المقدمة: السائح يستيقظ ويروي قصته
اليقظة
من أين جئت أيها الغريب؟ من الذي حملك إلى هذا المكان؟ أم لعلي أسأل: ما الذي أتى بك إلى هذا الصحراء؟
كنت لا أزال في شبه غيبوبة. جعلت أتلفَّتُ هنا وهناك بعينين زائغتين. أضع يدي أحياناً على رأسي وأحياناً أمشّط بها شعري. ثم أتلفَّتُ إلى جسدي وأهز رأسي هزات متتالية. وقد كرر الرجل الواقف أمامي سؤاله: من أين جئت أيها الغريب؟ ترى هل تسمعني؟ هل تفهم لغتي؟ هل تستطيع الكلام؟
قلت بعد صمت طويل: "إني أسمعك وأفهم مرمى كلامك. ليست المشكلة في أذنيّ أو في لساني. إن المشكلة أعمق من هذا بكثير. المشكلة أني لا أعرف من أنا، ولا أعرف من أين أتيت، ولا أعرف كيف جئت إلى هنا، ولا أعرف لماذا جئت بالطبع. بل دعني أسألك: هل أنا مستيقظ أم أنا أحلم؟ هل لك أن تفرك أذني أو خدي أو أنفي لأتأكد أني لا أحلم، وأني كائن حيّ، لأتأكد أني.... أني أنا... ترى هل أنا أنا؟ ومن هو أنا هذا... أوه ليتك تخبرني!".
وتبسم الرجل الواقف أمامي وقال: "إني أفهم. نعم أنا أفهم. لستَ أول من جاء إلى هذا المكان. لقد استقبلتُ العديد من أمثالك. هلّم معي. استرح في بيتي. تناول شيئاً من الطعام وتمدد على الفراش... وبعد، نعم وبعد نتكلم".
القصّة
سرتُ مع الرجل في سفح الجبل مسافة طويلة، كانت الطريق خالية. ومع أني رأيت بعض مظاهر العمران إلا إني لم أشاهد أحداً من البشر!!
وصلتُ إلى بيت الرجل وكان بيتاً بدائياً أقرب إلى الكهف منه إلى الكوخ. استقبلتنا زوجة الرجل مرحبّة. لم يكن لها بنون. كانت جميلة الطلعة، أنيقة في بساطة. ولما جلسنا على المائدة رفع الرجل وجهه نحو الجنوب وتمتم بكلمات لم أسمعها، ثم دعاني لأتناول من طعامه البسيط المؤلَّف من الخبز واللبن والزبد والعسل. أكلتُ واغتسلت ثم رافقني إلى غرفة فيها سرير من الجريد بُسطت عليه حشيّة نظيفة. تمدّدتُ على الفراش واستغرقت في نعاس. لا أعلم كم من الوقت... لابد أني استغرقت وقتاً طويلاً... أيقظني الرجل وقال: "أعتقد أنك أخذت قسطك من الراحة... وأعتقد أنك الآن تستطيع أن.... أريد أن أقول... تستطيع أن تعود إلى نفسك".
انحنيت إلى الأرض مدة طويلة. ثم رفعت رأسي وقلت: "صدقني يا سيدي إني لا زلتُ أجهل حقيقة نفسي. لا أزال أسأل نفسي من أنا. والماضي، هل كان حلماً أم أنه كان شيئاً حقيقياً. ولئن كان حلماً فهل استيقظتُ منه أم أني لا أزال أحلم. وفي كلا الحالين أحاول أن اكشف الماضي بصعوبة. انه يبدو لي أشباحاً في وسط غيوم، بعضها مضى، لكن الجزء الأكبر منها معتم. سأحاول أن أرى ذلك الماضي. ولكني أصدقك القول إني لا أقدّم لك شيئاً كثيراً.
