بالنعمة مخلّصون
لقد تكاثرت المشاكل التي تحيق بالإنسان المعاصر وتضاربت الوصفات التي تنادي بحلول جذرية ونافعة.
يقول البعض أن مشكلة الإنسان الأساسية هي في حقل الاقتصاد. لو أعطي الجميع حقهّم من القوت والكساء والإسكان, لاصطلحت أحوال الدنيا. ومع أهمية هذه الأمور المعيشية إلا أن الإنسان لا يحيا على مستوى ماديّ بحت. وقد اختبرنا في بداية التسعينات انكفاء هكذا تصوّرات غير واقعية للحياة البشرية ومطالبة العديدين من أقراننا بني البشر بنظم حياتية تعلو على المادية.
ويذهب آخرون إلى القول بأن مشكلة البشرية تكمن في انعدام الوئام بين الناس وأنه صار بمقدور العلم أن يساعدنا على تخطّي هذه العقبات فيما إذا ما طبّقناه على حياتنا الفردية والاجتماعية. وهكذا يميل البعض إلى النظر إلى مشاكل البشرية وكأنها في صلبها مشاكل نفسية تحل بواسطة السيكولوجيا أي علم النفس. وحضارة العصر ومفرداته تشير بشكل كبير إلى الدور الهام الذي يلعبه علماء النفس والأطباء النفسانيون في حياة الملايين من بني البشر. ومع أننا لا ننكر قيمة هذا العلم أو تطبيقه في حقل الطب إلا أننا لم نلاحظ زوال المشاكل البشرية وخاصة في تلك المجتمعات التي تعرف كمجتمعات متقدمّة. على العكس لقد تزايدت المشاكل الحياتية في هذه الأجواء إلى درجة لم تعرف في الأيام السالفة.
ويميل العديدون في أيامنا إلى الإشارة بأن أكبر المشاكل التي تجابهنا هي في البيئة. فلقد تلوّثت الطبيعة بأسرها في جميع أنحاء الكرة الأرضية بما في ذلك الهواء والموارد المائية والتربة. زد على ذلك بلوغ عدد سكان أرضنا في نهاية القرن إلى ستة بلايين أو ستة مليارات نسمة. أين سنجد الموارد لإطعام وإسكان وتعليم الناس؟
ومع أهمية المواضيع التي أتينا على ذكرها, إلا أننا , فيما إذا ما بنينا تفكيرنا على كلمة الله المحرّرة, لا بد لنا من القول أنّ مشكلة المشاكل تكمن في قلب الإنسان. ولا يعود هذا إلى نقص أو خلل في تكوينه بل لأن الإنسان ثار على الله في فجر التاريخ فسقط في حمأة الخطية والشر. وهكذا أضحت جميع أقنية الحياة البشرية متأثرة بحادثة السقوط ونتائجها الوخيمة. هذا هو التعليم الهام الذي نستقيه من الفصل الثاني من رسالة بولس الرسول إلى جماعة الإيمان في أفسس.
وكنا قد وقفنا في فصلينا السابقين على أن الله القدير اختار المؤمنين والمؤمنات في المسيح قبل إنشاء العالم. وهكذا أراد الرسول من أهل الإيمان أن يعلموا أن موضوع انتقالهم من سلطان إبليس إلى ملكوت الله كان من الله. وبعد أن أفهمهم الرسول بأن مستقبلهم سيكون باهراً للغاية بعد عودة المسيح إلى الأرض وظهور ملء ومجد ملكوت الله, انتقل للكلام عن نوعية الخلاص العظيم الذي اختبره المؤمنون:
ولقد كنتم أنتم أمواتاً بذنوبكم وخطاياكم التي سلكتم فيها قبلاً, مسلك دهر هذا العالم, بحسب رئيس سلطان الهواء, الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية. ونحن أيضاً جميعاً قد سلكنا من قبل بينهم في شهوات جسدنا عاملين رغبات الجسد والأفكار, وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالآخرين أيضاً.
نتعلم من هذه الكلمات الرسولية بأن حالة الإنسان الروحية والأخلاقية هي مظلمة للغاية ويمكن تلخيصها بكلمة ولحدة: الموت. هذا التشخيص الواقعي لحالة الإنسان يختلف جذرياً عن الآراء والنظريات التي يدين بها العديدون من الناس. يذهب البعض إلى النظر إلى الإنسان وكأنه كائن حيادي قادر من تلقاء ذاته أن يعمل الخير أو الشرّ. ويظن آخرون أنه مع وجود نـزعة ضمن الإنسان تدفعه للابتعاد عن الطريق المستقيم إلا أنه بمقدوره التغلّب عليها بقواه الخاصة. كل ما يلزمه هو أن يريد الشيء الصالح ويصممّ على تنفيذه فتنبع من حياته أعمال الخير والصلاح.
لم يقبل بولس هكذا تفاسير سطحية لطبيعة المشكلة البشرية بل أفهم الذين آمنوا بالمسيح واختبروا عمله الخلاصي المنعش في صميم حياتهم, بأنهم كانوا أمواتاً بذنوبهم وخطاياهم التي كانوا يسلكون فيها. تعني كلمات بولس بأن حالة الناس قبل اهتدائهم إلى نور المسيح محزنة للغاية ولم تكن مختلفة عن حالة الموت الروحي والأخلاقي. وظهرت حالتهم الخطيرة في طراز حياتهم المليء بالشرور والآثام. وكانوا يعيشون تحت سلطة الشيطان الذي دعاه الرسول برئيس سلطان الهواء, الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.
واستطرد الرسول قائلاً بأن الجميع من يهود وغير اليهود, كانوا تحت تأثير الخطية والعصيان.
