الفصل الثالث: اله اليهود – إله العجائب
أُعجبتُ بإله القوات وإله الشريعة. لكني مُنعت من أن أدعوه "الهي". قالوا لي انه ليس إلهك أنت. انه "إلهنا نحن"... وسألت باندهاش: ولماذا لا يكون الهي أيضاً؟
ومع ذلك سرتُ خلف دليلي الذي ارتضى أن يقودني إلى مدينة العجائب. انحنيت بل انكفأت على الأرض مذهولاً. حقاً انه عظيم، إله العجائب. مكثت في المدينة مدة طويلة. قلت في نفسي: هذا إله يستحق العبادة حقاً. كم مكثت في هذه المدينة من الزمن؟ لا أعلم. ولكني كنتُ كل يوم أرى عجيبة.
أ. أقوى من النار
رأيت شباناً ثلاثة يتعبَّدون لذلك الإله. ورأيتُ ملكاً طاغيةً يقيمُ تمثالاً عظيماً من ذهب ويقول هذا الهي الكبير. هذا أعظم الآلهة! ونادى رجاله: "هلموا ياقوم اسجدوا له، فويل لمن لا يسجد". وسجد الناس كلهم. ولكن أولئك الثلاثة لم يسجدوا. وجاء خصوم لهم وشكوهم للملك، فأحضرهم الجنود. وكنت أظن أنهم يأتون منكسي الرؤوس، ولكن ياللعجب! لقد جاءوا مرفوعي الرؤوس، ووقفوا أمام الملك وقفة التحدي.
وصاح الملك فيهم: "ألم تسمعوا أمري؟ ألم تعرفوا أن قصاص المخالف عذاب أليم: أن يُطرح في بحيرة النار؟" وصمت الملك قليلاً ثم قال: "ولكني أشفق عليكم أشفق على شبابكم. سأمنحكم فرصة لتعودوا إلى رشدكم وتسجدوا لإلهي. وإلا فبحقّ الآلهة سأذيقنكم الويل والثبور وعظائم الأمور. ومن هو الإله الذي ينقذكم من يدي؟"
وأجاب الشبان الثلاثة بلسان أحدهم: "يا نبوخذ نصر الملك، أيها الإنسان الضعيف، انك إنسان ونحن نتحدى الإنسان. إن لنا إلهاً قوياً. إلهاً أقوى. لا. لا. لا نقول إله الآلهة ورب الأرباب. إلهاً يقدر أن ينجينا منك ومن بحيرة النار التي أشعلتها. على أنه إذا شاءت إرادته لحكمته العالية ألاَّ ينجينا منك ومن بحيرة النار التي أشعلتها، فان ولاءنا له لا يتغير. لن نسجد لتمثال الذهب الذي أقمته... كلا. لن نسجد".
وغضب الملك غضباً عظيماً، أمر أن تُحمَّى البحيرة أضعافاً مضاعفة، وأن يُطرح الشبان فيها كما هم... بثيابهم.
وتقدم الحراس منهم وقيِّدوهم بالحبال بكل عنف، ورفعهم عدد من الأشداء وقذفوا بهم واحداً واحداً. كان لهيب النار عالياً حتى أنه أحرق الرجال الذين قاموا بقذفهم. أما الشبان الثلاثة فسقطوا كما هو في وسط النار.
كان الملك ينظر إلى بحيرة النار وبيده منظار كبير، كان يرصد به الأفلاك، شأنه شأن قومه الكلدانيين... كان يتمتم: "لا شك أنهم انتهوا قبل أن يصلوا إلى قاع البحيرة. لا شك أنهم انتهوا في لحظة"... على انه قبل أن يفرغ من تمتمته صاح بعظيم انذهال: "ما هذا؟ هلموا أيها الحراس. هلموا وانظروا. هل تخدعني عيناي، أم يخدعني هذا المنظار؟ ألم نطرح شدرخ وميشخ وعبد نغو في النار. ألم نطرح ثلاثة؟ هلموا وانظروا، انظروا أربعة يتمشون... يتمشون في النار. هل صارت النار حديقة... والرابع، إن جسمه أشد لمعاناً من النار. انه إله! هو إله حقاً!!".
