الفصل الثاني: الرواقيون
أ. زينو
تركت النادي الموسيقي حزيناً. لم تستطع الأغاني بما صاحبها من آلات طرب ورقص أن تزيح الغم عن صدري. سرت في طريقي تقودني قدماي، وإذا بي أبصر مبنى شامخاً امامي. أبصرتُ من نافذة مفتوحة فيه رواقاً تزين جدرانه صورٌ جميلة. ورأيتُ عدداً من الشبان والشيوخ يجلسون على أرائك مذهبة، كما رأيت عدداً آخر من مختلف الأعمار يسيرون في الطريق متجهين إلى باب المبنى. وسألتُ احد هؤلاء عن المكان وعن الموجودين فيه والقاصدين إليه، فأجابني: "يبدو أنك غريب". قلت: "نعم نعم". قال: "فاعلم أن هذا المبنى قديم، أسَّسه في الأزمنة الغابرة فيلسوف عظيم اسمه زينو. في الحق أنا لست متيقّناً ما إذا كان زينو هو الذي أسسه، أو إن أحد تلاميذه قام بذلك. ومع أن زينو وُلد من زمن بعيد ولكنه لا يزال يعيش في فلسفته العظيمة "!!
قلت: "ترى هل تتفق فلسفته مع فلسفة أبيقور التي عرفتُها منذ زمن قريب جداً؟". فظهر الامتعاض على وجهه وقال: "إني لست فيلسوفاً، ولا أصلح للمقارنة بين فلسفة وفلسفة. لكن لماذا لا تأتي وتحكم بنفسك. إنني أدعوك للدخول والجلوس معنا، بل يمكنك أن تشترك في المناقشة إذا شئت. إننا جماعة وفدت من الشمال، أكثرُنا من مدينة أثينا، ولكننا لسنا بعد أثينويين. إن مصر أصبحت وطننا". وقد قدم نفسه باسمه "هرمز". قلت: "إني في الحقيقة لا أعرف اسمي، ولكنهم أطلقوا عليّ اسم نوسترداميس". فهتف: "آه... أنت إذن نوسترداميس الحكيم المعروف". قلت: "لا يغرنَّك الاسم، فأنا بالتأكيد لست الحكيم المعروف. ولكن أول من لاقاني في هذه البلاد أطلق عليّ هذا الاسم". وابتسم الرجل وقال: "هذا عهدنا مع العلماء. إنهم متواضعون"... ولم أجد فائدة في الكلام فسكتُّ. دخلت معه وقدمني للموجودين باسم الحكيم نوسترداميس وقدم إليّ بعض القريبين مني، فهذا الاسكندر والى جانبه أراستس، استفاناس، أكلميندس، يوستس، أوريانوس، نمفاس، ديماس.
ثم قدم سيدتين "جوليا، برسيس" وغيرهما. لكني بعد أن دوّنتُ الأسماء في مفكرتي نسيت كل شيء.
جلسنا في دائرة حول عدد من المناضد. وبدأ شخص، قال لي صديقي إن اسمه فيلولوغس، وهو زعيم الجماعة، قال:
"إنني أرى بيننا الضيف المصري. هو أخونا، لأن مصر صارت وطننا، وان كنا لا نزال نرتبط ببلادنا اليونان. وقد فهمتُ أنه غريب عن المكان، ولا يعرف شيئاً عن جماعتنا، جماعة الرواقيين، الجماعة التي تفخر أن مؤسسها وزعيمها هو الفيلسوف الكبير زينو. الفيلسوف الذي لم ينكر وجود الآلهة. وكيف ينكر والكون كله هو الله والله هو الكون؟".
ب. فلسفة زينو
"والإنسان ينبغي أن يتجه نحو الخير، وأسمى خير هو الفضيلة. والفضيلة هي الحياة بحسب الفطرة والتشبُّه بالطبيعة، وموافقة السلوك الإنساني لقوانين الكون "!
وصمت قليلاً ثم قال:
"وأعظم الفضائل هي الحكمة العملية بالنسبة لما هو خير أو شر، والشجاعة، والفطنة وضبط النفس والعدل".
لم أفهم تماماً كل ما قاله، ولكني خشيت أن أسأل لئلا أُتَّهم بالجهل، فسكتُّ وقد عرفت في ما بعد أن غالبية الحاضرين كانوا نظيري لم يفهموا كل ما قاله القائد....
وبعد شيء من السكوت تكلم القائد فقال:
"وقد أوصى فيلسوفنا الكبير أن نضبط مشاعرنا ضبطاً محكماً، لا السرور يستخفُّنا ولا الألم يهزُّنا، بل نحيا مستقلين بقدر المستطاع تمام الاستقلال عن كل المؤثرات، وخصوصاً المؤثرات المقلقة مهما كان نوعها، وبرغم كل ما يحدث مهما كان!!
