التجرّد
ولذلك فكما ترى أن الإيمان بالضرورة يُنتج المحبة. وكل هذا جميل وبسيط فعلاً! أما عن التجرد- فلماذا جرد يوناثان نفسه؟ دعونا نسمع ما قاله العبراني الذي كان من العبرانيين لماذا فعل ذلك- وأظن أنه سيشرح لنا السبب عند يوناثان. ولقد اتخذتُ كليهما لأن كلاً منهما يمثل أفضل عبراني في وقته- وهو عبراني مقتدر- يوناثان عصره وشاول الطرسوسي الذي كان من أفضل الفريسيين المفتخرين ببرهم. وإذا رجعنا إلى فيلبي 3 وقرأنا ما كتبه بأمانة عن نفسه. يقول: "من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم"- هذا ما أمكن أن يقوله ذلك العبراني. دعونا نطرح سؤال يوناثان على بولس فلماذا تجرد بولس؟ الإجابة واضحة وبسيطة "لكن ما كان لي ربحاً فقد حسبته لأجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء. وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأُوجَد فيه وليس لي بري الذي من الناموس... بل البر الذي من الله بالإيمان" (في3: 7- 9).
إن هذا التجرد بالتأكيد جميل جداً وجذاب للغاية! فيسوع المحتقر الذي مات على الصليب لأجل الخطايا، يظهر لهذا العبراني الذي من العبرانيين وهذا الفريسي الذي من الفريسيين وبمجد يفوق لمعان الشمس يقول: "أنا يسوع الذي أنت تضطهده". فكم فعلت هذه الكلمات من تغيير! وبعد سنوات أمكن لبولس أن يكتب عن هذا المُمجّد الذي أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا، وليصبح برنا فإن الله أقامه من بين الأموات ذلك القدوس البار، وهو برنا الكامل والأبدي أمام الله وأمام الخليقة بأسرها (رو4: 25، 5: 18، 1كو1: 30، في3: 9و 10). نعم ويملأ النفس التي تعرفه سلام الله وقوة قيامته.
والآن علينا أن نرى أن كل ما يُعظّم شاول العبراني قد أسقطه من حسابه ليربح المسيح، ولذلك كم كان تجرده من ذاته شيء مبهج ليصبح المسيح هو الكل. هل قلبك مرتبط بالمسيح هكذا؟ وهل تجردت لأجله؟
وكما تجرد بولس من الكل، كذلك فعل يوناثان إذ خلع "الجبة التي عليه وأعطاها لداود مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته". وهكذا كان تقديره لداود المخلّص الملك! وعندما يخلع الأمير صاحب الرتبة العسكرية سيفه فهذا له مغزى هام ويا له من تجرد! إنه مكتوب عن الأربعة والعشرين شيخاً المكللين أنهم طرحوا أكاليلهم "أمام العرش قائلين أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة".
وهكذا يتميز المسيحي بهاتين العلامتين المباركتين كما نجدها في يوناثان، فهناك الإحساس بقيمة الفداء بدم يسوع الذي ارتبط القلب به بالمحبة، وكذلك الإحساس به كبرنا الذي أُقيم من الأموات، وهذا يجردنا من ثيابنا القديمة وهي البر الذاتي- نعم الخرق البالية والسيف والمِنطقة- الكل أو كل ما ينبع من الذات وبرها ومجهوداتها وحروبها ومسالكها- فالكل نتخلى عنه ليسوع وهو بر الله، وللمسيح المقام.
وبالتأكيد يا قارئي العزيز فإن لم يكن المسيح قد استُعلن لك كما استُعلن داود ليوناثان فإنه لا شيء يقنعك لكي تتخلى عن ثيابك القديمة، والجبة والسيف والمنطقة. وما لم تتيقن تماماً بأن ثيابك القديمة لا تؤهلك لحضرة الله، فإن العدو سيحاول أن يضع أمامك الأمل بأنك ستحارب بقوة وتسلك سلوكاً أفضل وسيكون ذلك إما بعمل قداسات وحفظ قوانين وطقوس وممارسات معينة- أي شيء يحاول به العدو أن يضعك بعيداً عن تجرد يوناثان فلا تعد ترى أنك لا شيء بالمرة وأن المسيح هو كل شيء.