ونظر رجال الملك ما رآه الملك...
وصاح الملك بصوت مرتفع: "يا شدرخ وميشخ وعبدنغو، يا عبيد الله العلي، يا عبيد يهوه، يا عبيد إله اليهود، اخرجوا وتعالوا".
وخرج الشبان ووقفوا أمام الملك.
واجتمع حولهم رجال الملك.
وأحاطت الجماهير الغفيرة بهم،
ووقفت أنا خلف الأجيال أنظر إليهم.
لم تستطع النار أن تترك أي أثر فيهم... أم لعلي أن أقول أنها تركت، فقد احترقت الحبال التي كانوا مقيَّدين بها. لكنها لم تحرق شعرة واحدة من شعورهم!
وبينما نحن في أشد انذهال، وقد ران علينا صمتٌ رهيب. قام الملك من عرشه العالي وانبطح على الأرض، ثم وقف ورفع وجهه نحو السماء وقال:
" تبارك إله شدرخ وميشخ وعبد نغو، الذي أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه وغيّروا كلمة الملك، وأسلموا أجسادهم لكيلا يعبدوا أو يسجدوا لإله غير إلههم". ثم رفع صوته وقال: "فمنّي قد صدر أمر بأن كل شعب وأمة ولسان يتكلمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبد نغو، يُصيَّرون إرباً إرباً، وتُجعل بيوتهم مزبلة إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجي هكذا؟!!".
ياله من إله. إله عظائم هو، هل يوجد نظيره؟
مكثت طويلاً في هذا الشارع أتأمل في هذا الإله الذي يُجري آيات مدهشات. أُعجبت به، ولكني لم أستطع... ربي، ماذا أقول؟ إني بالطبع لا يمكن أن أتكلم بالسوء عليه. انه إله عظيم مقتدر جبار. ولكنه إله شدرخ وميشخ وعبد نغو. إن اسمه ليس الهي. انه ينبغي أن ينال الاحترام. لا يجوز لأحد أن يتكلم عليه بالسوء. ومن يتكلم بالسوء عليه يُصيَّر إرباً إرباً. ولكن الإله الذي أبحث عنه إله أرغب أن يملأ قلبي. لا أمتنع فقط عن الكلام بالسوء عليه، بل إله أتغنَّى بحبه. يحبني وأحبه.
لم أعجب أن القوم لم يتركوا آلهتهم ويعبدوه. إنهم لم يعودوا يتكلمون بالسوء عليه، ولكنهم لم يحبوه. انه إله اليهود وليس إلههم.
وأنا... لم أنسَ ذلك الإله. أحسَستُ أنه يملأ جانباً كبيرا ً من فكري. احتلًّ جانباً من قلبي. ولكنه لم يملأه. كنت في حاجة إلى إله أعظم من إله المعجزات.
ب – أقوى من الوحوش
على أني لم أترك هذا الشارع. انتظرت فيه... وقد رأيت... رأيت آيات أخرى...
هو ذا أحد أتباع ذلك الإله، وكان يتميَّز بالحكمة والأمانة، وقد قلّده الملك منصباً رفيعاً، بل فكر أن يقلّده أرفع منصبٍ في الدولة يلي منصب الملك مباشرة، مما أثار عليه غيرة الآخرين. فخطَّطوا لمؤامرة خبيثة تودي به... مؤامرة مُحكمة تعاون فيها شرُّهم مع غباوة ملكهم – أقنعوه أن يجعلوا منه الإله الأوحد لمدة شهر كامل يتعبد له الجميع، وحده دون سائر الآلهة، فلا يطلبون مدة ذلك الشهر أي شيء إلا منه هو.
