أسترح إلى اليهودية لأني رأيت فيها الكبرياء والتعاظم واحتقار الآخرين وبغض الأمم وطلب سحقهم وتدميرهم. وهم ينتظرون مسيحهم الذي سيملك في عاصمتهم، ويعطيهم الحق أن يضعوا أقدامهم على أعناق باقي الناس. وسيقيم مائدة يجلسون هم عليها وتخدمهم الملائكة. ولا يسمح لأي إنسان من غير اليهود أن يجلس عليها!!
لكني لم أعلم إلى أين أذهب...
لقد قالوا لي إن الطريق الوحيد للوصول إلى الله هو الطريق الذي أسير فيه، وأنا مضطر أن أسير فيه!!
- عدد الزيارات: 2760