Skip to main content

الباب الثاني: مع الفلاسفة - الفصل الأول: الابيقوريون

كان الرجل يتطلع إليّ بفضول، ولكني أغمضت عيني مرة أخرى، وإذا بي أهيم في الصحراء المظلمة، وإذا بالآلهة تطاردني وقد قبضت على عنقي تحاول أن تفتك بي، وأنا أيضاً أحاول أن أتخلص منها، وقد خرجت كلماتي محشرجة. لقد جنيتُ على نفسي. مالي والآلهة! كنتُ في بيتي هانئاً بدونها. منذ أن طلبتها عرفتُ صدق ما حذّرني منه أبي، عندما طلب مني أن أبعد عن الآلهة، ولكني لم أستمع له. هكذا كنتُ أحدث نفسي... وقد خُيل إليّ أن الرجل الذي رأيته، أو ظننت أني رأيته، يقول لآخر لم أره: "هوذا رجل آخر من المخرّقين الذين يعملون على تنكيد أنفسهم. لعمري. متى يتعلمون أن يستمتعوا بالحياة".

فتحت عيني مرة أخرى، وقبل أن أسأله من هو، سألني: "من أين أقبلت؟" أجبت: "إن قصتي طويلة، يمكنني أن ألخصها لك. فخرجت أبحث عنه. وقد وجدت في مصر أكثر من اله. وبالأمس وقفتُ أمام محكمة أوزيريس، وكاد الحكم يصدر بطرحي في النهر حيث الأفعى المخيفة... وقد هربت بجلدي. جعلت أركض طوال الليل أو طوال الليالي... إلى أن وجدت نفسي هنا". وقال الرجل: "هل أنت بتمام عقلك؟ تقول انك كنت بالأمس في طيبة أمام محكمة أوزيريس، وأنك جعلت تركض إلى أن وصلت هنا إلى مدينة الشمس. إمَّا انك تكذب أو تحلم أو أنت مجنون. ثم تلك الخزعبلات التي تتحدث عنها، إله أو آلهة وأوزيريس ومحكمة أوزيريس، أنت مخبول يا صديقي. وان كان قد بقي فيك شيء من العقل فالواجب أن تغيّر طريقك. لقد ضلّلوك، وهم يحالون أن يضيِّعوك. مالك أنت والآلهة. مالك أنت والأبدية. إن حياتك منحة من الآلهة إن كان هناك آلهة. والواجب أن تهتم بهذه الحياة".

فسألته: "فماذا تراني أعمل، والى أي طريق أسلك؟"أجاب: "أخشى أن من الصعب أن تغيّر طريقك، ولكني سأحاول أن أرشدك الطريق. انفُضُ عنك غبار الماضي وهلم ورائي". فقلت: "فهل ترشدني إلى إله حقيقي؟". فابتسم قائلاً: "نعم، ولكنه إله من صنف جديد".

سرتُ خلف الرجل بخطوات متباطئة لأني كنت لا أزال أحس بالأفعى تقبض على عنقي، وبغتة سمعتُ صوت غناءٍ وطرب... وهوذا أمامي بستان فسيح جلس بداخله قوم من علية القوم يبدو أنهم من مهاجري الشمال، كانوا يجلسون على أرائك عليها وسائد ومساند، وأمامهم موائد صُفَّت عليها القناني. وفي وسط المكان قامت شابة حسناء ترقص رقصاً متزناً يتبع موسيقى هادئة، ما فتئت أن ارتفعت وزادت حركات الراقصة وارتفع صوت المغنين. وقام الجالسون يرقصون رقصات عنيفة ولكنها لم تخرج عن حدود الاتزان. وقفتُ على مبعدة أتطلع بشيء من الفضول إلى هذا الحفل، الذي لم أكن قد شاهدت نظيره من قبل. وأبصرني "صديقي" واقفاً فأمسك بيدي وأجلسني على مقعد في الصفوف الأولى، وقدمني للجالسين. إني غريب عن هذا المكان وهو أحد الفلاسفة الذين ينشدون أفضل سبيل للحياة. وابتسم وهو يقول: "لقد حاول أن يجد هذا السبيل في إضاعة الحياة. وقد جئتُ به إلى هذا المكان أحاول أن أهديه إلى سبيلنا الصحيح في هذا الأمر الخطير". قال إن اسمه "سوفوكليس" وانه يوناني الجنسية ولكنه يقيم في مصر من مدة طويلة هو وجالية كبيرة من اليونانيين. وقال إن بلاده بلاد حضارة قديمة، وان علماء وفلاسفة اشتهروا فيها!!

