Skip to main content

صلاة رئيس الكهنة

الإنجيل حسب يوحنا 17

لقد قطعنا أشواطاً كبيرة في مضمار العلوم وأصبحنا على علم بأمور لم يحلم بها الآباء والأجداد. عالمنا اليوم مليء بالاكتشافات التي لا تعد ولا تحصى. مثلاً هناك التلسكوبات الإلكترونية التي تساعدنا على رؤية الفضاء الخارجي والنجوم العديدة التي لم تكن معروفة في أوائل القرن العشرين. وصار باستطاعة الإنسان أن يغزو سطح القمر ويجول في الفضاء الخارجي ويمضي أياماً عديدة في إحدى المركبات الفضائية الدائرة حول الأرض!

وعلاوة على تقدمنا في مضمار الفضاء والطيران بسرعة الصوت وما فوق تلك السرعة، فلقد أحرزنا انتصارات باهرة في علم الطب والذرة واكتشفنا عويلمات كثيرة لم تعرف في الماضي. وخلاصة القول إن الوجود معقد للغاية ومعرفتنا بكل ما فيه تتزايد باستمرار. وعندما نأتي إلى أمور الله القدير لا يجوز لنا الظن بأننا نستطيع الوقوف عليها كما نعمل في أمور العلوم الطبيعية. نحتاج إلى كشف الله عن ذاته أي إلى وحي إلهي المصدر لنصل إلى معرفة الله. وبالفعل لم يبق الله صامتاً بل تكلم مع بني البشر بواسطة أنبيائه ورسله. وفي الوقت المحدد من قبل الله أرسل المسيح المخلص إلى عالمنا وكشف بصورة تامة ونهائية عن ذاته. وقد حفظ لنا هذا الوحي في كتب أو أسفار العهد الجديد المعروفة باسم الإنجيل.

ولدى دراستنا لفاتحة الإنجيل حسب يوحنا لاحظنا هذا التعليم الجوهري عن أزلية كلمة الله الذي تجسد وصار إنساناً بولادته من العذراء مريم. علينا أن نأخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار عندما ندرس الفصل السابع عشر من الإنجيل. ولقد حفظت لنا فيه نص الصلاة الكهنوتية التي رفعها المسيح قبل موته الكفاري على الصليب. ابتدأ المسيح دعاءه قائلاً لله الآب:

يا أبتاه، قد أتت الساعة فمجِّد ابنك ليمجدك الابن إذ أعطيته السلطان على كل بشر ليعطي الحياة الأبدية لجميع من أعطيتهم له. وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي الوحيد ويسوع المسيح الذي أرسلته. أنا قد مجَّدتك على الأرض إذ أكملت العمل الذي أعطيتني لأعمله. فالآن أيها الآب مجّدني أنت عندك بالمجد الذي كان لي لديك قبل كون العالم.

علّمنا المسيح أن الله الآب أرسله إلى دنيانا للقيام بعمل خلاصي فريد وفعال. فقد وقع الإنسان في قبضة الشرير ولم يعد بمقدوره أن يرضي الله ولا أن يحيا بطريقة متجانسة مع شريعته المقدسة. صار الإنسان ميتاً من الناحية الروحية وأضحى بحاجة ماسة إلى الحياة الحقيقية والتي دعاها المسيح بالحياة الأبدية. وعرّفها قائلاً:

وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي الوحيد ويسوع المسيح الذي أرسلته.

انتقل المسيح في القسم الثاني من دعائه الكهنوتي إلى الصلاة من أجل تلاميذه الأوفياء. فهم إذ نالوا الحياة الأبدية كانوا سيتعرضون لاضطهادات شديدة. وكان الله سيحفظهم ولم يكن ذلك سيتم بطريقة آلية بل كان عليهم أن يلجأوا إليه بكل قواهم العقلية والروحية ويتكلوا على الروح القدس المعزي. تابع المسيح دعاءه قائلاً:

قد أعلنت اسمك للناس الذين أعطيتهم لي من العالم .... فمن أجلهم أنا أسأل، لا أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتهم لي، لأنهم لك .... ولست أنا بعد في العالم، وأما هم فإنهم في العالم وأنا آتي إليك. لقد أعطيتهم كلمتك وقد أبغضهم العالم لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير. إنهم ليسوا من العالم كما أني لست أنامن العالم. قدسهم في الحق، إن كلمتك هي الحق. كما أرسلتني إلى العالم، أرسلهم أنا أيضاً إلى العالم.

