الإنسان الجديد
حياتنا المعاصرة مليئة بالمشاكل والمعضلات. وبينما كنا نحلم أن المستقبل كان سيحمل في طياته أياماً جديدة وسعيدة إلا أن جميع أحلامنا قد تلاشت وذهبت أدراج الرياح. الحياة صعبة ومريرة وما أكثر الذين واللواتي يتسائلون في فجر كل يوم: لماذا ولدت على هذه الأرض؟
ما فائدة العيش في عالم مكتظ بالشرور والآثام والفواجع التي أضحت ذات أبعاد هائلة؟
وما إن نسترسل في هكذا تساؤلات حتى نتدرّج إلى القول: أين الله من كل هذه الأمور المفجعة؟ ولماذا يسمح القدير بأن يمتلئ عالمه بأمور محزنة للغاية؟ ألا يقدر الله بأن ينعم علينا بالسلام وبأن يغيّر قلوب الناس فيجعلها أكثر محبة وإشفاقاً مما هي عليه الآن؟
الجواب هو أن الله لم يترك عالمه ليتخبّط في دياجير الشر والظلام. فلقد بادر تعالى منذ فجر التاريخ ومنذ سقوط الإنسان الأول في حمأة الشر والمعصية, بادر الله إلى معونة الإنسان بإعطائه وعداً صريحاً عن مجيء مرسل الله الخاص أي المسيح المخلّص الذي كان سيجابه الشر والشيطان ويدحرهما لصالح جميع المؤمنين به.
وفي الوقت المعيّن من الله وفد المسيح عالمنا وولد من عذراء تدعى مريم في بلدة بيت لحم بفلسطين. عاش المسيح في الأرض المقدسة وعلّم الجموع وشفى المرضى وأقام الموتى مظهراً بذلك طبيعة رسالته السماوية والإنقاذية. وانتهت حياته على الأرض عندما مات على صليب خشبي نصب له خارج أسوار مدينة القدس. لكن المسيح لم يبق تحت سلطان الموت بل قام في اليوم الثالث من بين الأموات وظهر لأتباعه الأوفياء ودعا البعض منهم للذهاب إلى سائر أنحاء المعمورة للمناداة بخبر الله المفرح: أي بالإنجيل الخلاصي.
وكان أحد رسل المسيح بولس الذي اؤتمن على الدعوة المسيحية في سائر أنحاء العالم المتوسّطيّ. وبعد أن نادى بالإنجيل في بلاد عديدة تكللّت جهوده بالنجاح فتأسست كنائس مسيحية في مدن عديدة. وكان من عاداته أن يوجّه رسائل خاصة إلى جماعات الإيمان هذه لتفسير الإنجيل وتطبيقه في معترك الحياة اليومية. ومن هذه الرسائل التي كتبها بولس كانت رسالته إلى جماعة الإيمان في أفسس. كانت هذه المدينة من أكبر مدن آسيا الصغرى في القرن الأول الميلادي. يحثّ الرسول سائر المؤمنين والمؤمنات بأن يترجموا خلاصهم إلى حياة متجانسة ومتلائمة مع الإيمان بالمخلّص يسوع المسيح.
كتب الرسول قائلاً: فأقول هذا وأناشدكم في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك الأمم أيضاً ببطل أذهانكم. إذ قد أظلم فكرهم وتغرّبوا عن حياة الله من أجل الجهل الذي فيهم بسبب قساوة قلوبهم.
كانت كلمات الرسول هذه مهمة للغاية لأن الخالصين في مدينة أفسس ظلوا يعيشون ضمن مجتمعهم الوثني. لم يطلب الرسول منهم بأن يعتزلوا الحياة الاجتماعية ولا أن يتنسّكوا. لكنه كان من واجبهم بألا يسلكوا كما كان يسلك الأمم وهذه العبارة كانت تشير إلى عابدي الأوثان. كان معتقد الخالصين متمركزاً في المسيح يسوع ولذلك كانوا يعرفون في سائر أنحاء العالم المتوسّطي بمسيحيين. وحثّهم الرسول بألا يعيشوا على طراز أهل الأمم. ليس المؤمن كالمتعبّد للأصنام الذي أظلم فكره والذي يعيش حياة متغرّبة عن حياة الله والذي صار قلبه قاسياً وغير قادر على العيش كما يتطلب منه كمخلوق عاقل. واستطرد الرسول متكلّماً عن التفسّخ الأخلاقي الذي كان متفشّياً في حياة عابدي الأوثان في أفسس:
وقد فقدوا الحس وأسلموا نفوسهم للدعارة لارتكاب كل نجاسة في نهم.
ولا تقتصر هذه الكلمات على وصف هؤلاء الذين عاشوا قبل نحو ألفي سنة من أيامنا فحسب, بل أن الكثيرين من الناس الذين وقعوا فريسة الإلحاد المعاصر والذين لم يعودوا يعترفون بمطاليب شريعة الله يظهرون فقدانهم للحس الإنساني وهم يتفنّنون في ارتكاب الخطايا الجنسية بنهم وشراسة. حضارة الأيام الأخيرة من القرن العشرين صارت منغمسة في الدعارة وارتكاب المحرّمات وكأن الله لم يعد موجوداً وكان الإنسان لا يحصد ما يزرعه من شرور وآثام!