"إن لنا أن نفخر أن فيلسوفنا العظيم لا يزال يحتل مكانته العالية، ومبادئه القيادية لا تزال تعلو على كل المبادئ!
"كذلك لنا إن نفخر بأساتذة الرواقية الخالدين ابيكتيتوس وسينيكا والإمبراطور مرقس أوريليوس".
وهنا تحركتُ كما لو كنت أهمّ أن أقاطع المتكلم، فنظر ناحيتي وقال: "يبدو أن ضيفنا يرغب أن يقول شيئاً "!؟!
قلت: "أني غريب كما لاحظتم، وان لكل غريب دهشة، لذلك ألتمس أن يتسع صدركم لما عسى أن يخرج مني مما لا يتفق مع القواعد الأساسية أو المبادئ المعروفة... وان رجوت أن أقول إني كنت في بلدي أعيش كما يعيش قومي. آكل وأشرب لأني غداً أموت. كنت أعيش نظير أتباع أبيقور دون أن أدري. لكنني لم أجد شبع نفسي. إن في صدري كائناً حبيساً يريد أن يتنفس. انه يصرخ طالباً أن ينطلق إلى الكائن الأسمى الذي... نعم الكائن الذي أخبرني "أبيقور" أن لا وجود له!!فإذا وُجد هذا الكائن فانه يعيش بعيداً عن الناس. لا يهتم بهم ولا ينشغل بأمرهم، بل لعله يقف موقف العداء منهم. وساقني حظي الحسن أن ألتقي بالرجل الكريم الذي أتى بي إلى هذا المكان، وأنا ألتمس أن أجد عندكم ما يملأ فراغ قلبي- أرغب إلهاً أستند على ذراعه القوية، وأطمئن الى عونه، وأناديه في ظلماتي فأجد منه اصغاء. بل أكثر من ذلك أضع رأسي على صدره وأستريح".
وقال الرجل: "أن هذا الإله موجود، وأنت تراه في الكون، تراه في الطبيعة، تراه في الشمس والهواء، في الزهرة والشجرة، في النهر والبحر... تراه في العالم المحيط. بل أنت جزء من هذا الإله. وعندما تنتهي أيامك على الأرض تندمج فيه وتصبح جزءاً منه... بل قد كنتَ جزءاً منه". قلت: "ولكني أعلم أن للطبيعة نواميسها العادلة بل الدقيقة بل الصارمة. إذا لطمتُها مرةً ردَّت اللطمة لطمات. إن نواميسها دقيقة وقاسية، وهي تطلب أن أسير وفقاً لقواعدها دون أن تقدم لي عوناً، بل انه كثيراً ما تقف في سبيلي موقف العداء. إني أعجب بالصراع الذي تتطلَّبه خصوصاً في إخضاع المؤثرات العاطفية. حسنٌ ألاَّ أخضع للألم. وربما أحسن منه ألا يستخفَّني الفرح. لكن الأمر الصعب أنه يكاد يكون من المستحيل أن أصل إلى ما تتطلبه الرواقية. ترى هل نجح أحدكم في الوصول؟ أخشى أننا ننافق أنفسنا".
قال الرجل: "إن في الإنسان من العناصر العقلية الشيء الكثير، وهذه تحتاج إلى تدريب. تدريب أقول تدريب شاق".
قلت: "إن أي تدريب لعناصر غير روحية لا ينتهي إلى تغيير. إن الإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يرتفع فوق ما هو بالطبيعة. قد يتدرب على حركات وإشارات، ولكننا نطلب أكثر من ذلك".
قال: "ألم أقل لك انه يوجد اله؟".
قلت: "نعم، ولكنك قلتَ إن هذا الإله هو الكون المادي. إن هذا الكون يا سيدي لا يملأ قلبي. قد يملأ معدتي وقد يملأ عقلي. ولكنه لا يمكن أن يملأ قلبي".
وصمت الرجل... ثم قال: "فهمت الآن أنك من الجماعة المعارضة الضعيفة. انك لا ترغب في السمو. انك لا تستطيع أن تتغلب على المشاعر العاطفية. انك تخضع للألم. اخرج من هذا المكان. لقد عاشت الرواقية سنين طويلة في نمو مضطرد. لقد التحق بها رجال عظماء، وظللت كذلك إلى أن ظهر أمثالك من الضعفاء. أَخرِجوا هذا الميكروب. أخرجوه. أخرجوه".
وهكذا خرجت مخذولاً، وسرت إلى الخلف إلى كاهن أوزيريس. أن له إلهاً على الأقل. سأعود إليه وأستزيد تعرُّفاً إلى إلهه، لعله يكون هو الإله الذي أنشده. نعم ينبغي أن أرجع.
- عدد الزيارات: 5408