الباب الثالث: اليهودية - الفصل الأول: اكتشاف جديد على حدود اليهودية
يا للعجب! ما هي قصة الابيقوريين والرواقيين هذه. وماذا عن الفترة التي قضيتها في نادي الأولين وندوة الآخرين. اتضح لي أن هذا كله كان وأنا مضطجع على رمال الصحراء. كان "صديقي "كاهن أوزيريس قد ذكر ضمن ما ذكر عن الآلهة المستوردة، فلسفة أبيقور وزينون. وقد ذكرها على أنها من عبادات القوم. لا أذكر بالتمام كل ما قاله. على أنه يبدو أن حديثه ترك أثره في نفسي. وتجسّم هذا الأمر خيالاً رأيته وأنا مضطجع على رمال الصحراء.
ومن العجيب أني لم أذكر هذا إلا بعد أسابيع كثيرة من يقظتي....
فتحتُ عيني فبهرني النور ولذلك أغمضتهما. وذكرت الأمس الذي سحبوني فيه لأقف أمام كرسي الدينونة. ذكرت القاعة المستديرة الكبيرة، والآلهة الأربعة والعشرين. وذكرت أوزيريس يحدق في وجهي بعينيه الفاحصتين. ذكرت "مات" و "حوتيب". ذكرت "النهر الأسود "و "التنين "الهائل وقد فغر فمه الواسع. ورأيت أسنانه وقد برزت كالحراب لاقتناصي وتمزيق جسدي. وذكرت ذلك الرعب الذي انتابني. وذكرت تلك القوة التي ولدّها الرعب فيّ، والقوة التي مكّنتني من تخليص نفسي من الحراس ودفعي إياهم إلى ذلك النهر المخيف. وذلك السرداب الطويل المظلم الذي انطلقتُ أقطعه ركضاً... نعم ذكرت كل ذلك. أما بعد ذلك فلا أذكر شيئاً!
ها أنا أفتح عيني للمرة الثانية وأرى النور للمرة الثانية. انه نور شمس وهاجة ترسل أشعتها الحارة تلسعني. أغمض عيني ثم أفتحها. تحرّكني لسعات الحرارة فأقوم، أتلفّت يميناً ويساراً. أجدني في صحراء ممتدة أمامي. لايوجد إنسان أو حيوان. رأيت كما لو كنتُ أنا المخلوق الحي الوحيد في ذلك الكون الفسيح!!
ألقيت نظري إلى كل جانب، فرأيت على مبعدة مني جبلاً يمتد إلى جانب البحر... ورأيت في سفحه في بقعة مستوية خيمة منصوبة وقد جلس أمامها إنسان. ركضتُ نحوه على قدر ما أسعفتني قوتي الخائرة. كان الرجل يرسم على لوحة من الخشب خطوطاً وهو يتمتم بين حين وآخر بكلمات لم أسمعها. فلما اقتربتُ منه أكثر، سمعته يقول وهو يرفع وجهه باسماً: "نعم هذا هو الطريق. لعله أول الطريق". كان الرجل مستغرقاً في تأمله، وبدا كأنه بغت برؤيتي، فصاح بفزع: "من... من أنت؟".
قلت أهدئه: "لا تخش شيئاً. أنا إنسان. إنسان نظيرك". وقال وهو لا يزال في شيء من الخوف: "تقول إنسان؟ وكيف جئت إلى هذا المكان؟ ومن أين جئت، وماذا تبغي من مجيئك؟". قلت: "لقد جئت من مصر، من بلدة تدعى طيبة. كنت هناك بالأمس".
نظر اليّ الرجل نظرة مكذًّبة، وقال: "تقول انك جئت من طيبة بالأمس. لاشك أنك جئت طائراً، أم أن عفريتاً من الجنة حملك فأتيت. ثم ماذا كنت تعمل هناك؟ ولماذا جئت إلى هذا المكان؟". قلت: "لقد كنت في طيبة بالأمس، وقد جئت هارباً من دينونة أوزيريس". قال: "وما الذي دفعك إلى الذهاب إلى مصر، وكيف ذهبت إلى هناك؟". قلت: "لقد خرجت من بيتي في الجبال وذهبت إلى مصر. أما كيف ذهبت فأنا لا أعرف. لقد حدثت الزلزلة وسقطت من جملي، وكان سقوطي في هوة جعلت تقذف بي من الأعلى إلى الأسفل إلى أن وصلتُ إلى مصر".