هل قرية أم مزرعة أم.... كنا عائلة كثيرة الأفراد. كان أبي رجلاً جاوز الشباب. اختلط سواد شعره بشيء من الشيب. كنا كلنا في الأصباح عندما نستيقظ من النوم، وفي الأمساء عندما نذهب إلى الفراش نتقدم منه باحترام ونحييه بتقبيل يده... آخرون من الجيران يفعلون ذلك معه... أذكر الآن بيوتاً أخرى كانت بالقرب منا، أقصد أنها لم تكن أبعد من مرمى النظر، كان يقيم فيها جيراننا، ولكني في الحقيقة لا أذكر شيئاً عنهم. كانوا يقيمون على مبعدة، أقصد لم يكونوا ملاصقين لنا. كان أبي يُدعى الشيخ. قيل لي إننا قبيلة وأن بيوتها لا تزيد عن أصابع اليد. وقيل لي إن أبي كان كبير هذه القبيلة!
كذلك أذكر تلك المرأة الجميلة الكبيرة... كلا، لم تكن أمي. قيل لي إن أمي ماتت عندما ولدتني... على أني كنت أدعو تلك المرأة أمي، فقد كانت توليني المعزَّة التي أولتها لإخوتي الآخرين، بل أجسر أن أقول أكثر. لم أكن أعرف أنها ليست أمي إلا بعد وقت طويل. كانت تُدعى الشيخة. وكان أبي يناديها يا "أم البنين". كانت هي صاحبة السلطان في البيت. وكان هناك عدد من النساء، زوجات الشيخ، أو زوجات الأبناء والأعمام، ولكنهن كن جميعهن خاضعات لسلطان الشيخة. أما عدد الأولاد والبنات فكان فوق الحصر.
وكان البيت يضمُّ قاعة كبيرة جداً... جداً. كان الضيوف يستقبلون فيها نهاراً وكانوا ينامون فيها وفي قاعة ملحقة بها إذا ما اضطروا أن يبيتوا عندنا. وكان الطعام يُقدَّم فيها إذا كان الطقس لا يسمح بتناوله في الساحة الخارجية. بالطبع كانت هناك عشرات الغرف، كل غرفة كانت بيتاً مستقلاً تقيم فيها المرأة وأولادها... وزوجها. كانت الأسرَّة من الجريد، لكن الحشيات والوسائد والأبسطة والسجاجيد من أنواع ممتازة. كان أبي يشتريها من "الكنعاني" الذي سأحدثك عنه!!
وكان أبي يملك من الماشية ألوفاً مؤلفة من أبقار وجواميس وجمال... خراف وماعز... خيول وبغال وحمير، وعدد لا حصر له من الدجاج والإوز والبط والحمام وغير هذا مما يقتنيه المزارعون!!
وكانت الملابس لا بأس بها، تأتينا مع "الكنعاني"... نعم، نعم أنا أرى أنك تسأل عن هذا" الكنعاني "!!
أنا لم أعرف اسمه كما قيل لي عنه انه "الكنعاني". كان يأتي إلينا من بلاد في الشمال بعيدة جداً عنا. كان يأتينا مرتين في السنة، ومعه قافلة كبيرة تضمُّ أزيد من مئة عبد، وجمالاً لا عدد لها. كان يقيم عندنا شهراً في كل مرة. كان يأخذ منا محاصيل الأرض من حبوب وأصواف وزبد وعسل ويعطينا، نظير ما يأخذ، ملابس من قطن وكتان وحرير وأحذية وعقود وحليّ...
الجوع القلبي
كانت حياتنا رضيَّة!!
وكانت تحيط بنا قبائل كنا نرتبط بها برباط القرابة والود!!
كنا نعيش في راحة واطمئنان، لم نكن في حاجة إلى شيء، الطعام موفور ومن أنواع طيبة. اللباس كثير، والبركة في التاجر. الهدوء والسلام شامل، لكن شيئاً ما لا أعلم ماذا أدعوه كان يناديني من داخلي... فراغ. نعم فراغ في قلبي. لا أعلم ماذا أدعوه. كنت في حاجة إلى شيء غير الطعام واللباس!