ونحن أيضاً جميعاً قد سلكنا من قبل بينهم في شهوات جسدنا عاملين رغبات الجسد والأفكار, وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالآخرين أيضاً.
هذه الكلمات صريحة للغاية لم يستثن منها حتى نفسه ولو كان منذ صباه إنساناً غيوراً, متديناً ومتشدداً في ديانته. وكنا بالطبيعة أبناء الغضب, كالآخرين أيضاً. الجميع إذن هم أموات روحياً والجميع هم أبناء الغضب أي أنه نظراً لسلوكهم المعوج يجلبون على أنفسهم غضب الله. وكلمة جسد كما ترد في النص الكتابي لا تعني أن الجسد بعكس الروح هو الذي يخطئ لمجرد كونه جسداً. تعني الكلمة اليونانية المترجمة جسد الطبيعة البشرية الساقطة في الخطية والخاضعة لسلطان الشيطان.
وغاية الرسول وهو ينادي بكلمة الله هي أن يؤمن الناس بالمسيح المخلّص ليختبروا قوة الإنجيل التحريرية في قلوبهم. فهو لم يأت على ذكر موضوع طبيعة الإنسان الخاضعة للخطية وكأنها في حالة الموت الروحي إلا كتوطئة للمناداة بالخبر المفرح. ولذلك استطرد الرسول قائلاً:
ولكن الله الذي هو غني في الرحمة, من أجل محبّته الكثيرة التي أحبّنا بها, حتى حين كنا أمواتاً بالذنوب, أحياناً مع المسيح, (فبالنعمة أنتم مخلّصون) وأقامنا معه وأجلسنا معه في علياء السماوات في المسيح يسوع, ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف بنا, في المسيح يسوع.
كان على المؤمنين والمؤمنات أن يتأمّلوا في غنى رحمة الله وعظمة محبته لهم. فلقد خلّصهم الله حتى عندما كانوا أمواتاً بالذنوب. لم تكن حالتهم الروحية مرضيّة لله وهم لم يستحقوا رحمة الله. كانوا أمواتاً بالذنوب وسائرين على طريق معاد لطريق الله المستقيم وعائشين ضمن إطار فكري مصدره الشيطان. وبالرغم من بؤس حالتهم الروحية أحياهم الله مع المسيح. هذا الذي دفع بولس وغيره من المنادين برسالة المسيح بأن يدعوها إنجيلاً وهي كلمة يونانية تعني خبراً ساراً ومفرحاً. ولم يكتف الرسول بقوله أن الله أنقذ المؤمنين من الموت الروحي المريع بل أفهمهم أن هدف الله كان بأن يرفع المؤمنين والمؤمنات إلى درجة روحية سامية. فبعد أن أحيا الله المؤمنين مع المسيح أقامهم معه وأجلسهم معه في علياء السماوات. ما عناه الرسول هو أن هذه الأمور الباهرة التي يختبرها المؤمنون جزئياً في الدهر الحالي, سيختبرونها بشكل تام في اليوم الأخير.
وقد يقول قائل: إن كان تذوّقها بصورة تامة وكاملة موضوعاً مستقبلياً, فما منفعة هذا الخلاص للحياة الدنيا أي في هذه الحقبة من مسيرتنا الإيمانية؟ الجواب هو أن الله يتطلّب من المؤمنين أن يجنّدوا كل قواهم لترجمة إيمانهم في حياة مليئة بالأعمال الصالحة. وليذكروا أن كل شيء في حياتهم الجديدة إنما هو هبة من الله, كل شيء من ألفه إلى يائه هو منه تعالى اسمه.
فإنكم بالنعمة مخلّصون, بواسطة الإيمان, وهذا ليس منكم, بل هو عطيّة الله, وليس هو بالأعمال كي لا يفتخر أحد. فإننا نحن صنعه مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد أعدّها الله من قبل لكي نسلك فيها.
من البديهي أن المؤمن كما وصفه لنا الرسول في فاتحة الفصل الثاني من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس, أن المؤمن الذي كان ميتاً في الذنوب والخطايا, لم يكن بمقدوره أن يحيي نفسه. من كان مائتاً لهو بحاجة إلى قوة إلهية المصدر لكي يبعث حيّاً, إن كان ذلك جسدياً أو روحياً. ولئلا يخال المؤمن الذي اختبر خلاص الرب بأنه استحق ذلك أو أن حالته السابقة لم تكن شقيّة أو تعيسة للغاية, لم يتردّد الرسول بأن يذكر أكثر من مرة بأن المؤمن إنما يخلص بالنعمة. وكلمة نعمة كما ترد في الكتاب المقدس تشير إلى هبة الله التي لم يستحقّها أي بشري. الخلاص مبني على عمل يسوع المسيح الفدائي الذي تمّ على الصليب وهبة الخلاص هي من الله والواسطة هي الإيمان. وحتى الإيمان ليس من الإنسان ولا بواسطة الإنسان, بل هو عطية الله. أعمال الإنسان غير قادرة بأن تكسب له رضى الله وغفرانه لأنها ملوّثة بالخطية.
ولئلا يظن البعض بأن هكذا تعليم أي التشديد على الخلاص بالنعمة وبواسطة الإيمان قد يؤدي إلى الإهمال أو التقاعس, شدّد الرسول بولس على أن غاية الله في إنقاذ الإنسان هي أن تمتلئ حياة المؤمنين والمؤمنات بالأعمال الصالحة التي أعدّها الله من قبل لكي نسلك فيها.
أيها القارئ العزيز! هل قبلت التشخيص الكتابي لحالة الإنسان الشقية والدواء الإلهي لشفائها من دائها الوخيم؟ دعائي إلى الله القدير هو أن يمنّ عليك بهبة الإيمان لتختبر الحياة الجديدة في المسيح يسوع, آمين.
- عدد الزيارات: 3227