المسيح يسوع: حجر الزاوية
لقد ذكرت في أكثر من مناسبة أن الإنسان المعاصر صار يهتم بالعديد من القضايا التي يجابهها في معترك الحياة ولكنه أصبح ميالاً إلى إهمال علاقته بالله. طابع الفلسفة المعاصرة هو الحادي ولا ديني. والإيديولوجية المنبعثة منها تؤكد أن البحث في موضوع الله وعلاقته بالإنسان دليل على الرجعية.
ولكننا مهما حاولنا بأن ننسى أمور الله وعلاقته بالإنسان فإننا لا ننجح لأن الحياة البشرية لا تنمو كما يجب إلا ضمن إطار يكون فيه الله صانعاً ومسيّراً لذلك الإطار. ويمكننا الإشارة إلى أن أهل القرن العشرين اختبروا في أكثرية عقوده طغيان الفلسفات المادية والإلحادية. وما إن طلع علينا عقد التسعينات حتى أخذ العديدون من الناس والذين كانوا أسرى لهكذا معتقدات, أخذوا ينظرون بكل جدّية إلى أهمية المعتقد الديني وإلى كيفية تنظيم الحياة بشكل لا تكون فيه المادة الكل في الكل.
وعلينا أن نذكر بأننا فيما لو تركنا على شأننا كبشر ضعفاء وذوي مقدرات محدودة لما استطعنا بأن ننقذ أنفسنا بأنفسنا. وكم نشكر الله لأنه لم يترك البشرية لتتيه في مجاهل الظلام بل شاء بأن يكشف لنا عن ذاته وعن برنامجه الإنقاذي منذ فجر التاريخ. وفي الوقت المعيّن من قبل الله أرسل المسيح إلى عالمنا لينقذ تدبيراً خلاصياً جبّاراً لمصلحة البشرية المعذّبة. وبعد أن تمّ ذلك في الأرض المقدّسة, أي بعد أن مات المسيح على الصليب وقام من بين الأموات في اليوم الثالث, أرسل رسله الأوفياء للمناداة في سائر أنحاء العالم المتوسّطي بالأخبار السارة. هناك خلاص لبني البشر وعليهم قبول هذا الخلاص المقدّم مجاناً من قبل المنادين به.
وهكذا اندفع رسل المسيح يبشرون بالإنجيل ويؤسسون جماعات الإيمان في بقاع مختلفة من عالم المتوسّط والذي كان خاضعاً آنئذ للإمبراطورية الرومانية. وجاء أحد رسل المسيح والمدعو باسم بولس جاء إلى إقليم آسيا الصغرى ونادى بإنجيل المسيح الخلاصي في مدينة أفسس التي كانت وسطاً تجارياً ودينياً هاماً.
علّمنا الرسول في فاتحة رسالته أن الله حسب رحمته اللامتناهية اختار أو اصطفى المؤمنين والمؤمنات في المسيح قبل إنشاء العالم. وأفهمنا الرسول بأن خلاص الناس يتمّ بواسطة الإيمان. أعمال الإنسان لا تكوّن الأساس الذي يبنى عليه قبوله لدى الله. واستطرد الرسول معلماً أهل أفسس بأنه من واجبهم أن يتذكروا ظلام حالتهم لكي يطفح شكرهم لله لإنقاذهم من وهدة الهلاك وليسلكوا كما يليق بهم كأهل بيت الله. كتب بولس في القسم الثاني من الفصل الثاني:
لذلك اذكروا (أنتم الذين كنتم قبلاً أمماً حسب الجسد, مدعوّين غلفاً ممّن يدعون ختاناً يصنع باليد في الجسد) أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح, أجنبيين عن رعويّة إسرائيل وغرباء عن عهود الموعد, لا رجاء لكم, وبدون إله في العالم.
كان من المهم جداً لأهل الإيمان في أفسس بأن يقفوا على تشخيص واقعي لحالتهم السابقة أي قبل اهتدائهم إلى نور الإنجيل. لم يكفهم أن يعلموا بأنهم كانوا من عابدي الأوثان ثم انتقلوا إلى عبادة الله الواحد الحقيقي. ذكر الرسول أولاً أنهم كانوا بدون مسيح أي بدون مخلّص, وكذلك بعيدين عن جماعة الإيمان كما كان الله قد أسسها في أيام إبراهيم الخليل والتي كانت في أيام ما قبل الميلاد منحصرة في أبناء إبراهيم من اسحق ويعقوب. ولم تعنِ كلمات الرسول هذه بأنهم كانوا من غير نسل إبراهيم من الناحية العنصرية أو الاثنيّة, هذا أمر بديهي. ما عناه الرسول هو أنهم لم يكونوا يستفيدون من عهود الموعد الذي كان الله قد أعطاه لعبده إبراهيم عن المسيح المخلّص الذي تتبارك به جميع أمم الأرض. وبما أنهم كانوا جاهلين لهذه الأمور ونظراً لتعبّدهم لآلهة وهمية, كانوا عائشين بدون رجاء في هذه الدنيا نظراً لجهلهم لله الواحد الحقيقي.
ولم تنحصر غاية الرسول بالكلام عن حالة أهل أفسس الماضية بل تكلّم عن نوعية الخلاص العظيم الذي نالوه نظراً لمحبة الله لهم ولنعمته الفعّالة.