وقد خطبوا لي ابنة عمي مذ كنت ولداً صغيراً لتكون زوجتي... بل قالوا لي إنها زوجتي مذ خطبوها لي. كانت فتاة حلوة معتدلة القامة، بيضاء يزين خديها وردتان، أسنان كالعقد اللؤلؤي... ماذا يعوزني بعد؟
طعام، لباس، زوجة، هدوء، كل شيء متوفر...
لكن جوعاً من نوع غريب كان يناديني من الداخل: أنا جائع، أنا جائع.
جلست في إحدى الليالي على مقعد في الساحة أمام البيت الكبير، وتساءلت ماذا يعوزني؟ ألم يكن كل شيء متوفراً لديَّ؟ ألا أحيا حياة طيبة؟ ألست محسوداً من الآخرين، على الأقل مغبَّطاً؟ ماذا يعوزني بعد؟ لكني سألت نفسي: هل أعيش حقاً؟ ما الفرق بيني وبين الحيوانات التي أملكها؟... كنت أعيش في دوامة أبحث عن مشكلتي فلا أعرفها...
ظللتُ في هذه الدوّامة إلى أن هبط عليّ الجواب... هبط على فم... أو لأقُل لك القصة من أولها!!
جاء "الكنعاني" كما كان يجيء عادة في قافلته الكبيرة... جمال محملة بضائع شرقية وغربية... عبيد وإماء- لكن كان هناك شيء جديد. جاء ومعه عبد "فينيقي". أعجب أبي "بالفينيقي" فاشتراه من "الكنعاني "!!
كان "الفينيقي" شيئاً آخر، يختلف عن كل العبيد الذين عندنا. كان يحمل صورة نبيلة. كان يتحرك كأمير، ويتكلم كأمير. أحببته واتخذته لي صديقاً. لم يكن يكبرني إلا بعدة شهور. كان يجلس معي في الليالي القمرية يحدثني عن بلاد أخرى فيها أقوام بيض وسمر وسود وحُمر... كان يحدثني عن جبال وتلال وأنهار. كان يذكر لي أشياء عن العالم الخارجي تذهلني. على أنه كان يملك نوعاً من "السحر". كان يستطيع أن ينقل الكلام في صور مرسومة يدعوها كتابة، وأذهلني هذا السحر فطلبت منه أن يطلعني على أسراره... وتعلمتُ الكتابة والقراءة، كنت أجلس طوال النهار أكتب وأقرأ.
الله!!
طالت جلستنا في إحدى الليالي، تحدثنا في أشياء كثيرة. فرغ من حديثه وانحنيت أراجع بعض ما قال، وبغتة فاجأني بسؤال: أي إله تعبدون؟ فقلت له: "ما هذا السؤال الغريب؟ ما معنى ما تقول؟ ما معنى "إله" و "تعبدون؟" قال: "كيف تسأل هذا السؤال؟ أليس لكم إله؟ لقد ظننتُ طول الوقت أن إلهكم يقيم على معبدة، ولذلك لم أر له معبداً، ولم أركم تقدمون له العبادة". قلت: "إنني إلى الآن لا أفهم معنى كلمة إله". قال: "فإلى من تلجأون إذا أصابتكم كارثة أو هاجمكم عدو؟ إلى أي اتجاه تتوجَّهون إذا ضاقت بكم السبُل. إذا تأخر عنكم المطر، أو إذا أحرقكم القيظ". قلت: "إننا لا نعرف هذا الذي تقوله، إننا نعيش مع آبائنا وأمهاتنا وإخوتنا وأهلينا... ونعيش وسط حقولنا ومعنا أبقارنا وجواميسنا وحميرنا وطيورنا". قال: "يا لكم من تعساء! ترى ما الفرق بينكم وبين الحيوانات التي تعيش معكم؟ ما الفرق بينك وبين البقرة التي تستخدمها؟ هي تأكل وأنت تأكل، وتشرب هي وأنت تشرب، وتموت وأنت تموت. بل هي أفضل منك لأنها تعطي، حية وميتّة. أما أنت فانك إذ تموت ينقطع نفعك نهائياً. لماذا إذن تسود على البقرة؟ ما هو مستقبلك؟ إلى أي مستقر تصل بعد موتك؟ ألم تسأل نفسك يوماً كيف وجدت الشمس والقمر والنجوم؟ بل ألم تفكر كيف وُجد آباؤك الأولون، وكيف وُجد هذا الكون كله؟".