وبعكس الطراز الحياتي الذي يحياه عبّاد الأوثان, كان من واجب المؤمنين والمؤمنات بالمسيح المخلّص أن يعيشوا حياة جديدة مظهرين في كل يوم بل وفي كل ساعة من حياتهم الإنسان الجديد الذي جاء إلى حيّز الوجود عندما اختبروا الخلاص والانعتاق من الخطية. قال الرسول بهذا الصدد:
وأما أنتم, كما أن الحق هو في يسوع, فلم تتعلّموا المسيح هكذا إن كنتم قد سمعتموه وتعلّمتم فيه, أي أن تنـزعوا عنكم المتّصل بتصرّفكم السابق, الإنسان العتيق الفاسد بشهوات الغرور, وأن تتجدّدوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق على مثال الله في البرّ وقداسة الحقّ.
ليس الإيمان الخلاصي, حسب تعليم الرسول بولس مجرّد معتقد ذهني يقر به الإنسان. الإيمان هو الاتكال التام على المسيح المخلّص واختبار خلاص واقعي ليس هو أقل من لبس إنسان جديد أو متجدّد, مخلوق على مثال الله في البرّ وقداسة الحق.
ولم يكتف بولس بالكلام عن موضوعنا هذا بصورة مبدئية بل انتقل إلى التفاصيل التي تظهر لنا أهمية العيش بكل تجانس مع المشيئة الإلهية. وقد لخّصت لنا في وصايا الله العشر التي أعطاها لعبده وكليمه موسى على جبل سيناء. وقد انتقى الرسول من بعض هذه الوصايا وأشار إلى أهمية الابتعاد عن كسرها في علاقات المؤمنين والمؤمنات ضمن جسد الكنيسة وكذلك في المجتمع البشري الأوسع فقال:
فانـزعوا عنكم إذن الكذب, وتكلّموا كل واحد مع قريبه بالصدق, لأننا أعضاء بعضنا لبعض. اغضبوا ولا تخطئوا! لا تغرب الشمس على غيظكم ولا تعطوا إبليس مكاناً. لا يسرق السارق فيما بعدو بل بالحري ليكدّ عاملاً بيديه ما هو صالح ليكون له ما يعطي من هو في حاجة. لا تخرج من أفواهكم كلمة شريرة بل ما هو صالح للبنيان حسب الحاجة كي يعطي السامعين نعمة.
نتعلّم من هذه الكلمات الرسولية بأن المؤمن هو بحاجة ماسة إلى هذه الكلمات التي تحثّ كل خالص وخالصة بألا يهملا تطبيق الإيمان في معترك الحياة اليومية. ومع أن الكمال في هذه الدنيا مستحيل إلا أن هذا لا يعني أن المؤمن بالمسيح المخلّص يعود إلى حياته القديمة. ليس الإيمان بمجرّد موضوع عقلّي بحت. الإيمان الذي لا تظهر ثماره الجيدة في حياة متلائمة مع المعتقد الصحيح, هكذا إيمان هو زائف لا قيمة له.
وهكذا يجدر بالمؤمن أن يبتعد عن الكذب ولا يتكلم إلا بالصدق لأن منبع الكذب هو الشيطان, فلما الإقتداء بعدو الله والإنسان؟ وإذا اضطر المؤمن بأن يغضب نظراً لما يشاهده من أمور متناقضة مع شرائع الله, لا يجوز له أن يسترسل في حالة الغضب. فمن سمح للغضب بأن يسيطر عليه يقع في نهاية المطاف في فخ إبليس.
وكذلك يجدر بمن كان رسولاً ويعمد للسرقة لكسب حاجاته اليومية بأن يرعوي عن غيّه ويعلم بأن الله يسرّ بمن يكسب معيشته بعمل يديه. على كل إنسان أن يكدّ ويتعب في عمله ليكون قادراً على مساعدة الفقراء والمحتاجين والمتضررين والمهجّرين.
وهناك أيضاً الخطايا التي تصدر عن فم الإنسان. من كان مؤمناً بالمسيح لا يسمح لأيّ كلام شرير بأن يخرج من فمه بل يستعمل هبة الكلام لتسبيح الله وتمجيده ولبنيان أقرانه بني البشر في الإيمان القويم.
ولم يكتف بولس بالكلام عن تكييف الحياة بمقتضى وصايا الله التي تنظّم الحياة الاجتماعية بل لفت نظر المؤمنين والمؤمنات إلى أنهم وقد آمنوا بالمسيح يسوع صاروا يعيشون في علاقة حميمة مع روح الله القدوس. فمسيرتهم الحياتية تعني السير يومياً في شركة مقدّسة مع روح الله القدوس الذي يضمن سلامتهم الزمنية إلى ذلك اليوم العظيم, يوم عودة المسيح إلى العالم واختبار اكتمال الخلاص في حياتهم. قال الرسول عن هذا الموضوع:
ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي ختمتم به ليوم الفداء.
يحيا المؤمن في شركة مقدّسة مع روح الله القدّوس وهذا يعني أنه حالما يخطو خارج النطاق الذي رسمه له روح الله فإنه لا يكون قد أخطأ ضد شريعة الله فقط بل يكون قد أحزن الروح القدس. هناك إذن علاقة شخصية حيوية بين المؤمن وروح الله. وبناء على هذا الأمر الواقع اختتم الرسول بولس هذا القسم من رسالته قائلاً:
لينـزع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصخب وتجديف مع كل خبث, وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض, شفوقين, متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح.
خلاصة القول: من آمن بالمسيح صار إنساناً جديداً وأضحى عائشاً في حضرة الله في جميع أمور وأحوال حياته. الفرق شاسع بين حياته السابقة التي كانت معاشة في الظلام وحياته الجديدة التي هي نور الله وتحت قيادة روحه القدوس, آمين.
- عدد الزيارات: 6351