ثم نتقدم خطوة في ذلك التاريخ المقدس (1صم: 19). وحيث تكون معرفة حقيقية للمسيح فإن المحبة لا تصبح مجرد عاطفة طارئة بل محبة ثابتة من نحو يسوع وازدياد في الإيمان بالعمل الذي أكمله. هذا الإيمان الذي يجب أن يُعترف به أمام الناس مهما تكلفنا الثمن. بالتأكيد نرى ذلك في بولس وفي كل أعضاء الكنيسة الأولى، ولذلك نرى في إصحاحنا هذا "أما يوناثان ابن شاول فسُرّ بداود جداً"."سُرّ جداً!" وتجب ملاحظة أن مملكة إسرائيل كانت تحت حكم بيت شاول خارجياً، لكن الله قد رفضه هو وبيته وقد مسح صموئيل داود، وكان الإيمان يراه الملك الممسوح والآتي. وهكذا بنفس الطريقة فإن الإيمان يعرف الآن من كلمة الله المكتوبة أن مجد هذا العالم مع ممالكه وإلهه جميعاً تحت الدينونة، وجميعها إلى الزوال عند مجيء ملك البر ورئيس السلام.
وفي ذلك الوقت كان في إسرائيل القلوب التي تُبغض، مثلما نراها الآن متجهة إلى المسيح وأتباعه الحقيقيين، والتي رأيناها في شاول من نحو داود والذين ارتبطوا به حقيقة. أيمكنك أن تنسى ذلك؟ فإنك ستجد عداوة العالم للمسيح وهو المحك الحقيقي لقلبك. وهكذا امتُحن يوناثان "وكلّم شاول يوناثان ابنه وجميع عبيده أن يقتلوا داود". ولكن ماذا فعل يوناثان المحب؟ أخبر داود، أليس هذا جميلاً؟. ولربما نفعل نحن كذلك. ألسنا نندهش كثيراً في بعض الأوقات أن نجد قلوباً تبغض يسوع لم نكن نتوقع منها ذلك؟ قد تُدعى لمقابلة بعض الأصدقاء، وقد يكونوا جميعهم معترفين بالمسيحية (وبالمناسبة فإن شاول كان معترفاً). ولكنك سرعان ما تجد أي موضوع أو أي شخص يدور حوله الكلام بحرية إلا ذلك الشخص المحبوب جداً إلى قلبك يسوع الذي تُسرّ به جداً. ولكنهم لا يحبون أن يسمعوك وأنت تقول عنه بأنه هو الملك المجيد الآتي. ليتك تفارق هؤلاء المرائين! اذهب أولاً وأخبر يسوع، ثم تحدث عن يسوع كما تكلّم يوناثان عن داود. وهل تعلم أنه بمجرد جلوسك معهم صامتاً فإنك على الأقل تنكر ربك أمام أولئك الذين يرحبون عملياً بباراباس ويقولون لك اذهب بعيداً مع المسيح.
"وتكلّم يوناثان عن داود حسناً مع شاول أبيه، وقال له لا يخطئ الملك إلى عبده داود لأنه لم يخطئ إليك، ولأن أعماله حسنة لك جداً. فإنه وضع نفسه بيده وقتل الفلسطيني، فصنع الرب خلاصاً عظيماً لجميع إسرائيل. أنت رأيت وفرحت. فلماذا تخطئ إلى دم بريء بقتل داود بلا سبب؟"
أليس هذا اعترافاً حسناً؟ ونجد بولس في ذات الاتجاه "فإننا نكرز لا بأنفسنا بل بالمسيح يسوع رباً". يقول يسوع: "لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين" (مر8: 38).
- عدد الزيارات: 4808