ذكرنا سابقاً أن كلمة عالم كما ترد في الكتاب المقدس وخاصة في الإنجيل حسب يوحنا، لها عدة معان. تعني كلمة عالم الكون أو الوجود أو الخليقة. وأحياناً أخرى تشير هذه الكلمة إلى البشرية بغض النظر عن حالتها الروحية أو الأخلاقية. وفي كثير من الأحيان (كما ترد مثلاً في صلاة المسيح الكهنوتية) تعني كلمة عالم البشرية الساقطة في حمأة الشر والخطية والمنظمة كضد لملكوت الله. وهكذا علينا أن نتأكد من معنى عالم كلما ترد في النص الكتابي. مثلاً قول المسيح: الناس الذين أعطيتهم لي من العالم يعني الناس الذين وهبهم الله الآب للمسيح من البشرية. وعندما قال المسيح: لا اسأل من أجل العالم كان يعني أن دعاءه لم يكن لأجل العالم المعادي لله بل من أجل تلاميذه الأوفياء. وعندما قال: ولست أنا بعد في العالم كان المسيح يشير إلى أنه كان مزمعاً على الانتقال من هذه الدنيا إلى السماء حيث يسكن الله بمجده وبهائه. وعندما ذكر اختلاف تلاميذه الجذري عن البشرية الغارقة في الشر قال: لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. وعندما أراد أن يفهم تلاميذه بأن اختلافهم عن العالم لم يعن الهرب أو الهروب من مسؤوليتهم تجاه البشرية الساقطة قال المسيح في دعائه: لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. وشدد المسيح على أهمية النضال في سبيل ملكوت الله والابتعاد عن أي لون من الانكماشية أو الانطوائية فقال: كما أرسلتني إلى العالم، أرسلهم أنا أيضاً إلى العالم.

وهذا الموضوع الذي ورد في صلاة المسيح هو من أهم المواضيع التي تجابه المؤمنين والمؤمنات في هذه الحياة. فمن ناحية، علينا ونحن نعيش في هذه الدنيا ألا نتهرب من مسؤولياتنا للجهاد في سبيل الله والعمل على نشر كلمته الخلاصية في شتى أنحاء المعمورة. لم يأمرنا المسيح بأن نلتجئ إلى الصوامع ونحيا حياة انعزالية بعيدة عن المجتمع البشري. وقد حدث بالفعل في الألفي سنة الماضية أن البعض من أتباع عمدوا إلى الابتعاد عن المجتمع ولكن ذلك لم يكن مبنياً على أمر رباني صدر عن المسيح يسوع أو أمر به رسله الأوفياء. لم يأمرنا الله بأن نبتعد عن عالمه بل أن نعمل فيه ونشهد بمحتويات كلمته المقدسة.

ومن ناحية أخرى علينا أن نقر بأن العديدين من الذين يقولون عن أنفسهم بأنهم من أتباع المسيح يعيشون على نمط حياتي لا يختلف كثيراً عن أسلوب أهل الدنيا الذين لا يؤمنون بالله ولا بمسيحه. ندعو هكذا أسلوب حياتي بالدنيوية أو الدهرية. طلب منا المسيح أن نحيا في العالم، أي أمرنا بألا نتهرب من مسؤولياتنا تجاه المجتمع البشري ولكنه حذرنا في نفس الوقت من خطر الوقوع في خطية الدنيوية والدهرية. يبقى المؤمن في العالم أي في هذه الدنيا وهو يعمل ويجتهد ويدرس ويبيع ويشتري وله مقتنيات كثيرة أو قليلة. لكن المؤمن لا يصبح من العالم أي من أهل الجيل الساقط في عبودية الشيطان ولا يحيا وكأن شريعة الله لم تعد سارية المفعول في أواخر القرن العشرين.

من منا يستطيع الصمود في وجه التجارب الهائلة المنهمرة علينا من كل ناحية؟ من منا يقدر أن يتجاهل المخاطر العديدة التي تحوق بنا؟ ما أكثر الذين واللواتي غرقوا في ملذات هذا العالم الفاني والذين يعيشون وكأنه لا إله ولا يوم حساب ولا نعيم ولا جحيم! وسط جو ملَّبد بالغيوم الروحية وفي ظلام روحي دامس تتخبط في دياجيره الملايين من أبناء البشرية التائهة نسمع كلمات المسيح هذه:

ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي لكلامهم، ليكونوا جميعهم واحداً. فكما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً فينا. حتى يؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن واحد، أنا فيهم وأنت فيَّ، ليكونوا مكمَّلين إلى واحد. حتى يعلم العالم أنك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني. أيها الآب، إني أريد أن الذين أعطيتني يكونون أيضاً معي حيث أكون أنا ليروا المجد الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم. أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك. وهؤلاء قد عرفوا أنك أنت أرسلتني. وقد عرَّفتهم اسمك وسأعرفهم به، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.

يا من استسلمت للمسيح يسوع وقبلته مخلِّصاً لنفسك، هل تؤمن من أعماق قلبك أن المسيح صلى من أجلك منذ نحو ألفي سنة وهو على وشك تتميم برنامجه الخلاصي؟ وإن كان المسيح قد صلى ولا يزال يصلي من أجلك ومن أجلي، فلما الخوف من المستقبل المجهول؟ اتكل على المسيح اتكالاً تاماً وعش في ظل محبته الفائقة لك.

ساعدنا الله القدير لكي لا نكتفي بسماع أو قراءة كلمته فقط بل لنعمل بها فنحيا حياة منتصرة ومثمرة ونحن منتظرين عودة المسيح إلى العالم لإظهار ملكوت الله بمجده وعظمته، آمين.

  • عدد الزيارات: 3673