وجعلت أتأمل كلامه. قلت حقاً لو أن أحدهم درّب الحيوانات التي في البيت لاستطاعت أن تكون لها السيادة. وسألت نفسي: لماذا إذاً أسود عليها؟
وقرأ "الفينيقي" ما كان يجول في فكري فأجاب: "لأنك إنسان وفيك شيء من ذلك الكائن الأعلى الذي ندعوه إلهاً "!!
وقال الفينيقي انه لا يعرف الكثير عن ذلك الإله. لقد نزل عندهم في أحد الأيام في سنين ماضية تاجران: احدهما يوناني والثاني مصري. وحدّثاه عن اله... كائن عظيم. ووصفا له عظمة أعماله وسلطانه، لكنهما لم يخبراه عن صورته أو مكانه!!
قال "الفينيقي ": "وقامت حروب بين بلدنا وبلدان أخرى، كانت الهزيمة من نصيبنا، فقُتل أبي وسُبيت أمي وإخوتي، وباعوني عبداً، فاشتراني التاجر الكنعاني الذي عاملني بمنتهى الرفق، وقد أوكلني على كل حساباته، لكنه لم يترك لي وقتاً لأفكر في هذا الإله... لذلك لا أستطيع أن أخبرك الكثير عنه. إن كل ما علمته عنه أنه كائن كبير، أعظم من الإنسان، وهو الذي يملك كل ما يتصل بنا من خير ومن شر". وصمت الفينيقي لحظة ثم قال: "أظن إني سمعتُ منهما أنهم آلهة كثيرون وليس إلهاً واحداً. الحقيقية أن الأمر مختلط عليّ، فقد كان حديثهما الأول عن الإله الكبير. ربما كان هو رئيس الآلهة"... قلت: "ألم يخبراك على الأقل أين يقيم هذا الإله الكبير، وما هي صورته، وما هي علاقته بنا. هل ينتظر منا شيئاً؟". قال: "كلا، إني لم أستطع أن أسألهما شيئاً، ولكنهما أشارا في حديثهما نحو الشرق- وقد حملني سيدي الكنعاني إلى كل البلاد التي كان يشتري فيها ويبيع- هو شخصياً لم يفكر في اله. كان كل وقته يفكر في الصوف واللبن والزبد والجبن واللحوم والعبيد والجواري والملابس والنقود والخرداوات... إن سيدي يتعامل مع ألوف من الناس. إلهه تجارته. هو نفسه يقول: "لقد ولُدت تاجراً، وعشتُ تاجراً، وسأموت تاجراً. التجارة ربي والأموال آلهتي". ثم قال الفينيقي: "إني كنت أرغب أن أتحدث مع العملاء عن الله، ولكنه لم يترك لي وقتاً". قلت: "لكن ألم تعثر في كل البلاد التي ذهبتَ إليها على هذا الإله، أو على شيء من آثاره؟ لا شك أن الكائن الكبير لا يختفي، ولو غطَّاه سيدك بآلاف الأغطية".
فأجاب: "لقد عثرتُ على آلهة، لكن من عثرت عليهم لم يكن لهم أو بينهم إله كبير. رأيت قوماً يعبدون الحجر، وبعضاً يعبدون الشجر. رأيت أقواماً يعبدون كائنات حقيرة جداً جداً، الناس أعظم منها بكثير. فتأكد لي أنها لم تكن آلهة. لقد كانت شيئاً حقيراً، وأنا كنت أبحث عن إله كبير "!!
ولما فرغ "الفينيقي" من حديثه اكتشفت حقيقة الجوع الذي كنت أحس به دون أن أعرف كنهه. ولكن ذلك الاكتشاف ملأني بالضيق. لقد كنت أحس بجوع لشيء لا أعرفه، وها أنا الآن أعرف حقيقته، ولكني أرى استحالة ملء هذا الفراغ.