كان الرجل ينظر اليّ أحسست أنها نظرته إلى مجنون. كان يبتسم ابتسامة باهتة تنبئ عن ذلك، واستمر يتكلم قال: "ولماذا خرجت من بيتك في الجبال؟". قلت: "خرجتُ أبحث عن إله. لقد حدثني "الفينيقي" المرافق للتاجر الكنعاني أن هناك إلهاً لهذا الكون. ونحن كنا نعيش، أنا وأبي وجدي وقومي، بدون إله، فخرجت أبحث عن ذلك الإله".
نظر اليّ الرجل بانذهال وقال: "تبحث عن الله؟ عهدي بمن قابلتهم من الناس أنهم خرجوا يبحثون عن أشياء أخرى. وقد قابلت هناك كثيرين من هؤلاء، خرج بعضهم يبحث عن الذهب والفضة، وبعضهم خرج يبحث عن الحقول والآبار. وغيرهم جاء يبحث عن الجواهر الثمينة كما يقولون. أنت أول من قال انه يبحث عن الله. لقد عثرتُ في هذا المكان على جثث عدد كبير من هؤلاء الباحثين. تُرى هل أنت تتمتع بكامل عقلك؟" قلت: "ياسيدي لقد تركتُ الذهب والجواهر والحقول والآبار... تركتها خلفي. تركت كل شيء في بيتي، الذهب وغير الذهب. كان عندي الكثير من الأشياء. ولكني كنت ولا أزال أحس أن هناك فراغاً كبيراً، لا في معدتي ولا على جسدي، بل في داخلي. كنت أبحث عمّن يملأ ذلك الفراغ – وكان صديقي الفينيقي الذي هلك عندما سقطنا من جمالنا بسبب الزلزلة كان قد قال لي إنني في حاجة إلى الله. من أجل هذا خرجت من بيتي وتركت أهلي، وكلي شوق أن أجد ذلك الكائن العظيم الذي سيملأ فراغ قلبي، الكائن الذي يدعونه الله".
وقال الرجل باسماً بسخرية واضحة: "وقد وجدتَ في مصر أكثر من إله، فلماذا هربت؟"
قلت: "ياسيدي، نعم لقد رأيت ما قالوا لي إنهم آلهة، ولكني بعد أن عرفتها قلت: إن كانت هذه هي الله، فان فراغ قلبي أفضل بغيرها من ملئه بها. إنها آلهة حقيرة دنيئة فاسقة وحشية تأتي المعاصي والدنايا. ترتكب أحطَّ ما يرتكبه أحط الناس. هذا فضلاً عن أنها تبغض الإنسان وتتآمر عليه. ونفس أوزيريس الذي قالوا لي انه أفضل الآلهة. قالوا لي إن أخاه الإله "ست "قد قتله. قالوا لي إن العجل والجعران والحية والخنافس والضفادع، تلك "المخلوقات "الحقيرة آلهة. بل قالوا إنهم "استوردوا "آلهة من فلسطين: بعل ومولك وملكوم، ومن فارس عشتروث، ومن الهند كالي، ومن بلاد اليونان زفس وزوجته هيرا اللذين كان كل منهما يخون الآخر، وأن لزفس عدداً من الزوجات والعشيقات... أوه خُيل إليَّ أن "أولئك "بل ينبغي أن أقول "تلك "الآلهة عصابة حقيرة فاجرة دنسة. كلا. ياسيدي لم أجد الله في طيبة، فهربت".
وابتسم الرجل وقال: "لقد فعلتَ حسناً. إنها آلهة الأمم أصنام. لا يوجد إلا إله حقيقي واحد، خالق الأكوان، والسموات والأرض، خالق الكائنات كلها من جماد وحيوان وإنسان. الله يهوه الكائن الذي كان والكائن والذي يكون. الإله الواحد الطاهر القدوس الأزلي الأبدي. آلهة الأمم صناعة الناس، أما هو فهو صانع كل الأشياء بكلمة قدرته. نعم يا صديقي!!
لا يوجد إلا إله واحد. إله إسرائيل "!!
- عدد الزيارات: 2906