أما الآن ففي المسيح يسوع, أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين, قد صرتم قريبين بدم المسيح, لأنه هو سلامنا الذي جعل الفريقين واحداً ونقض حائط الحاجز المتوسّط, أي العداوة, إذ أبطل بجسده ناموس الوصايا المتضمّنة في فرائض لكي يخلق في نفسه من الاثنين إنساناً واحداً جديداً ويصنع بذلك سلاماً, ولكي يصالحهما كليهما مع الله في جسد واحد بالصليب الذي به قتل العداوة.
إن خلفية هذه الكلمات الرسولية تشير إلى الفصل التام الذي صار في أيام ما قبل الميلاد بين اليهود وغير اليهود والذين يعرفون في تلك الأيام بالأمم. إيمان اليهود ونمط حياتهم جعلهم مختلفين كل الاختلاف عن بقية الناس والذين كانوا من عابدي الأوثان. ولكن جماعة الإيمان في أفسس والتي كانت متكوّنة من يهود وأمم مهتدين إلى المسيح, صارت إنساناً واحداً جديداً. فنقض حائط الحاجز المتوسّط, أي العداوة, إذ أبطل بجسده ناموس الوصايا المتضمّنة في فرائض. فلقد كانت الفرائض العديدة المسيّرة لحياة اليهود تفصلهم فصلاً تاماً عن الآخرين. وعلى أي أساس تمّ ذلك؟ على أساس دم المسيح أي دمه الزكي الذي سفك على الصليب. فأساس الصلح, الصلح مع الله والصلح بين من كانوا أعداء, هو الصليب, أي موت المسيح الكفّاري على الصليب.
تمّ صلب المسيح من الناحية التاريخية قبل بضعة سنين من تأسيس جماعة الإيمان في أفسس. لم يكن مؤمنو تلك المدينة شهود عيان لحادثة الصليب. كيف يستفيد الناس من الصليب؟ يستفيدون من صلب المسيح عندما يؤمنون بغاية تلك الحادثة الفريدة بعد وصول خبرها المفرح إلى مسامعهم. كتب عن هذا الموضوع الرسول بولس في نهاية الفصل الثاني من الرسالة قائلاً:
فلقد جاء وبشّركم بالسلام, أنتم البعيدين وبالسلام أيضاً للقريبين, لأن به لكلينا اقتراباً من الآب بروح واحد. فلستم إذن بعد غرباء أو نـزلاء, بل أنتم مواطنون مع القدّيسين ومن أهل بيت الله. وقد بنيتم على أساس الرسل والأنبياء, والمسيح يسوع نفسه حجر الزاوية, الذي فيه ينسّق كل البناء معاً فيرتفع هيكلاً مقدّساً في الرب. وفيه أنتم أيضاً مبنيّون معاً مسكناً لله في الروح.
كان الله قد اصطفى المؤمنين والمؤمنات في المسيح قبل إنشاء العالم, فجاء المسيح لتنفيذ برنامج الله الخلاصي. عيّن الله المناداة بالإنجيل كالواسطة التي يصبح بها الخلاص أمراً واقعاً في حياة الناس. وبعبارة أخرى لم يكن أهل أفسس ليختبروا الخلاص لو لم يأت إليهم الرسول منادياً بخبر الإنجيل. أهمية المناداة بالإنجيل ظاهرة بكل وضوح في كلمات الرسول, المناداة لازمة لمن كانوا بعيدين أي لعابدي الأصنام وللذين كانوا قريبين أي لبني إسرائيل. الجميع بحاجة إلى الإنجيل لأن الجميع خطاة وأثمة ولأن الإنجيل هو قوة الله لخلاص كل من يؤمن, بغض النظر عن أصله أو فصله. لكن أساس الخلاص هو المسيح يسوع الذي دعاه الرسول بحجر الزاوية في صرح أو هيكل الإيمان. وبينما كان الله يتطلّب في أيام ما قبل الميلاد العبادة في هيكل القدس الذي بني في أيام سليمان الحكيم, صار هيكل الله في المرحلة الحالية من التاريخ مكوّناً لا من خشب وحجر بل من مؤمنين ومؤمنات بالمسيح المخلّص.
بنى الرسول بولس الحياة الجديدة على هذا الأساس العقائدي. لقد انتشل الله المؤمنين والمؤمنات من الموت الروحي بواسطة الروح القدس وبناء على العمل الخلاصي الذي أتمّه المسيح يسوع بموته على الصليب. فأصبح المؤمنون وهم من مختلف الأجناس والأقوام جسداً واحداً وهيكلاً مقدساً.
وخلاصة القول: لم يعد الناس نـزلاء أو غرباء في بيت الله, حالما يؤمنون بالمسيح المخلّص الذي هو حجر الزاوية في هيكل الله المقدّس, يصيرون مواطنين مع القدّيسين ومن أهل بيت الله. هذا امتياز عظيم وهو هبة مجانية من الله. وبما أنه لكل امتياز واجب وعلى كل من استلمه مسؤولية, حثّ بولس الرسول أتباع المسيح ليس فقط في أفسس بل في كل مكان وزمان, على العيش بطريقة متجانسة مع كونهم مواطنين في ملكوت الله. وكان لا بد لهم بأن يتذكروا ما كانت عليه حالتهم الروحية السابقة لتنبع من باطنهم آيات الشكر والحمد لله الذي أنقذهم من الضلال وجعلهم من أهل بيته!
- عدد الزيارات: 4723