أين أجد ذلك الإله وأنا أقيم في واد ضيق محصور بين جبال لا اعلم شيئاً عن العالم الخارجي، ولا رباط لي بذلك العالم إلا عن طريق الكنعاني الذي لا يعبد إلا التجارة.
واشتعلت نيران شديدة في صدري. تكلمت مع أبي في ذلك فقال: "دعك من هذا الهراء. لقد نشأنا كما ترى، ننشأ صغاراً ونكبر ونتزوج ونلد أولاداً ونربيهم ونزوّجهم ليتوالدوا وتنتهي مهمتنا فنموت، ليقوموا هم بما قمنا به نحن. وهكذا دواليك. يقوم جيل جديد... وتتلوه أجيال. نولد ونتزوج ونلد البنين والبنات... ثم نموت ليقوم أولادنا ويسيرون كما سرنا. لقد مرَّت بنا السنون ونحن على هذا المنوال، فلماذا تأتينا اليوم بما يعكر صفونا بكائن يأتينا، لا نعلم ما يكون مكانه بيننا وما يتطلبه منا أو ما يضع علينا من أعباء نحن في غنى عنها. كلا يا بني اتركنا وشأننا. لسنا في حاجة إلى ما قد ينغّص علينا، أو ينتقص من مقدار هدوئنا".
قلت: "ولكن الغد يا أبي؟ لا يمكن أن أكون أنا والبقرة سواء. أعيش كما تعيش وأموت وأنتهي كما تموت هي وتنتهي". ثم قلت له ما سبق أن قاله الفينيقي، إن البقرة خير مني لأنها عندما تموت نجني منها الكثير، أما أنا فأموت وأكون عبئاً على قومي، والغد يا أبي"... وصرخ أبي فيّ قائلاً: "دعك من الغد. عش وتمتع بالساعة التي أنت فيها. لا تزعجنا بحديثك عن الغد وما بعد الغد "!!
ذهبت إلى الفراش في المساء بصدر ثقيل، وقد سألتُ المرة بعد المرة: هل هناك إله كبير في يده آجالنا واليه مآلنا، هل لنا مستقبل أم لنا مجرد حاضر؟ هل كان لنا ماض... ترى كيف وُجد الجد الأول؟
ونمتُ وأنا في غاية الاضطراب. وفي الليل رأيتُ في حلمي أني في صحراء شاسعة الأبعاد، لم يصل ذلك الإله. رأيتُه في حلمي وسألته أين يقيم، وهل يسمح لي أن أصل إلى مقرّه لأسأله الكثير مما يشغل فكري. وكان جوابه: "انك ستراني إذا طلبتني بخلوص نية. أنا كبير جداً وفي نفس الوقت صغير جداً. تراني في الجبل الشامخ وتراني أيضاً في الزهرة الصغيرة. مطالبي عسيرة جداً وفي نفس الوقت هنيّة جداً. أنا قريب منك جداً... وبعيد عنك جداً. عليك أن تترك عشيرتك وبيت أبيك لتبحث عني، وفي نفس الوقت يمكنك أن تراني حيث أنت... سأُوجد لك إذا طلبتني بخلوص النية".
وفي الصبح عاودتُ أبي في موضوع الإله. فقال لي: "ألا زلتَ تسير خلف أوهامك يا بنيَّ؟ ما لنا وللآلهة؟ يكفي ما قاله الأقدمون عمّا لاقوه من معاناة من هؤلاء الآلهة. لقد طلَّق أجدادُ أجدادنا هؤلاء الآلهة لما لم يجدوا منهم إلا كل شر"....
وإذ ذاك ذكرت لأبي حلمي، وقلت له إني ألتمس منه أن يسمح لي بالخروج للبحث عن هذا الإله. إن نيراناً تلهب قلبي. لن أستريح حتى أجد هذا الإله. وسخر أبي مني ومن حلمي، وأكد لي أن حلمي لم يكن إلا صورة من ارتباك نهاري. ليس هناك إله كبير أو صغير. لقد صنعتَ أنت إلهك. إن أحلام الليل هي تجسُّد أفكار النهار!!