كانوا يعلمون سخافة هذا التدبير، وأنه لا يتفق مع عقل أو منطق. وكانوا يعلمون أنه لا يمكن أن ينفذه إنسان. ولكنهم قصدوا به تحدّي الوزير المقصود. فهو لن يمتنع عن رفع صلواته لإلهه. وكان هو كل ما يهمُّهم في الأمر. واقتنع الملك الأحمق أن في ما اقترحوه تكريماً له، واقتنع أن يجعله مرسوماً ملكياً لا يستطيع أحد أن ينسخه، ولا يستطيع الملك نفسه أن ينقضه.
وتمَّ لهم ما أرادوا. فان دانيال الوزير أبى أن يستمع لصوت نصيحة أو عقل، فيمتنع عن رفع صلاته لإلهه. إن ولاءه لله لا يقف في سبيله قوة... نفس الحياة أضعف من أن تتحداه!
وطُرح دانيال في جب الأسود. وتحدَّث أعداؤه ساخرين عن إلهه. دعنا ننتظر هل يستطيع إلهه أن ينجيه؟ لقد مضت مدة طويلة مذ رأى الناسُ إله إسرائيل ينجي أتباعه من النار. مات الملك نبوخذ نصر وملك بعده نابونيدس وبيلشاصر. وجاءت دولة فارس وهذا داريوس. ربما كانوا قد سمعوا أن إله دانيال كانت له مآثر في القديم، لكن لابد أنه شاخ وفقد قوته. على أن ذلك الإله برهن على أنه هو هو أمساً واليوم، فقد أرسل ملاكه وسدَّ أفواه الأسود، وخرج دانيال سليماً. وطُرح المشتكون عليه في جب الأسود، فمزقتهم الأسود شرَّ ممزق.
نعم فان الملك، وقد كان يحب دانيال، حاول أن يجد منفذاً ينقذ به الوزير الأمين فلم يجد، واضطَّر أن يخضع للمرسوم. وطرحوا دانيال في الجب، والملك يقول في كثير من الشك "الهي الذي تعبده دائماً، ينجيك".
وذهب الملك في الصباح ينادي دانيال. بالطبع ما كان يخطر بباله أن دانيال سيجيب النداء. "دانيال، يا عبد الله الحي، هل إلهك الذي تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود؟" نطق الملك بهذه الكلمات وهو يتحسَّر في قلبه على الرجل الأمين. لقد كان موقناً أن دانيال انتهى. لقد صار أثراً بعد عين. ستنتهي منه الأسود في لحظة.
ولكن صوتاً صدر من الجب جعله يثب وثبة قوية. هوذا دانيال يتكلم. "يا أيها الملك عش إلى الأبد. الهي أرسل ملاكه وسدَّ أفواه الأسود".
نسي الملك وقاره فقفز قفزات طفل وصاح: "دانيال حي. دانيال حي! إله دانيال إله قوي. إله جبار! هلموا أيها الحراس، دلُّوا الحبال وأصعدوه من الجب".
وأصعدوا دانيال، وتقدم ليجثو أمام الملك احتراماً. فمدَّ الملك يده وأقامه... بل حاول أن يجثو هو أمامه وهو يمرُّ بيديه على جزء من جسمه، غير مصدِّق أن هذا دانيال!
وأصدر الملك أمره أن يُحضروا الرجال الذين اشتكوا عليه، فأحضروهم وطرحوهم في الجب، هم وأولادهم ونساءهم. ولم يصلوا إلى أسفل الجب حتى بطشت بهم الأسود وسحقت كل عظامهم.
وأصدر الملك أمراً ملكياً إلى كل شعوب المملكة العظيمة، هذا نصه:
"من قِبَلي صدر أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال، لأنه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد، وملكوته لن يزول، وسلطانه إلى المنتهى. هو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السموات وفي الأرض. هو الذي نجَّى دانيال من الأسود!!".