قلت: "لقد أخبرني صديقي كاهن أوزيريس عن آلهة اليونان". فابتسم وقال: "دعك من حديث الآلهة الآن". قلت: "لقد خرجتُ من بلادي لأبحث عن الله. وها قد مرَّت عليّ مدة طويلة جداً وأنا أبحث عن الإله الحقيقي الذي يستطيع أن يملأ قلبي ويشبع نفسي، ولم أجده إلى الآن". قال: "وستظل تبحث عنه ما امتدَّت بك الأيام لن تجده. كلا. لن تجده لأنه لا وجود له".

ولما رأى في وجهي نظرة التساؤل والدهشة قال: "إن فكرة الآلهة يا صديقي فكرة فلسفية. إننا نجد أنفسنا في الحياة. نعم نحن نعيش. نحيا ونتحرك ونوجد، وإذ ذاك نسأل عن سر الحياة وهدف الحياة وكيفية الوصول إلى هذا الهدف ومستقبل الحياة. إنني أشبه رجلاً جائعاً يا صديقي وقد عثر على رغيف من الخبز. هذا ما يفعله الكثيرون. إنهم ينسون أنهم أحياء وينسون أن الحياة قصيرة وينسون كيف يفيدون منها. وقد حدث أن البعض وقد تعبوا في البحث عن الأسئلة التي ذكرتها، خلقوا لأنفسهم ما يدعونه إلهاً أو آلهة، ورتَّبوا لها النظم والقوانين. والحكام منهم يحكمون على الشعب باسمهم. هكذا حكم ملوك مصر. اتفقوا مع الكهنة على تسخير الشعب المسكين باسم هؤلاء الآلهة. أما الحكماء فيعرفون الحقيقة ويعرفها الكثيرون، إلا أنهم لا يجسرون أن يعلنوها. إن الشعب الجاهل مستريح إلى وجود الآلهة. إنهم ملاذهم، وفيها رجاؤهم، وهم يطلبون ما يحتاجونه منها. وبعضهم ينال مطالبه بالصدفة. والغالبية لا تنال ولكنها تنتظر بالرجاء. وإذا تجاسر انس أن ينكر وجود الآلهة فمصيره القتل. ألم تسمع قصة الكاهن الذي جاء إلى بلادنا وعاد يناويء الكهنة؟ قال إن ايزيس التي يلتمس المحتاجون عونها ويبصرونها تحني رأسها، هي لعبة الكهنة. ودعاه رئيس الكهنة واعترف له أن ما يقوله صحيح. إن هناك حبالاً مستورة تتصل برأس الآلهة هو الذي يجذبه الكاهن. وقال رئيس الكهنة: "وأنا سأضعك بجانب هذا الحبل السري، فإذا استطعتَ أمام طلبات الطالبين أن تمتنع عن جذب الحبال فافعل". وجاء اليوم وأبصر الكاهن ألوفاً من البؤساء وسمع ألوفاً من الالتماسات. يا ايزيس خففي آلام رأسي. يا ايزيس خففي آلام أمعائي. يا ايزيس خففي صداع عيني. يا ايزيس ارفعي عني ثقل صدري. يا ايزيس... يا ايزيس... يا ايزيس. ولم يستطع الكاهن أمام بؤس أولئك التعساء أن يُفقدهم بعض الرجاء الكاذب. فجذب الحبال. ولا شك أنك سمعتَ أن الكهنة كانوا قد وضعوا كاهناً آخر في موضوع سري كانت مهمته أن يقتل الكاهن المتروك لجذب الحبال إذا لم يشدّ الحبال. هذه هي الآلهة يا صديقي".

ودارت مناقشة طويلة طريفة تكلم فيها كل واحد من الجالسين. قلبوا الموضوع من جميع نواحيه!!

كنت اسمع وأنا صامت، إلى أن أكملوا أحاديثهم فتكلمت. قلت: "أنا أفهم أنكم لا تنكرون الحياة. إنها لم توجد نفسها. ولنقُل انه لا داعي لأن نشغل أنفسنا بمصدرها، ألا ترون أنه من الواجب أن نهتم بضوابط هذه الحياة وسلامة سيرها وضمان سلوكها والهدف منها... ثم مصيرها؟".