واشتدَّ النقاش بيننا. هو يصّر على أنني مجنون أو شبه مجنون، ويقول إن اليوم الذي دخل "الفينيقي" فيه بيتنا كان يوم نحس. انه لا يمكن أن يسمح لي بالخضوع لنزوة حمقاء قد توردك موارد الحتوف. وأنا أقول له إنها ليست نزوة. انه يوجد إله واني سأجده. وامتدَّت المناقشة بيننا. وبكى أخي الكبير، وبكى الآخرون. والتمست منّي خطيبتي أن أعدل عن رأيي... دعنا نتزوج ونتمتع بالحب. وتوسطت الشيخة... ولكن أبي تمسك برأيه: أنا مجنون! ليست هناك قوة تجعله يعدل عن رأيه.
وهنا هددت أبي أني سأترك البيت حقاً. سأتركه سرّاً إذا استحال تركي له علناً.
سأتركه ليلاً إذا لم أستطع ذلك نهاراً. سأتركه وحدي إذا لم أجد رفيقاً... سأتركه لأستقبل كل مخاوف الصحراء مهما اشتدت... سأتركه!!
ولما رأى أبي جدية إصراري، وأن الشدة ليست علاجاً، صرّح لي بالخروج. أعدّ لي قافلة من عشرة جمال وعشرة عبيد، وأعدّ لي زاداً وعتاداً، وقال انه يمكنني أن أتغيَّب سنة كاملة. قال: "ستعود بعد رحلة السنة هذه لتخبرني بعجائب الدنيا والتحدُّث معي عما رأيت من العجائب والغرائب في العالم الخارجي، ولكنك ستخبرني أيضاً أنك بحثت عن الإله الذي اخترعه ذهنك المريض فلم تجده بالطبع، لأنه فعلاً لا وجود له "!!
كانت فرحتي لا حدَّ لها. لم أستطع أن أغفو لحظةً واحدة وأنا أترقّب الصباح. في نصف الليل سمعتُ حركة أقدام تسير متلصّصة، فقمتُ ووجدت الباب الخارجي مفتوحاً، وفي ركن الساحة أبصرت شبحاً. اقتربتُ من المكان فإذا بابنة عمي ووجهها نحو الجدار وهي تجهش ببكاء صامت. رأتني اقترب منها فانطرحت على الأرض وأمسكت بقدميّ تقبلهما. أقمتُها واحتضنتها وقبلت وجهها وشفتيها لأول مرة في حياتي... ووعدتُها أني سأعود إليها وسنتزوج وسنلد بنين وبنات في ظل بركة ذلك الإله العظيم الذي خرجت أبحث عنه والذي سأجده.
ورفعنا كلانا وجهينا نحو السماء وقلنا: "أيها الإله المنشود، اكشف عن عيني عبدك حتى يجدك فتتولى حراسته وتعيده... لنتزوج في ظلك... وببركتك".
رحلة الحدود
وخرجت مع صديقي الفينيقي وقد شدَّد أبي عليه الوصية أن يكون "كلبي الحارس"... وقد كان فعلاً حارساً أميناً. كنّا قافلة صغيرة ولكنها كانت مسلَّحة. سرنا أياماً وليالي أسابيع وشهور... إلى أن حدث الزلزال.... وصمتّ.
ولما طال صمتي سألني الرجل: "ما هذا الزلزال الذي تقول عنه؟" حاولت أن أذكر ما حدث. لم يكن من السهل أن أستعيد أخبار الرحلة. هوذا سحابة سوداء تحيط بي. على أنها بدأت تنقشع شيئاً فشيئاً، وإذ ذاك رأيتني راكباً على جمل، ويركب خلفي صديقي الفينيقي وبقية العبيدّ على جمال أخرى تحمل الماء والزاد!!