وهنا أيضاً وقفتُ بخشوعٍ وارتعاد وخوف أمام ذلك الإله صانع الآيات. وقفتُ بكثيرٍ من الرهبة وترددتُ في التقدُّم إليه. إنني أخافه وأخشاه. إنني أكرمه وأعظمه. إنني أقدم له التعبد الخالص... ولكني أتباعد عنه. إنني أخشى أن نوره يعمي عينيَّ وناره تحرقني وقوَّته تسحقني!
قلتُ وأنا أبصر هذه العجائب: نعم هذا هو الإله الواحد الحقيقي، ولكني أحسست أنه ليس الإله الذي أبحث عنه. كلا ليس هو الإله الذي أبحث عنه. لم أعرف بعد طبيعة ذلك الإله الذي أبحث عنه، ولكني أثق أني سأعرفه عندما أراه. إني أبحث عن إله لا يقول لي: أعبدني أنا ولا تعبد سواي. إلى إله يهددني بشرّ القصاص إذا عبدت غيره. إني أبحث عن إله يجتذبني بقلبه الكبير فأعبده حباً، وأحس أني ضائعٌ إذا لم أعبده. حياتي في حبه. أراه يتألم ويحزن إذا تركته. يتألم من أجلي ويحزن على مصيري. يمدُّ يداً باكية ويقول: "تعال. لماذا تضيّع نفسك؟" هذا هو الإله الذي أبحث عنه. إله رأسه كبير. يده جبارة. لكن أولاً قلبه كبير. إنني أبحث عن كلمة أدعوه بها. إنني لا أجدها الآن ولكني سأجدها. نعم سأجدها يوماً ما!!
تُرى من يفتح عينيَّ فأرى.... وأفرح وأشكر... من؟؟
ج – أقوى من الموت
سرتُ في مدينة العجائب. إنها ليست شارعاً واحداً ولا مدينة واحدة. إنها عالم كبير. رأيت رجلاً يقف وحده مع الله. كان هناك آخرون، ولكنهم لك يجسروا أن يعلنوا ولاءهم لله. كان الملك يخضع لزوجته عابدة الوثن. ولم يبقَ إلا القليل من أنبياء الله، فان الملك، أو على الأصح الملكة، قتلوا غالبيتهم فهرب الباقون. وعاشت البلاد بعيدة عن الله. سادت المفاسد وعاش الناس حياة هي الموت. اشتهى الملك كرماً لرجل اسمه نابوت. ورتَّبت زوجته أن يُقتل صاحب الكَرم فيؤول الكرم للملك. واتفقوا مع شيوخ المدينة ووجدوا شهود زور، وسُفك دم صاحب الكرم ظلماً وعدواناً.
فوقف نبي من رجال الله اسمه ايليا يهاجم شرَّ الملك وظلم زوجته!!
وطلبت الملكة قتل ايليا، فخبَّأه الله عند امرأة غير يهودية... وأجرى الله معجزته.
كان عند المرأة قليل من الزيت، وبارك الله ذلك الدقيق وذلك الزيت، فظلت العائلة تأكل منه. كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص!
لا أعلم هل سلَّمت المرأة حياتها لإله ذلك النبي... ربما. مات ابنها. وصلى ايليا وعاش الولد. وتحدث الناس عن إله إسرائيل الذي أشفق على امرأة غير يهودية. بل قد سمعتُ أن القوم ذكروا ذلك بشيء من الدهشة، وشيء من الضيق. كيف يصنع إله إسرائيل معجزة لمن لا يرتبط بالشعب الإسرائيلي؟
أما أنا فسسرت لأن الله هدم جدار العنصرية!!
بل سمعت أيضاً عن شفاء أبرص من غير الشعب المختار. وقلت: "هذا خبر طيب". ولكني لم أعُد أسمع شيئاً من هذا القبيل!!
- عدد الزيارات: 3815