وقال الرجل الذي دعاني للجلوس معه: "إن لك كل الحق أن تسأل هذه الأسئلة. وهي أسئلة اهتم كبار الفلاسفة بدراستها. وقد درسها زعيمنا الكبير أبيقور ووضع قواعد فلسفة الحياة. قال إن ما يهمنا من فلسفة الحياة هو كيف نحياها. كثيرون ممن يتحركون على سطح الأرض ويظنون أنهم أحياء، ويظن الناس أنهم أحياء، هم في الحقيقة موتى لا يختلفون عن غيرهم من الموتى إلا في الأكفان والقبور. إنهم يعيشون في ظلام الخوف والقلق. من الواجب أن ننفض عن أنفسنا هذا الظلام لنعيش. إن غاية الإنسان الوحيدة هي اللذة. إننا نقضي أياماً معدودة على الأرض.

لذلك يجدر بنا أن نمنع عنا الألم الجسماني، وننزع القلق العقلي والروحي فينا".

قلت: "أخشى أنها فلسفة عاجزة، وفي نفس الوقت خطيرة. لئن جعلنا اللذة هدفنا، ألا يجرُّنا هذا إلى طلب الشهوات الجسمانية والانغماس في أوحال الدنس؟"قال: "إن السلوك على مقتضى ما تقول يجلب التعب والألم لا اللذة. إن اللذة الحقيقية تتطلب الامتناع عن الشهوات الجسمية وتتطلب حياة الطهر. ولقد عاش زعيمنا العظيم أبيقور حياة طاهرة كل أيام حياته، حتى ظن الكثيرون انه فاقد للغرائز الجنسية!".

قلت: "ولكنك لا تنكر، أقصد لا يمكن أن تنكر، أن كثيرين أخذوا هذه الفلسفة من ناحية أخرى، فقالوا لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت! قال: "إني لا أنكر هذا، بل أخشى أن الغالبية العظمى سلكت هذا السبيل. إن الحياة قصيرة والشباب أقصر. لذلك يحاولون أن يستمتعوا باللذة المنحطَّة. لكنهم سرعان ما يكتشفون أنهم انحدروا إلى جحيم من الآلام!".

قلت: "ولكن اكتشافهم هذا يجيء متأخراً جداً. وإذ ذاك لن يفيدوا من هذا الاكتشاف، ولن يخبوا إلا الحسرة والندامة... ثم اسمح لي أن أسألك: كيف يستطيع الإنسان أن يخلّص نفسه من الألم الجسماني والقلق العقلي؟".

أجاب: "إن تفكير الإنسان في الغد المجهول يبعث فيه كثيراً من القلق. وبدلاً من أن يتمتع بما يستطيعه من خير في الحاضر، يضيّع ما في هذا الحاضر من خير بسبب خوفه من المستقبل. كالبخيل يعيش خوفاً من الفقر في فقر. لذلك يحسن به أن يعمل جاهداً في استخلاص كل خير حاضر بالبُعد عن أسباب الخوف والقلق "!!

قلت: "ولكنك لم تنكر أن الكثيرين أساءوا فهم اللذة، فانغمسوا في أوحال الشهوات، وإذ ذاك فقدوا السلام والاطمئنان، وعاشوا في قلق. على أني أريتك هذا الأمر وأسأل: كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من أسباب القلق؟ كيف يمكنه أن يعيش طاهراً، والإنسان بطبيعته وغرائزه ميَّال إلى الخضوع للجسد وللأهواء الجسدية.

أين هي القوة التي تمسك بيده وترفعه؟ لقد ذكرت فيما ذكرت أن الآلهة شيء غير حقيقي. لا يوجد شيء اسمه اله، وذكرت أننا إذا فرضنا أن للآلهة وجوداً فإنهم يعيشون على مبعدة منا لا يرتبطون بنا بأي رباط من ودّ، ولا علاقة لهم بنا. لقد قلت أنت ذلك. وقد خيل إليَّ أني سمعتك تقول إن الآلهة تبغض الناس ولا تتمنى لهم إلا المصائب والنوازل، فأين هي اليد التي تمسك بالإنسان وترفعه من الطين وتخلصه من الأقذار؟....

صديقي، أخشى إن الأبيقورية... أوه... إنها لا تستطيع أن تملأ الفراغ الكبير الذي أحسّ به في صدري. إني في حاجة إلى إله لا إلى فيلسوف. إن في صدري احتياجاً ينادي: "أين أنت ياالله. أين أنت؟"....

وأنا قد تركت بيتي وأهلي لأبحث عن هذا الإله... نعم إني أبحث عن اله".

  • عدد الزيارات: 4498