قطعنا مسافات طويلة في الطريق الرملي في الجبل- كانت الشمس شديدة الحرارة. لم يكن بإمكاننا السفر نهاراً. كنا نبدأ رحلتنا قبل الغروب ونظل طول الليل نقطع المسافات المترامية. وقال دليلنا: "لقد أوشكنا على الوصول إلى حافة الصحراء، وسندخل الأرض العامرة بعد أقل من يوم"- كان ابتهاجنا لهذا الإعلان طاغياً. لقد تعبنا من جهة السفر، ومن الأكل بحساب ومن الشرب بحساب أدق. سنصل إلى العمران لنأكل حتى الشبع، ولنشرب حتى نرتوي. وعسى أن نجد بشراً يدلُّنا على الطريق للعثور على الله، على الحق الأزلي الذي نبحث عنه!!
وقد جعلت أفكر إذ ذاك في أمور كثيرة، في الوادي الذي قامت فيه بيوتنا، في أبي، في أهلي... في الشابة الحلوة التي سأتزوج منها... على أن التأمل الذي طغى كل ذلك كان ذلك الإله الذي أبحث عنه!!
كانت عيناي مغلقتين تقريباً، ولكن ذهني كان يجول في ذاك الظلام، وكان رغماً من الظلام يبصر أشياء كثيرة... وفيما أنا تائه في بيداء الفكر اهتزَّ المقود في يدي اهتزازاً خفيفاً. بدا كأن الجمل يتعثر في شيء. قبضتُ على المقود بقوة ولكنه جعل يشتد بعنف.... وزاد العنف حتى أحسست أن الأرض تكاد تنقلب. تحولت الأرض الصلبة إلى ما يشبه بحراً ثائراً عاصفاً متلاحق الثوران. سقط الجمل بعنف إلى الأرض، كانت سقطته على حجر حاد الأطراف فقُتل في الحال. وسمعتُ صرخات عالية من رفاق السفر، حدث بعدها صمت عميق.
أما أنا فسقطتُ في حفرة. غريبة هذه الحفرة! كانت تشبه- أو هذا ما خُيّل إليَّ، أنها تشبه حجرة تدور على مركزها. جعلتُ أتدحرج وأدور من جانب إلى جانب مع دوران الحفرة، والحجرة تتسع لي وأنا أهبط، يلطمني هذا الجدار ويدفعني الجدار المقابل. كنت أحاول أن أجد شيئاً أمسك به لكي لا أهبط أكثر، فلم أجد. كانت الجدران ملساء، ولو أن أحجاراً صغيرة جديدة كانت تبرز منها تشبه السكاكين- ظللتُ كذلك أدور وأدور، وأنا أهبط وأهبط، إلى أن غبتُ عن وعيي. كم بقيتُ فاقد الوعي؟ لا أستطيع أن أقول لك: ساعة، يوماً، أسبوعاً، شهراً، سنة... لا أعلم. إني أحس أن أجيالاً مرت بي...!!
والآن ها أنا أمامك، وأنا أسألك أن تخبرني الحقيقة. هل أنا حقيقة أم أنا لا شيء؟ هل أنا مستيقظ أما أنا نائم؟ هل حدث ما قلتُه لك أم أنا أحلم؟ هل أنا "أنا"، أم أنا بلا كيان، ولكن سواء كنت أنا هو من أقول انه "أنا"، أو كنت حالماً مجرد حالم، فاني أعتقد أن سؤالي جدّي. لقد خرجتُ أبحث عن الله، عن الحق الأزلي، نعم أيهاال.... هل تسمح لي أن أقول: "أيها الصديق "؟ نعم أيها الصديق، أنا أبحث عن الله إذا كان الله موجوداً حقاً. وأنا أسأل أين هو، وأسأل هل يمكن أن أراه؟ إن أمنية حياتي، إذا كنت حياً حقيقة، أو كنت حالماً، إن أمنيتي في كل حالة أن أرى الله!!
نعم فقد خرجت أطلب الله!!
- عدد الزيارات: 3546